«داعش» يصعّد في الغرب نتيجة تراجعه في معاقله

مع تزايد عدد المقاتلين العائدين من سوريا والعراق

فرنسيتان تضعان أكاليل من الورود على ارواح ضحايا هجوم الدهس في نيس (أ.ف.ب)
فرنسيتان تضعان أكاليل من الورود على ارواح ضحايا هجوم الدهس في نيس (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يصعّد في الغرب نتيجة تراجعه في معاقله

فرنسيتان تضعان أكاليل من الورود على ارواح ضحايا هجوم الدهس في نيس (أ.ف.ب)
فرنسيتان تضعان أكاليل من الورود على ارواح ضحايا هجوم الدهس في نيس (أ.ف.ب)

أثارت «عملية نيس» في فرنسا التي صنِّفت «كعمل ذئب منفرد»، المخاوف في عالم الاستخبارات ليس فقط من الأفراد الذين يعملون بدوافع فردية، بل أيضًا من المنشقين عن تنظيم «داعش» المتطرف الذين يخططون للعودة إلى بلادهم، ويشكلون تهديدًا حقيقيًا للبلدان العربية والغربية على حد سواء. ففي ليلة 14 يوليو (تموز) الماضي عمد محمد الحويج بوهلال إلى دهس بشاحنة حشود في مدينة نيس الساحلية، متسببا في مقتل 84 شخصا وإصابة 200 آخرين، خلال احتفالات اليوم الوطني الفرنسي. وفي الوقت الذي تم تحديد هوية منفذ الاعتداء «كتونسي فرنسي»، وصفه وزير الداخلية برنار كازانوف بأنه «تبنى الفكر المتطرف بسرعة كبيرة»، يبقى الخطر الرئيسي الذي يواجه الدول الغربية والعربية متأتيا بشكل أساسي من جحافل المقاتلين الموجودين في سوريا والعراق، الذين يريدون العودة إلى ديارهم مع تقلص الأراضي التي تخضع لسيطرة «داعش» نتيجة الهجمات التي ينفذها الائتلاف بقيادة الولايات المتحدة.
وتزامنًا مع «عملية نيس» الدامية نشرت مجلة «داعش» الأسبوعية «النبأ» افتتاحية بعنوان «الصليبيون - أوهام في عصر الخلافة» تمت ترجمتها من قبل موقع «جهاديكا» Jihadica، حذّرت فيها من أن العالم تغير منذ «الإعلان عن عودة الخلافة»، وأن «الصليبيين وأتباعهم المرتدين واهمون إذا اعتقدوا أنهم سيتمكنون من القضاء على الدولة الإسلامية - حسب زعم المجلة - من خلال توسيع نطاق حملتهم العسكرية». علمًا أن فرنسا تشارك حاليًا في قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة ضد «داعش».
لقد أدّت الضغوط المتزايدة التي تضعها دول مثل فرنسا والولايات المتحدة أو بريطانيا على «داعش» إلى تفكك التنظيم الإرهابي في معقله، حتى أنه فقد حتى شهر مايو (أيار) الماضي أكثر من 45% من أراضيه في العراق و20% في سوريا. وبالتالي، تم طرد التنظيم من مناطق عراقية رئيسة مثل الفلوجة وقاعدة القيارة، وهو على وشك فقدان مدينة منبج السورية، شمال غربي معقله الأكبر مدينة الرقة. وفي أعقاب هجمات نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في العاصمة الفرنسية باريس التي أسفرت عن مقتل أكثر من 130 شخصا، شنت المقاتلات الفرنسية أكبر غاراتها في سوريا حتى الآن، مستهدفة معاقل التنظيم في الرقة.
وفي هذا الصدد، أشارت ترجمة «جهاديكا» «إلى إقرار داعش» بهذا الواقع المرير، مضيفة أن التنظيم «يمكن أن يتحول قريبا إلى مجرد (خلافة على ورق) تتحسر على أراضيها وقيادتها».
ولكن، كرد على هذا الواقع، تتعرض البلدان التي تقاتل «داعش» اليوم لتهديد كلاسيكي من مقاتلي التنظيم الإرهابي الذين يرغبون في أن يبتعدوا عن «خلافة الورق». ووفقًا لدراسة نشرت في مارس (آذار) الماضي من قبل مجموعة صوفان، يصل عدد المقاتلين الراديكاليين الذين ذهبوا للقتال في سوريا والعراق إلى نحو 30 ألف مقاتل. ويتحدر المقاتلون الأجانب من 86 بلدا على الأقل - علمًا أن واحدًا من أصل كل ستة بلدان لم يتمكن من تحديد عدد مواطنيه الذين ذهبوا للقتال. ومن بين الدول ذات الكثافة الأكبر بين المقاتلين نذكر تونس (6500 مقاتل) ودول أوروبا الغربية - باستثناء بريطانيا - (نحو 6000 مقاتل)، وروسيا (نحو 3 آلاف مقاتل)، والمملكة العربية السعودية (نحو 3 آلاف مقاتل) والأردن وتركيا (نحو ألفي مقاتل). أما بريطانيا فلقد تمكنت من تحديد ما يقدر بنحو 760 من أبنائها توجهوا إلى سوريا والعراق، وتشير بعض التقديرات إلى أن نصف هؤلاء عادوا إلى الأراضي البريطانية، في حين تم الإبلاغ أن أكثر من 50 منهم لقوا حتفهم. كذلك، وفقًا لمعلومات نشرتها مجلة «دير شبيغل» الألمانية فإن نحو 400 مقاتل ألماني تركوا سوريا والعراق وعادوا إلى ألمانيا. من جهة ثانية، بين القارات شكلت القارة الآسيوية المصدر الأضخم لتصدير المقاتلين إلى سوريا والعراق، مع أكثر من 14 ألف شخص يقدر أن يكونوا في منطقة الصراع.
يقول الباحث الدكتور رودجر شنهان، من معهد لوي الأسترالي للسياسة الدولية، في مقابلة مع «الشرق الأوسط» إنه من الصعب جدا تحديد أعداد المقاتلين العائدين إلى بلدانهم، مضيفًا: «مع ذلك، فإنه من بين البلدان التي تشهد تدفق أكبر عدد من المقاتلين العائدين هي فرنسا. ووفقًا لأرقام وزارة الداخلية الفرنسية، فإن نحو 1853 شخصا متورط في الشبكات الراديكالية في فرنسا، 900 منهم تقريبا ذهبوا للقتال إلى جانب التنظيمات المتطرفة مثل «داعش» أو «جبهة النصرة». ويتابع شنهان: «أما في المنطقة العربية فمن الصعب تحديد أي دولة تملك أكبر عدد من المقاتلين العائدين إلى ديارهم، ولكن قد تأتي المملكة العربية السعودية وتونس والأردن في المقدمة». في هذه الأثناء، قال مصدر راديكالي لبناني تحدث إلى «الشرق الأوسط» شرط التكتم على هويته: «إن الكثير من المقاتلين اللبنانيين الذين انشقوا عن (داعش) بسبب خلاف حول التفسير المتشدد للإسلام الذي يزعم التنظيم اعتناقه بقوا في تركيا أو ذهبوا إلى أوروبا كلاجئين. وكان قد ألقي القبض في العام الماضي على الكثير من المقاتلين الذين عادوا إلى لبنان، الأمر الذي قد يحول دون عودة بقية المقاتلين إلى ديارهم مفضلين التوجه إلى أوروبا بدلا من ذلك»، وفق المصدر.
وفي هذا الصدد تشير دراسة معهد صوفان إلى 20 إلى 30% كمعدل من المقاتلين الراديكاليين الذين قاتلوا في سوريا أو العراق قد عادوا إلى ديارهم. كذلك تشير معلومات حصلت عليها «دير شبيغل» إلى عدة أسباب تدفع المقاتلين إلى العودة، «ففي معظم الأحيان، ظهرت أسباب عائلية أو طبية، بينما بقيت بعض الأهداف الأخرى خطرة وسوداوية بشكل خاص». وكما وصفها بيروقراطيو «داعش»: بأنها «مهمة سرية قد تتطلب رجلا واحدا يمكن أن يكون ألمانيا إنما لم تحدد هويته بعد، (مهاراته: القتل)»، بحسب معلومات «دير شبيغل».
خلال الأشهر القليلة الماضية ارتبطت شبكات «داعش» بهجمات باريس في نوفمبر التي أسفرت عن مقتل 130 شخصا وبهجمات بروكسل في مارس التي ذهب ضحيتها 31 قتيلا و200 جريح. وكانت أجهزة الاستخبارات البلجيكية والفرنسية قد كشفت عقب الهجمات الدموية والتفجيرات شبكة واسعة من الخلايا المرتبطة الواحدة بالأخرى من خلال ماضي أعضائها الإجرامي أو دورهم في الحرب السورية. ومع تقلص أراضي سيطرة «داعش» في سوريا والعراق بات يفضل كثير من هؤلاء المقاتلين العودة إلى ديارهم محاولين استغلال نقاط ضعف أنظمة الاستخبارات الأوروبية. ولقد أظهرت هجمات باريس وبروكسل حقيقة هذا التهديد: إذ من الواضح أن السلطات التركية حذرت فرنسا وبلجيكا منذ سنة تقريبًا حول بعض المقاتلين المتورطين في هجمات باريس مثل إبراهيم وصلاح عبد السلام والانتحاري عمر مصطفى.
والآن تحاول السلطات الأوروبية ملاحقة المقاتلين الذين ذهبوا للقتال في سوريا والعراق. ذلك أن النيابة العامة الألمانية تتابع حاليا أكثر من 130 قضية مرتبطة بالحرب الأهلية في العراق وسوريا، مع 50 قضية إضافية أحيلت إلى المدعين العامين في البلاد. وعلى الرغم من أن هذه الأرقام لم سبق لها مثيل، فإنه يصعب على القضاء العثور على إثباتات قاطعة حول المخالفات التي ارتكبوها، وفق «دير شبيغل».
وفي الوقت الذي حاولت الأمم المتحدة وفقًا لشنهان، توحيد المقاربات التشريعية إزاء المقاتلين الأجانب العائدين، غير أنها لم تتخذ إجراءات إلا ضد ثلثهم تقريبا. ويتمثل النهج الرئيسي في هذه المقاربات التشريعية في توجيه الاتهامات ضد المنضمين إلى الجماعات المحظورة بينما يبقى من الصعب في الدول الغربية الحصول على أدلة دامغة لبدء المحاكمات. وللعلم، فإن بعض الدول سمحت بالتجريد من الجنسية لمزدوجي الجنسية، وإلغاء جوازات السفر قبل أو بعد السفر والتوقيف في المطارات. ومن هنا يعتبر شانهان أن التهديد الإرهابي مرتبط بمدى فعالية الأجهزة الاستخباراتية والرقابية بحيث يشير إلى أنه «كلما كانت التشريعات و/ أو القدرات الاستخبارية أضعف تضاعف التهديد الإرهابي».



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.