«قصة قصف معلن» في الحرب العراقية – الإيرانية

«قبل الحب... بعد الحب» للروائي محمود سعيد

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

«قصة قصف معلن» في الحرب العراقية – الإيرانية

غلاف الرواية
غلاف الرواية

* في رواية «قصة موت معلن» لماركيز، يشحن الأخوان بابلو وبيدرو فيكاريو سكاكينهما على الملأ، استعدادا لذبح سنتياغو نصار، انتصارا لشرف العائلة، ولكن لا أحد من الشهود يحذر الضحية من سكين الجزار. أما قصة القصف في رواية «قبل الحب... بعد الحب» فمعلنة، لكن الضحايا مجهولون، ثم إن الكثيرين حذروا الضحايا من سكين الجزار.

يشكر الشاب وصفي، التلميذ في المدرسة الثانوية، الحرب، ويشكر القصف الإيراني على البصرة، لأنهما أتاحا له أن يحيا أولى مغامراته العاطفية. وهذه المفارقة الاجتماعية - النفسية عن الحب والحرب، ليست المفارقة الوحيدة التي يسجلها محمود سعيد في روايته «قبل الحب... بعد الحب» عن المجتمع العراقي إبان التمشيط المدفعي المنظم والمتبادل للأحياء السكنية من قبل طرفي الحرب العبثية المذكورة. وربما سيجد الباحثون الاجتماعيون في رواية محمود سعيد عونا في دراسة أحوال المجتمع العراقي في ثمانينات القرن العشرين، لأنه يشرح بمبضعه، من خلال متابعة مصائر شخصياته، مثل أي جراح بارع، الوضع الاجتماعي والنفسي القائم آنذاك، ويكشف لنا كيف يجتمع شمل عنصري الرعب والعبث ليتلاعبا بمصائر ملايين العراقيين.
وتبدو رواية «قبل الحب... بعد الحب»، لصاحب «زنقة بن بركة»، أقرب إلى قصة «قصف معلن»، تجري أحداثها في أحد أحياء البصرة السكنية في العام الأخير من حرب الثماني سنوات، إذ يبقى القارئ بانتظار سقوط القذائف والصواريخ الإيرانية على الحي الذي تسكنه عائلة «أبو وصفي». بيد أن الكاتب، وبحبكة تشويق رائعة، لا يخط أسماء ضحاياه عليها إلا في نهاية الرواية، ويبقينا أسرى «الخوف والحب» حتى اللحظة الأخيرة.
يشعر القارئ، ومن خلال السرد التفصيلي الدقيق للأحداث، بأن محمود سعيد يروي لنا معايشته الشخصية للحدث، سواء من خلال الجندي الهارب الذي يساعده «أبو وصفي»، مجازفا بحياته وحياة عائلته، في النجاة من مطارديه، أو من خلال شخصيات الرواية التي يكاد القارئ يشعر بأنه قابل أمثالها في القصف على البصرة، أو في القصف على بيروت، أـو قابلها في ملجأ ما تحت الأرض في كابل. وتنطبق هذه الحال على الابن وصفي، وعلى طفل الجيران الفقير أمير، الذي تسكن عائلته الكوخ (الصريفة)، وعلى الضابط السكير الذي بلغ يأسه، بل ورعبه أيضا، مبلغ شتم النظام في الشارع على الملأ. هي شخصيات يجمعها الرعب من القصف، من الإعدام على أيدي النظام الحاكم، والخشية من مستقبل بلا مستقبل.
والقصف على الحي معلن، وهو حي مخصص لسكن الضباط، وهو ما يدفع معظم العائلات إلى الهروب من الحي باتجاه أحياء آمنة أخرى، أو إلى مدن أخرى، لكن بعض العوائل، ومنها عائلة أبو وصفي، تختار البقاء والاستسلام لمصيرها في حالة عبثية لا تنشأ إلا عندما يصادف الإنسان الموت في كل منعطف وتحت أي شجرة. تعجز عائلة أبو وصفي عن الرحيل بسب ديونها المتراكمة وانعدام القدرة على تمويل رحلة وبيت جديد، وتختار عائلة «أبو أمير» نقل الصريفة إلى غرب دار السيد جليل المهجورة بغية اتخاذها متراسا ضد القصف الإيراني القادم من الشرق. أما الضابط البعثي «أبو سحر»، الذي رسم سيناريو «القصف المعلن»، فيعلق حياة ابنته الشابة الجميلة سحر بمتانة الملجأ الكونكريتي الذي بناه بسمك متر تحت منزله.
في رواية «قصة موت معلن» لماركيز، يشحن الأخوان بابلو وبيدرو فيكاريو سكاكينهما على الملأ، استعدادا لذبح سنتياغو نصار، انتصارا لشرف العائلة، ولكن لا أحد من الشهود يحذر الضحية من سكين الجزار. وقصة القصف في رواية «قبل الحب... بعد الحب» معلنة، لكن ما يفرقها عن قصة ماركيز هو أن الضحايا مجهولون، ثم إن الكثيرين حذروا الضحايا من سكين الجزار. يزيت الإيرانيون مدافعهم بعيدة المدى، و«يشحذون» راجماتهم، انتقاما لقصف حي الضباط السكني الإيراني في الأهواز من قبل القوات العراقية. وهو القصف التحريضي الذي خطط له «أبو سحر» عربون «صموده» في الحي، رغم القصف المعلن، وهروب بقية الضباط، بهدف الحصول على وسام شرف وترقية عسكرية وحزبية. واختار «أبو سحر» يوم 6 يناير (كانون الثاني)، عيد تأسيس الجيش العراقي، لتحقيق هذه المنقبة، إذ كان «السيناريو» معروفا من قبل الجميع، في إيران والعراق، وحالما يقصف الطرف الأول حيا للمعلمين في الدولة المقابلة، يجيبه الطرف الثاني في اليوم التالي بقصف حي المعلمين المقابل. وهكذا دواليك، كان الطرفان يمشطان الأحياء السكنية في البلدين يوميا في حرب، تبث إذاعات الطرفين أهدافها مسبقا.
كان الضابط السكير «نايف»، بعينيه الحمراوين، أول من حذر أبو وصفي من القصف المقبل للحي الذي يسكنونه. تلاه بعد ذلك تحذير العميد أبو فراس، صديق أبو وصفي، ومن ثم جاء التحذير على لسان الطبيب العسكري الصديق «أبو ثامر» الذي تحدث عن «الدائرة الحمراء» التي رسمها أبو سحر حول موقع حي الضباط في الأهواز.
ونجد أن الشاب وصفي، وابن الجيران أمير، الطفل لامع الذكاء، تعايشا مع الحرب إلى حد أنهما صارا يتراهنان، من صوت صفير القذيفة، على تحديد نوعها وحجمها، ويتذاكيان بعضهما على بعض في القدرة على تحديد إحداثيات القصف وموقع سقوط القذيفة في البصرة. وإذا كان وصفي يحدد سقوط القنبلة قرب السوق في حي الجمهورية، فإن أمير يحدد مسار القذيفة مسبقا وهي تشق طريقها إلى أشلاء الناس في بهو البلدية بنفس الحي.
يلعب أمير دور «الوسيط» في قصة الحب التي تنشأ بين وصفي وسحر، وينقل، بكل طيبة خاطر، الرسائل المتبادلة بين الحبيبين مستغلا صغر سنه وعدم خشية «أبو سحر» منه على ابنته. وهي قصة حب تبدأ أساسا بسبب ولع وصفي بتحديد إحداثيات القذائف من فوق سطح بيتهم. إذ يترصد الشاب الفتاة يوميا، وهي «تسبح» في ضوء الشمس الشتوية، ويكتشف لاحقا أنها تعرف بذلك، بل وأنها رصدته أيضا رغم كل احتياطاته، وأنها تستجيب إلى مشاعره.
يتعمد محمود سعيد، وهو يشوقنا بقصة الحب الطفولية، والموعد الأول بين الحبيبين، الذي يرتبه أمير في دار السيد جليل الخالية، أن يجعلنا ننسى القصف الوشيك. ومع اقتراب لقاء الحبيبين، وارتفاع وتيرة الشوق واللهفة، ينسى أطراف قصة الحب الثلاثة القصف أيضا. بل تفاجئ القذيفة الأولى وصفي، العاشق الولهان، والخبير في إحداثيات القصف، فتسقط قربه دون أن يشعر بصفيرها أو يتمكن من تحديد هدفها. يصم الانفجار أذنيه، لكنه يخرج سليما منه، ولا يشغل باله لحظة ذاك غير مصير حبيبته سحر، وصديقه الصغير أمير، بعد أن استعاد توازنه، وقدر أن القذيفة الثانية تتجه إلى مكان اللقاء الأول الذي سبقه إليه أمير وسحر. وحسب وصفي، ثلاثون قذيفة سقطت في الحي شبه الفارغ من سكانه، لكنه عجز عن حساب عدد أشلاء أمير وأشلاء سحر التي جرفها الحب خارج ملجأ أبيها لحظة القصف.
وبين قصة القصف المعلن، والحب الخفي، يسرد لنا محمود سعيد جوانب أخرى من سيكولوجيا مجتمع الحرب من خلال قصة الشابة هناء، الحامل من حبيبها «جبوري» الذي وعدها بالزواج، ثم سقط شهيدا في الحرب. ثم يقص علينا ما لا يمكن للمرء تصور حدوثه في مجتمع بلا حرب، ولكن ما يمكن تصور حدوثه بالتأكيد في ظل القصف اليومي، والموت اليومي في مجتمع الحرب. يقرر وصفي وأصدقاؤه، وخلال أجواء الحرب والقصف اليومي، زيارة «حي الطرب» بالبصرة، وهو حي الغناء والفرفشة يقيمه الغجر في ضواحي مدينة البصرة. لكنهم يجدون الحي خاليا، لأن «القيادة السياسية» نقلت كل الراقصات إلى قصور أعضائها للتخفيف عنهم. هو الرعب من الموت حد العبث، يدفع الشبان إلى البحث عن المتعة بين أشلاء مجتمع الحرب، وهو نفس الرعب الذي يقض مضاجع القادة السياسيين، ويجمع شملهم داخل حالة رعب شمولية. ويصف الكاتب هنا منحى آخر اعتمده البصريون في أيام القصف اليومي، وهو قتل الرعب من الموت بالكحول. وربما يمثل العقيد السكير نايف، الذي بلغ مرحلة الاستخفاف بالموت، هذا المنحى في سيكولوجية المجتمع البصري خلال الحرب.
يجري إجهاض هناء في نفس ساعات القصف الذي قتل سحر وأمير، وسقطت القذائف في بيت السيد الجليل، الذي كان مسرحا لقصة الحب، والمخبأ المناسب للجندي الهارب الذي ساعده أبو وصفي على الاختفاء. وعندما التقيت محمود سعيد في كولون قبل فترة وجيزة قال إنه، في زيارته الأخيرة للبصرة، بحث عن الجندي المذكور، وعرف أين يعمل، لكن الجندي رفض استقباله والحديث إليه. علما بأن الانضباط العسكري، حسب الرواية، ألقى القبض على الجندي، وجرى تعذيبه بشكل بشع، لكنه لم يعترف باسم الشخص الذي ساعده على الاختفاء.
لم تختلف الحرب قبل الحب عنها بعد الحب، لكن أبرز ضحاياها كان الحب قبل كل شيء، ثم كان الطفولة والجيل الصاعد مجسدا بالعبقري الصغير أمير (12 سنة)، ومقتل الجميلة سحر أنظف ما في بيت الضابط اللئيم والحزبي البغيض «أبو سحر».
صدرت الرواية عن «دار المدى» بالقطع المتوسط وفي 211 صفحة. حمل الغلاف لوحة للفنان التشكيلي العراقي جبر علوان.



في كلّية الطب

في كلّية الطب
TT

في كلّية الطب

في كلّية الطب

باستثناء عبق الذكريات، لديّ القليل مما أفكر فيه الآن كي أصير مثلما تشاء نفسي، وإنني أتساءل أحياناً: بماذا تُفيدُني الذكريات، وأنا أرويها مثل حكاية مهدّئة للنفس؟ إننا نستدعي الأدب لإحياء ما فات من سنيننا، فاللغة ليست أداةً للتواصل فحسب، وإنما هي فضاء حيّ للتذكّر. سأحظى وفق هذا المفهوم بمتعةِ تخيّلِ لوحةٍ فيها رفاقي في أيام الدراسة، وأخشى أن يرسم اليراع أخيلةً بائسةً لا غير، إذا ما قُورنت بالحقيقة.

يقول صاحب المثل القديم: «بغداد أكبر من العالم». نحن في حيّ باب المعظّم، نسبة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، حيث يُناهزُ ارتفاع الأشجار علوّ صوتِ المؤذّن من الجوامع السبعة القريبة؛ جامع الأزبك والمُراديّة والأحمديّة والحِيدرخانة والسليمانيّة والسراي والعاقولي، وجميعها بُنيت عندما كانت بغداد ولاية عثمانيّة. على شاطئ نهر دجلة القريب قامت الكلّيّة التي حصلتُ فيها على شهادة الطبّ، وأسّسها الإنجليز الذين حكموا العراق عقب الحرب العالميّة الأولى، وكان أوّل عميد لها سندرسن باشا، طبيب العائلة المالكة في العراق، وهذا الكلام لا أقصد به التباهي ولا التأسّي، ولا منزلة بين منزلتين، وربما خلص قارئ المقال إلى فحوى لم تكن في البال، ووظيفة الأدب هي السير به في هذا القصد.

في مبنى الكليّة يُطالعُ الزائرُ أولاً سلّماً حلزونيّاً يرتفع برشاقة إلى هيكل شبه دائريّ، هي المكتبة التي تُشرفُ على حديقة حافلة بالورود. يا لجلالة من يجلس عند طاولة هناك، ويُذاكرُ علوم الطبّ! في ذلك اليوم البعيد مرّ بالمكان شيخٌ، وأشار إلى المبنى قائلاً:

- هذا من صُنعِ يدي.

كان الشيخ يقصد المشفى القريب من الكليّة لغرض العلاج، وزار المكان ربما ليتأكّد أن البناء سوف يظلّ حيّاً بعد موته. بعد أن دخلتُ المكتبة واسترحتُ، ومن النافذة القريبة ظلّت آثار خطوات الشيخ على الدرب ماثلة أمامي. لهذه الذكرى من القوّة أنّها تبدو الآن حقيقيّة، وأشاءُ أن أنتسبُ إلى البنّاء البغدادي هذا، في طريقي في العلم والأدب والمعيشة، والأهمّ من ذلك، سماع صوت الوطن في أيّ مكان أحلّ به. ثم تمضي خطوات الزائر إلى الكليّة في ساحات وأبنية وحدائق تناهز مساحتها ثلاثة كيلومترات مربّعة، وتبدو مثل قطعة حرير موشّاة بجواهر قديمة وجديدة. في تلك السنين كان هناك جوّ من النهوض العامّ في البلاد، فالرئيس الشابّ صدام حسين متحمّس لنقل البلد بخطوات واسعة إلى دولة متقدّمة ومزدهرة، وفي الوقت نفسه كانت الحرب العراقيّة الإيرانيّة تقرع الأبواب بقوّة، وكانت فاتحة لسلسلة من الحروب، وهذا ليس موضوعنا.

إذا أردتَ السؤال عن مستوى جامعة ما، عليك بفحص قاعة الدرس فيها، وكانت عبارة عن صرح فخم يشبه ما في أروقة الأمم المتحّدة، فيه جناحان يفصل بينهما مدرج عالٍ، الأيمن يضمّ طالبات وطلّاب العاصمة، والجانب الأيسر خُصّص للوافدين من المحافظات، والفروق بين شاغلي الجناحين عديدة، رغم أن المستوى المعيشيّ متساوٍ تقريباً، وهي الطبقة المتوسّطة العليا، أو دونها بقليل. يعود التباين بالدرجة الرئيسيّة إلى اختلاف البيئة في القرية عنها في المدينة، والتشدّد الديني لدى بعض العائلات الحضريّة. من هذه الفروق اختلاط الجنسين في الجانب الأيمن من القاعة، بينما انقسم الذكور والإناث في جهة اليسار بحدّ قاطع مثل شفرة السكّين، الطالبات في الصفوف الأماميّة فحسب، كأنهن يشغلن القسم الخاصّ بالحريم في البيوت الشرقيّة، كما أن الحجاب والجبّة الإسلاميّة هما اللباس السائد، وبألوان كامدة بين السواد والرمادي والبُنّي الغامق، كأن عتمة رماديّة حزينة تسود الجوّ في هذا الجانب، في الوقت الذي انشغلت طالبات القسم الأيمن بالأناقة والشياكة اللتين مصدرهما أسواق بغداد ذلك الزمان، وكانت تضاهي بيروت وباريس ولندن، والمشهد هنا يشبه غماماً سديميّاً يتخلله شعاع ذهبيّ، مصدره، بالإضافة إلى الثياب القشيبة، حديث الطالبات والطلّاب باللهجة البغداديّة الغنيّة بالتوافقات النغميّة الساحرة. الفتيات، بقمصانهنّ البيض، كأنهنّ أزهار بيضاء مزهرة، وبمناديلهنّ المعطّرة وابتساماتهنّ الرقيقة الرضيّة، يبدين مثل أيقونات سعيدة تُثبت للعالم بنورها وهدوئها أن الفعل «تبغدد» لا يزال حيّاً، رغم جور الزمان على مدينة بغداد. قُلْ هي حياة من نوع آخر كانت تسود هذا الجانب من الصرح الدراسي، وكنتُ موزّعاً في الحقيقة بين الجانبَين، لأني وُلدتُ في مدينة العمارة، وأسكن العاصمة، لكنّ قلبي كان يميل إلى جهة اليمين، فصار مقعدي الدائم، تقريباً، هناك.

حميَتْ بمرور سنين الدراسة ضراوة الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وكانت البلاد تسير بخطى ثابتة باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب، بما فيهم رفاقه وأصدقاؤه وأهل بيته، وكانت لنا، نحن الدارسين، حصّة منها، على نوعين في جانبي قاعة الدرس، عذابات مضيئة، وأخرى مُرّة. دار الزمان منذ ذلك التاريخ أربعة عقود عشناها بصورة شاقّة وصعبة، أخشى أنني لست في حاجة إلى أن أصفها بأنها صراع يستدعي قوّة وشجاعة هائلتين كي نجتاز أربع حروب كُبرى: حرب الخليج الأولى والثانية والغزو الأمريكي والحرب الأهليّة، وتفرّقنا شتاتاً في الأرض، ثم اجتمعنا ثانية في منصّتين على «الواتساب» من الغريب أنهما تشبهان نصفي القاعة التي تلقّينا فيها العلم في سنين الدراسة. من يستطيع أن يقرأ هذه المعادلة بوضوح، ويؤمن بنتائجها؟ منصّة «واتساب» تضمّ من كان يجلس في جهة اليمين، وأخرى تجمع جماعة الميسرة، وهم القادمون من خارج العاصمة، الغالبيّة منهم ينحدرون من بيئات ريفيّة، أو مدنيّة تسود عوائلها أفكار دينيّة متشدّدة، والملاحظ أنها البيئة ذاتها التي نشأت فيها أحزاب اليسار في السابق، والأحزاب الإسلاميّة فيما بعد، مثل «حزب الدعوة» الذي كان نشطاً في تلك السنين.

كأن تاريخ العراق الحديث يمثّله الصَّرح الدراسي في كليّة الطبّ بطوبوغرافيته التي ذكرتُها، حيث يشتدّ الصراع غالباً بين قوى اليمين واليسار، أو بين السنّة والشيعة، أو العرب والعجم، أو الغربيّة والشرقيّة... إلى آخر التسميات التي فرّقت بلد الرافدين منذ القدم. دائماً وأبداً، وهذا الكلام يقوله علماء الأنثروبولوجيا، يؤدي لقاء الحضارات إلى كارثة، إن لم يكن هناك استعداد ومناعة للحضارتين المتداخلتين في تقبّل الآخر، والدفاع عن الذات في الوقت نفسه. ثمة خرافة مضمرة في دخيلتي تقول إن المشكلة في بلدي لم تكن يوماً دينيّة أو سياسيّة، بل هي إثنية. جانبا قاعة الدرس ينحدران من حضارتين متجاورتَين ومتعاديتَين هما الآشوريّة والبابليّة، دارت بينهما حروب طاحنة في الماضي، وانتصر من انتصر وانهزم الآخر، وهذا كلام طويل تحفظه كتب التاريخ. الملاحظ أن ظلال الأمم تظلّ تتحارب بعد أفولها، وتصير معارك بين أصداء أسماء أبطالها. هو رأي ضعيف للغاية، وإذا كانت نسبة الصحّة فيه واحداً بالمائة، فهي تستحقّ التأمل من قبل الدارسين. قالوا عن بلدي إنه نهران وولاءان، وأقول ربّما إذا عُرفَ السبب سهلَ الحلّ.

في بعض محطّات العمر يكون معنا أشخاص قريبون منّا ويملكون أنفاساً نقيّة، فهم يشبهون زهرة الألْوَة التي تتفتّح مرّة في العمر، ويبقى ضوعها يمتدّ، ثم يغيب وتبقى ذكراه مثل دمعة مالحة تحرق القلب. إننا نتذكّر لنكتشف جوانب من الحياة ما كنّا لننتبه لها، لأنها عيشت في زمانها إلى أقصاها، وحين تستدعيها الذاكرة تحلّ في صورة عالم جديد وغريب من الألوان والأحاسيس، دنيا إضافيّة فيها إيقاع آخر. للشاعر ت. س. إليوت قصيدة تحمل بعضاً من هذا المعنى:

«في الذاكرة صدى لوقع خطى

في الممر الذي لم نخطُ فيه

باتجاه الباب الذي لم نفتحهْ قطّ

إلى جنينة الورد».

ويحدث هذا الأمر مع أصدقائي في تلك الرحلة، أسير معهم في الزمن الحاضر في شوارع غير موجودة، ونفتح أبواباً لم تكن مقفلة ذات يوم، وكذلك الورد يثبتُ شذاه في الذاكرة، ولا يغيب عنها لأنه صار ميسماً. المآثر الأكثر نصاعة في الحياة تفقد بريقها ما لم تُسكَّ في كلمات منغمّة. كتبتُ، في ساعة تأمّل، هذه القصيدة عن سحر تلك الأيام التي رغم كونها لن تعود، لكنّها تعيش معي مثل ظلّ نجمي المستحيل، أي الأسعد، وأعطيتُ قصيدتي عنوان المقال:

«هل هو حنين؟

أم هي حياة تعيش معناً على الدوام

ونستعيدها جميعاً

بقوّة،

قد أمسك بها قلبٌ فتيّ

فكيف تضيع منها ساعةً

أو هنيهة...

نحن مجبولون من تلك المشاعر

ونعيشها الآن من جديد

ودائماً من جديد

وأبداً من جديد...

زهر القطن بدأ يتفتّح،

يا صديقاتي وأصدقائي في كلية الطب/ جامعة بغداد 1985

أسألكم، وأسأل نفسي دائماً،

ولا أملّ من السؤال، أو أتعبْ:

هل هو حنينٌ؟

أم هي حياةٌ تعيشُ معنا على الدوام

في الليل والنهار، في النوم واليقظة

وسوف تمتدُّ ظلالُها

أبعدْ».

كانت البلاد تسيرُ بخطى ثابتةٍ باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب