أثارت «عملية نيس» في فرنسا التي صنِّفت «كعمل ذئب منفرد»، المخاوف في عالم الاستخبارات ليس فقط من الأفراد الذين يعملون بدوافع فردية، بل أيضًا من المنشقين عن تنظيم «داعش» المتطرف الذين يخططون للعودة إلى بلادهم، ويشكلون تهديدًا حقيقيًا للبلدان العربية والغربية على حد سواء. ففي ليلة 14 يوليو (تموز) الماضي عمد محمد الحويج بوهلال إلى دهس بشاحنة حشود في مدينة نيس الساحلية، متسببا في مقتل 84 شخصا وإصابة 200 آخرين، خلال احتفالات اليوم الوطني الفرنسي. وفي الوقت الذي تم تحديد هوية منفذ الاعتداء «كتونسي فرنسي»، وصفه وزير الداخلية برنار كازانوف بأنه «تبنى الفكر المتطرف بسرعة كبيرة»، يبقى الخطر الرئيسي الذي يواجه الدول الغربية والعربية متأتيا بشكل أساسي من جحافل المقاتلين الموجودين في سوريا والعراق، الذين يريدون العودة إلى ديارهم مع تقلص الأراضي التي تخضع لسيطرة «داعش» نتيجة الهجمات التي ينفذها الائتلاف بقيادة الولايات المتحدة.
وتزامنًا مع «عملية نيس» الدامية نشرت مجلة «داعش» الأسبوعية «النبأ» افتتاحية بعنوان «الصليبيون - أوهام في عصر الخلافة» تمت ترجمتها من قبل موقع «جهاديكا» Jihadica، حذّرت فيها من أن العالم تغير منذ «الإعلان عن عودة الخلافة»، وأن «الصليبيين وأتباعهم المرتدين واهمون إذا اعتقدوا أنهم سيتمكنون من القضاء على الدولة الإسلامية - حسب زعم المجلة - من خلال توسيع نطاق حملتهم العسكرية». علمًا أن فرنسا تشارك حاليًا في قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة ضد «داعش».
لقد أدّت الضغوط المتزايدة التي تضعها دول مثل فرنسا والولايات المتحدة أو بريطانيا على «داعش» إلى تفكك التنظيم الإرهابي في معقله، حتى أنه فقد حتى شهر مايو (أيار) الماضي أكثر من 45% من أراضيه في العراق و20% في سوريا. وبالتالي، تم طرد التنظيم من مناطق عراقية رئيسة مثل الفلوجة وقاعدة القيارة، وهو على وشك فقدان مدينة منبج السورية، شمال غربي معقله الأكبر مدينة الرقة. وفي أعقاب هجمات نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في العاصمة الفرنسية باريس التي أسفرت عن مقتل أكثر من 130 شخصا، شنت المقاتلات الفرنسية أكبر غاراتها في سوريا حتى الآن، مستهدفة معاقل التنظيم في الرقة.
وفي هذا الصدد، أشارت ترجمة «جهاديكا» «إلى إقرار داعش» بهذا الواقع المرير، مضيفة أن التنظيم «يمكن أن يتحول قريبا إلى مجرد (خلافة على ورق) تتحسر على أراضيها وقيادتها».
ولكن، كرد على هذا الواقع، تتعرض البلدان التي تقاتل «داعش» اليوم لتهديد كلاسيكي من مقاتلي التنظيم الإرهابي الذين يرغبون في أن يبتعدوا عن «خلافة الورق». ووفقًا لدراسة نشرت في مارس (آذار) الماضي من قبل مجموعة صوفان، يصل عدد المقاتلين الراديكاليين الذين ذهبوا للقتال في سوريا والعراق إلى نحو 30 ألف مقاتل. ويتحدر المقاتلون الأجانب من 86 بلدا على الأقل - علمًا أن واحدًا من أصل كل ستة بلدان لم يتمكن من تحديد عدد مواطنيه الذين ذهبوا للقتال. ومن بين الدول ذات الكثافة الأكبر بين المقاتلين نذكر تونس (6500 مقاتل) ودول أوروبا الغربية - باستثناء بريطانيا - (نحو 6000 مقاتل)، وروسيا (نحو 3 آلاف مقاتل)، والمملكة العربية السعودية (نحو 3 آلاف مقاتل) والأردن وتركيا (نحو ألفي مقاتل). أما بريطانيا فلقد تمكنت من تحديد ما يقدر بنحو 760 من أبنائها توجهوا إلى سوريا والعراق، وتشير بعض التقديرات إلى أن نصف هؤلاء عادوا إلى الأراضي البريطانية، في حين تم الإبلاغ أن أكثر من 50 منهم لقوا حتفهم. كذلك، وفقًا لمعلومات نشرتها مجلة «دير شبيغل» الألمانية فإن نحو 400 مقاتل ألماني تركوا سوريا والعراق وعادوا إلى ألمانيا. من جهة ثانية، بين القارات شكلت القارة الآسيوية المصدر الأضخم لتصدير المقاتلين إلى سوريا والعراق، مع أكثر من 14 ألف شخص يقدر أن يكونوا في منطقة الصراع.
يقول الباحث الدكتور رودجر شنهان، من معهد لوي الأسترالي للسياسة الدولية، في مقابلة مع «الشرق الأوسط» إنه من الصعب جدا تحديد أعداد المقاتلين العائدين إلى بلدانهم، مضيفًا: «مع ذلك، فإنه من بين البلدان التي تشهد تدفق أكبر عدد من المقاتلين العائدين هي فرنسا. ووفقًا لأرقام وزارة الداخلية الفرنسية، فإن نحو 1853 شخصا متورط في الشبكات الراديكالية في فرنسا، 900 منهم تقريبا ذهبوا للقتال إلى جانب التنظيمات المتطرفة مثل «داعش» أو «جبهة النصرة». ويتابع شنهان: «أما في المنطقة العربية فمن الصعب تحديد أي دولة تملك أكبر عدد من المقاتلين العائدين إلى ديارهم، ولكن قد تأتي المملكة العربية السعودية وتونس والأردن في المقدمة». في هذه الأثناء، قال مصدر راديكالي لبناني تحدث إلى «الشرق الأوسط» شرط التكتم على هويته: «إن الكثير من المقاتلين اللبنانيين الذين انشقوا عن (داعش) بسبب خلاف حول التفسير المتشدد للإسلام الذي يزعم التنظيم اعتناقه بقوا في تركيا أو ذهبوا إلى أوروبا كلاجئين. وكان قد ألقي القبض في العام الماضي على الكثير من المقاتلين الذين عادوا إلى لبنان، الأمر الذي قد يحول دون عودة بقية المقاتلين إلى ديارهم مفضلين التوجه إلى أوروبا بدلا من ذلك»، وفق المصدر.
وفي هذا الصدد تشير دراسة معهد صوفان إلى 20 إلى 30% كمعدل من المقاتلين الراديكاليين الذين قاتلوا في سوريا أو العراق قد عادوا إلى ديارهم. كذلك تشير معلومات حصلت عليها «دير شبيغل» إلى عدة أسباب تدفع المقاتلين إلى العودة، «ففي معظم الأحيان، ظهرت أسباب عائلية أو طبية، بينما بقيت بعض الأهداف الأخرى خطرة وسوداوية بشكل خاص». وكما وصفها بيروقراطيو «داعش»: بأنها «مهمة سرية قد تتطلب رجلا واحدا يمكن أن يكون ألمانيا إنما لم تحدد هويته بعد، (مهاراته: القتل)»، بحسب معلومات «دير شبيغل».
خلال الأشهر القليلة الماضية ارتبطت شبكات «داعش» بهجمات باريس في نوفمبر التي أسفرت عن مقتل 130 شخصا وبهجمات بروكسل في مارس التي ذهب ضحيتها 31 قتيلا و200 جريح. وكانت أجهزة الاستخبارات البلجيكية والفرنسية قد كشفت عقب الهجمات الدموية والتفجيرات شبكة واسعة من الخلايا المرتبطة الواحدة بالأخرى من خلال ماضي أعضائها الإجرامي أو دورهم في الحرب السورية. ومع تقلص أراضي سيطرة «داعش» في سوريا والعراق بات يفضل كثير من هؤلاء المقاتلين العودة إلى ديارهم محاولين استغلال نقاط ضعف أنظمة الاستخبارات الأوروبية. ولقد أظهرت هجمات باريس وبروكسل حقيقة هذا التهديد: إذ من الواضح أن السلطات التركية حذرت فرنسا وبلجيكا منذ سنة تقريبًا حول بعض المقاتلين المتورطين في هجمات باريس مثل إبراهيم وصلاح عبد السلام والانتحاري عمر مصطفى.
والآن تحاول السلطات الأوروبية ملاحقة المقاتلين الذين ذهبوا للقتال في سوريا والعراق. ذلك أن النيابة العامة الألمانية تتابع حاليا أكثر من 130 قضية مرتبطة بالحرب الأهلية في العراق وسوريا، مع 50 قضية إضافية أحيلت إلى المدعين العامين في البلاد. وعلى الرغم من أن هذه الأرقام لم سبق لها مثيل، فإنه يصعب على القضاء العثور على إثباتات قاطعة حول المخالفات التي ارتكبوها، وفق «دير شبيغل».
وفي الوقت الذي حاولت الأمم المتحدة وفقًا لشنهان، توحيد المقاربات التشريعية إزاء المقاتلين الأجانب العائدين، غير أنها لم تتخذ إجراءات إلا ضد ثلثهم تقريبا. ويتمثل النهج الرئيسي في هذه المقاربات التشريعية في توجيه الاتهامات ضد المنضمين إلى الجماعات المحظورة بينما يبقى من الصعب في الدول الغربية الحصول على أدلة دامغة لبدء المحاكمات. وللعلم، فإن بعض الدول سمحت بالتجريد من الجنسية لمزدوجي الجنسية، وإلغاء جوازات السفر قبل أو بعد السفر والتوقيف في المطارات. ومن هنا يعتبر شانهان أن التهديد الإرهابي مرتبط بمدى فعالية الأجهزة الاستخباراتية والرقابية بحيث يشير إلى أنه «كلما كانت التشريعات و/ أو القدرات الاستخبارية أضعف تضاعف التهديد الإرهابي».
«داعش» يصعّد في الغرب نتيجة تراجعه في معاقله
مع تزايد عدد المقاتلين العائدين من سوريا والعراق
«داعش» يصعّد في الغرب نتيجة تراجعه في معاقله
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة