تحديات ما بعد الحوار الوطني في اليمن

محاولات إنعاش الاقتصاد تصطدم بالفوضى الأمنية.. وغياب التخطيط يزيد معدلات الفساد

عناصر من الشرطة والجيش اليمنيين يشاركون في مظاهرة دعت لسقوط الحكومة في صنعاء أمس (رويترز)
عناصر من الشرطة والجيش اليمنيين يشاركون في مظاهرة دعت لسقوط الحكومة في صنعاء أمس (رويترز)
TT

تحديات ما بعد الحوار الوطني في اليمن

عناصر من الشرطة والجيش اليمنيين يشاركون في مظاهرة دعت لسقوط الحكومة في صنعاء أمس (رويترز)
عناصر من الشرطة والجيش اليمنيين يشاركون في مظاهرة دعت لسقوط الحكومة في صنعاء أمس (رويترز)

بعد أكثر من شهرين من اختتام أعمال مؤتمر الحوار الوطني في اليمن، الذي وضع سلسلة من القرارات والتوصيات لحل الأزمة الناشبة في البلاد، تبدو محاولة إعادة إنعاش الاقتصاد المتعثر قاتمة، وسط حالة من الفوضى الأمنية والعنف المنتشر، ما يشكل تحديا صعبا أمام القيادة السياسية في صنعاء.
فمدينة عدن القديمة، التي تقع في الجنوب، تقعد على فوهة بركان خامد في الناحية الجنوبية الشرقية من شبه جزيرة عدن. وتحتوي على واحد من أكبر المرافئ الطبيعية في العالم والذي يتمتع بمياه عميقة، على درجة كبيرة من الصفاء. لم تخف موارد وإمكانيات مدينة عدن، التي تقع عند نقطة التقاء البحر الأحمر مع منطقة خليج عدن ومنطقة شرق أفريقيا مع جنوب آسيا، على الإمبراطورية البريطانية، فقد كانت مرتبطة بكابل التلغراف الذي يربط لندن بمدينة بومباي الهندية. بعد الحرب العالمية الأولى، أصبح تموين السفن بالوقود من أهم عناصر الأنشطة الاقتصادية في مينائها.

بحلول خمسينات القرن الماضي، كانت عدن قد بدأت في استيراد وتكرير النفط الخام، ما جعلها ثاني أكثر الموانئ نشاطا في العالم بعد ليفربول. ومع رحيل بريطانيا عن جنوب اليمن في عام 1967 بعد سلسلة من الانتفاضات، تعاقب على حكم البلاد مجموعة من الحكومات الشيوعية المدعومة من الاتحاد السوفياتي. ولم تستطع التجربة الشيوعية أو العقود التي تلت تحقيق الوحدة بين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية تحت حكم الرئيس علي عبد الله صالح تحقيق أي نوع من الإفادة لاقتصاد الجزء الجنوبي من البلاد، بل على العكس، فقد استمر تدهور الأوضاع الاقتصادية هناك، حتى وصل الأمر إلى توقف النشاط تقريبا في ميناء عدن في الوقت الحالي.
يبقى مسار تحول عدن من أهم محاور التجارة العالمية إلى رمز قومي لسوء الإدارة الحكومية مثالا على التدهور التراجيدي لاقتصاد اليمن، ناهيك عن العواقب الكارثية التي جلبها ذلك التدهور على عدد السكان المتنامي يوما بعد يوم والذي يُقدر حاليا بـ25 مليون نسمة. مند أسبوعين دعت الأمم المتحدة المجتمع الدولي إلى تقديم دعم لـ14.7 مليون شخص بحاجة ماسة للمساعدة الإنسانية.
وكان مؤتمر الحوار الوطني قد اختتم أعماله في أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي، حيث كان الهدف الرئيس من ورائه يتمثل في اقتراح خريطة طريق سياسية ودستور جديد بعد احتجاجات 2011. التي أطاحت بالرئيس علي عبد الله صالح. ومنذ نهاية المؤتمر، تصاعدت المطالب الشعبية، التي تطالب قادة اليمن بإعادة تركيز جهودهم على التعاطي مع المشاكل الاقتصادية الملحة في البلاد.
وخلال أعمال المؤتمر، تعرضت الحكومة اليمنية لانتقادات شديدة بسبب تركيز اهتمامها على المناقشات التي جرت خلال المؤتمر، في حين تجاهلت القضايا التي تمس الحياة اليومية للمواطنين العاديين. ورغم النظرة المستقبلية القاتمة للاقتصاد اليمني في ظل حالة انعدام الأمن وعدم الاستقرار السياسي السائدة في البلاد، تبقى شخصيات بارزة في مؤتمر الحوار الوطني متفائلة إلى حد ما بشأن مستقبل اليمن. يقول أحمد أبو بكر بازرعة، رئيس مجموعة عمل التنمية الشاملة في المؤتمر الوطني، لـ«الشرق الأوسط»، بأن التوصيات الواردة في التقرير النهائي، الذي أعدته المجموعة: «سيكون لها أثر إيجابي» على الجهود المبذولة للتصدي لمشكلات اليمن الاقتصادية، رغم «أن ظهور ذلك الأثر سيستغرق بعض الوقت».
وتتضمن تلك التوصيات، التي سيرد جزء منها في الدستور اليمني الجديد، التأكيد على حرية النشاط الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى تعددية الملكية في مختلف قطاعات الاقتصاد، أي تجنب الممارسات الاحتكارية وعمل شراكات بين القطاعين العام والخاص. ويشير الدكتور أحمد الأصبحي، نائب رئيس مجموعة عمل الحكم الرشيد التابعة لمؤتمر الحوار الوطني، إلى أنه من المتوقع أن تساهم القرارات والتوصيات، الصادرة عن المجموعة، في خلق بيئة اقتصادية أكثر ملائمة، مضيفا أن «تلك القرارات والتوصيات، البالغ عددها 305، تركز على مبادئ المحاسبة والشفافية وسرعة الاستجابة والعدل والكفاءة والفعالية وسيادة القانون ومكافحة الفساد».
وبسؤاله عما إذا كان من الممكن تنفيذ التوصيات بزيادة الشفافية في قطاع الأعمال ومؤسسات الدولة بشكل صحيح، أبدى الأصبحي أمله في أن يحدث ذلك بالفعل شريطة أن تتوفر آلية مراقبة شعبية ومؤسسية «لتكون بمثابة شكل من أشكال الضغط».
غير أن الحفاظ على الاقتصاد اليمني قادرا على الوقوف على قدميه يبقى مهمة ضخمة وثقيلة. وكان الرئيس المؤقت عبد ربه منصور هادي قد لخص الاختبار الصعب الذي يواجه الحكومة اليمنية حينما قال: «75 في المائة من مشاكل اليمن تتعلق بالوضع الاقتصادي».

أرقام مثيرة للقلق

تعرض بيانات الاقتصاد المتاحة سيناريو مخيفا. تقول تقديرات البنك الدولي بأنه في عام 2012 بلغت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر في اليمن 54.5 في المائة مقارنة بـ42 في المائة قبل ثلاث سنوات، وهو رقم أعلى قليلا من المعدل السائد في الدول الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى. ويعاني واحد من بين كل طفلين من سوء التغذية. ورغم التقدم الذي حققته البلاد في بعض المجالات، مثل الانخفاض المستمر في معدل وفيات الأطفال الرضع، من غير المرجح أن تتمكن اليمن من تحقيق أهداف الأمم المتحدة الإنمائية للألفية.
تشير تقديرات متحفظة إلى أن معدل البطالة في اليمن وصل إلى 35 في المائة. ويصل معدل البطالة بين الشباب إلى أكثر من 55 في المائة. كما ساهم توجه المملكة العربية السعودية العام الماضي نحو تشديد قوانين العمل في تفاقم مشكلة البطالة في اليمن، حيث عاد نحو 300 إلى 400 ألف يمني، غالبيتهم يعملون بشكل غير قانوني في المملكة، إلى بلادهم.
وتبدو هذه الصورة أكثر إثارة للقلق عند تحليلها في سياق التركيبة السكانية في اليمن. وخلال مؤتمر عن اليمن جرى عقده مؤخرا في لندن، حذر بروفسور آلن جي. هيل، أستاذ السكان والصحة الدولية في جامعة ساوثهامبتون، من خطر النمو السكاني في اليمن. ويتوقع بروفسور هيل، وهو خبير ديموغرافي بارز سابق في جامعة هارفارد، أن عدد سكان اليمن سوف يتضاعف في أقل من 20 سنة في حال استمر معدل النمو الحالي.
وسيشكل هذا الارتفاع الكبير في عدد السكان ضغطا كبيرا على الخدمات الاقتصادية والتعليمية والصحية في البلاد.
خلال العقد الماضي، اعتمد اقتصاد اليمن على قطاع النفط والغاز بشدة، حيث كانت عائدات القطاع تشكل 60 في المائة من الإيرادات الحكومية خلال الفترة بين عامي 2010 و2012. وقد ساهمت عائدات النفط حكومة الرئيس علي عبد الله صالح في توفير الدعم للوقود، وهو ما أصبح من الصعب الحفاظ عليه من الناحية الاقتصادية في الوقت الحالي. وفي حين مثلت عائدات قطاع النفط الجزء الأكبر (أكثر من 70 في المائة) من الإيرادات الحكومية على مدار العشرة أعوام الماضية، لم يرق حجم إنتاج النفط أبدا إلى المعايير العالمية. ويواصل إنتاج النفط تراجعه المستمر في الوقت الذي لم يعد بمقدور الدولة الاعتماد على أسعار النفط المرتفعة في تعويض تناقص الإنتاج.
ويمتلك اليمن أيضا الغاز الطبيعي. وتصل احتياطيات الغاز الموجودة في محافظة مأرب، المجاورة للعاصمة صنعاء، إلى محطة إسالة الغاز الطبيعي في منطقة بلحاف على الساحل الجنوبي عبر خط أنابيب طوله 320 كيلومترا، ثم يجري شحن الغاز المسال إلى الأسواق الآسيوية والأميركية والأوروبية. غير أن إيرادات صادرات الغاز الطبيعي المسال لن تكون كافية لتسد العجز الناجم عن تراجع عائدات النفط. وبالإضافة إلى ذلك، يجري استهداف البنية التحتية للطاقة في شتى أنحاء البلاد باستمرار من قبل الجماعات المسلحة، وقد أدت هذه الأعمال التخريبية إلى تعطيل صادرات الغاز الطبيعي المسال في عام 2012.
ومن المتوقع أن يجري استخدام جزء من الغاز في إنتاج الكهرباء، وهو القطاع الذي يعتمد أيضا بشكل كبير على قطاع النفط في اليمن. ويمثل نقص الطاقة مشكلة دائمة في اليمن، حيث يستفيد أقل من 50 في المائة من السكان من الطاقة الكهربائية. ويبدو اللجوء إلى إنتاج الكهرباء من المولدات الكهربائية والطاقة الشمسية وطاقة الرياح مكلفا للغاية لحل تلك المشكلة في المدى القصير.
ويرى بعض المحللين للشأن اليمني أن المشكلة الأكثر إلحاحا لا تتمثل في تراجع احتياطيات اليمن من النفط، بل في استنزاف موارد المياه. وتقول هيلين لاكنر، الخبيرة في الشؤون اليمنية والمتخصصة في قضايا التنمية الريفية وإدارة المياه، بأن 70 في المائة من سكان اليمن يعيشون في مناطق ريفية، 47 في المائة منهم فقط يحصلون على مياه صالحة للشرب. غير أن الوضع يزداد سوءا مع التغير المتزايد وغير المتوقع في أنماط الطقس، بما في ذلك موجات الجفاف الشديد والأمطار الغزيرة التي تشهدها بعض المناطق. ويلقى عشرات اليمنيين حتفهم كل عام بسبب الصراعات المرتبطة بالسيطرة على المناطق التي تتوفر بها المياه. وخلال سنوات قليلة، من الممكن أن تصبح صنعاء أول عواصم العالم التي تشهد اختفاء موارد المياه.
وتبقى مصالح النخبة والسيطرة على مختلف قطاعات الاقتصاد، بما في ذلك قطاعا الاتصالات والتصنيع، ملمحا رئيسيا في الاقتصاد اليمني، والذي لا يبدو أنه تراجع حتى مع سقوط علي عبد الله صالح وتشكيل الحكومة الجديدة.
ولا ينبغي أن نندهش عندما نعلم أنه في ظل الفرص الاستثمارية القليلة وغياب الأمن والاستقرار السياسي، تواجه الدولة نقصا في المهنيين اليمنيين المؤهلين، وهو ما يطلق عليه هجرة العقول. ويقدر تقرير - صادر عن وزارة شؤون المغتربين اليمنية – أن هناك 30 ألفا من اليمنيين المؤهلين تأهيلا عاليا يقيمون في الخارج، غالبيتهم في منطقة الخليج.

قضية رأس المال

يقول خالد صقر، رئيس بعثة صندوق النقد لليمن، لـ«الشرق الأوسط»، بأن هناك «الكثير من القطاعات الواعدة التي يمكن أن تشكل قاطرة النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل في اليمن، مثل السياحة ومصايد الأسماك والأنشطة البحرية الأخرى، والتي تتمتع جميعها بإمكانات اقتصادية عظيمة».
ويشير وائل زقوت، مدير مكتب البنك الدولي في صنعاء، إلى أن «اليمن تمتلك سواحل بطول 2.300 كيلومتر، والتي لم تستغلها بشكل كامل حتى الآن، كما أن لديها الكثير من المعالم السياحية المهمة». وبرغم الإمكانيات البحرية الهائلة التي تتمتع بها البلاد، يبدو ميناء عدن في حالة يرثى لها، كما يبدو قطاع الصيد الساحلي في حالة من الضعف الشديد بسبب عمليات الصيد غير القانونية التي تقوم بها الأساطيل الضخمة، وكذلك ارتفاع عدد الصيادين اليمنيين.
وتحظى اليمن بوجود الكثير من مواقع التراث العالمي والجبال الوعرة والمرتفعات ذات المناخ المعتدل والسواحل الخلابة والواحات والجزر، مثل أرخبيل سقطرى الذي يُعد واحدا من أفضل مقاصد الغوص وركوب الأمواج في العالم.
ويحذر زقوت أنه «رغم ذلك، لن تتجسد كل تلك الإمكانيات على أرض الواقع في المدى القصير بسبب الوضع الأمني». وتتكرر عمليات خطف الأجانب في اليمن، حيث ينشط فرع تنظيم القاعدة هناك، وأصبحت عمليات الاغتيالات المنظمة شيئا عاديا. كما غدا الشمال مسرحا للمواجهات العنيفة بين المتمردين الحوثيين والجيش اليمني وجماعات أخرى. وهناك حملات مستمرة لتنظيم عصيان مدني في المناطق الجنوبية، في حين تبدو العلاقات معقدة بين بعض القبائل والحكومة وأجهزة الأمن.
وبعيدا عن الوضع الأمني، يبدو من غير المرجح أن تتمكن بعض القطاعات ذات الإمكانيات في تحقيق تقدم من دون ضخ المزيد من الاستثمارات العامة والخاصة، لا سيما في قطاع البنية التحتية، الذي يمثل الاستثمار فيه ضرورة أساسية ووسيلة لتحقيق النمو وتوفير فرص العمل في المدى القصير. وبحسب زقوت فإن «هناك حاجة للاستثمار في قطاعات الطاقة، والطرق السريعة ومياه الشرب (الإمدادات العامة والصرف الصحي) والمدارس الجديدة». ويرى صقر أن «مشروعات البنية التحتية وخاصة تلك التي تستوعب عمالة كثيفة، ستسهم بشكل مباشر وعاجل في توفير فرص العمل». وأضاف: «مما يرثى له، أنه برغم الزيادة النسبية مقارنة بعام 2011، فإن مخصصات إنفاق رأس المال في الميزانية منخفضة للغاية». وأشار إلى أن إنفاق رأس المال في عام 2012 بلغ 10 في المائة فقط من إجمالي الإنفاق الحكومي، مقارنة بـ90 في المائة من الإنفاق الحالي على الإعانات العامة، ونفقات الديون الحالية ورواتب موظفي الحكومة. وأضاف: «هناك حاجة لإعادة توجيه النفقات العامة بعيدا عن المساعدات باتجاه برامج تدعيم النمو والبرامج الموجهة لصالح الفقراء».
ولدى سؤاله عما إذا كان الاستثمار في منشآت تحلية المياه يمثل حلا لتنويع الاقتصاد بعيدا عن الاعتماد على النفط وكوسيلة لمواجهة أزمة المياه، نوه صقر إلى الطبيعة المكلفة لهذه النوعية من المشروعات. وأن هذا الخيار تم ارتياده من قبل دول مجلس التعاون الخليجي، التي تمتلك بعكس اليمن ثروات ضخمة للاستثمار في مثل هذه المشروعات.
وعوضا عن ذلك، قال: إن صندوق النقد الدولي يعتقد: «ضرورة تشجيع السلطات اليمنية الحفاظ على المياه وتقليل معدلات استنزاف مصادر المياه الجوفية الشحيحة بالفعل». وبحسب زقوت: «يمكن لبرامج تحلية المياه أن تشكل خيارا في المناطق الساحلية، نتيجة لتوافر هذه التكنولوجيا بتكلفة منخفضة»، لكن المشكلة هي أن الكثير من السكان الذين يحتاجون هذه المياه يقنطون في المناطق المرتفعة»، ولذا فإن تكلفة الطاقة ونقل المياه من المناطق الساحلية إلى المرتفعات ستجعل منها عملية باهظة التكاليف. ويرى زقوت، ضرورة التركيز على الحد من ري نبات القات في المناطق الجبلية لتوفير مزيد من المياه للاستهلاك المحلي.
ورغم استيراد اليمن لـ95 في المائة من حاجتها القمح وكل احتياجاتها من الأرز بشكل كامل، فإن 90 في المائة من مياهها يذهب للزراعة. ويأتي بين المجالات التي يتم التفكير فيها حاليا لاستغلال ميزة روح المبادرة لدى اليمنيين مشروعات التمويل متناهي الصغر. وبحسب بازرعة، رئيس فريق عمل التنمية الشاملة في مؤتمر الحوار الوطني، تم اتخاذ عدد من القرارات بشأن تأهيل البنوك ومؤسسات التمويل الصغيرة لتقديم التمويل متناهي الصغر بضمان من الحكومة وقروض المساعدات وتقديم الدعم في المناطق الريفية على وجه الخصوص، إضافة إلى تخصيص 20 في المائة من مشروعات الدولة للشركات الصغيرة والمتوسطة.
ولعب المانحون الدوليون دورا مهما في تخفيف الأثر الاقتصادي السلبي لانتفاضة عام 2011، نتيجة لغياب الاستثمار العام والخاص، حيث تعهد أصدقاء اليمن بتقديم ثمانية مليارات دولار في الفترة بين عامي 2012 و2015، والتي تشكل جزءا أساسيا من الأموال المخصصة لتمويل مشروعات البنية التحتية. وقد جرى تقديم نحو 25 في المائة من هذه الأموال بالفعل، جاءت غالبيتها من المملكة العربية السعودية.
وكانت اليمن الدولة الأولى، من بين جميع الدول العربية التي تمر بعمليات تحول سياسي بعد ثورات 2011، التي تتلقى مساعدات مالية من صندوق النقد الدولي. وأوضح صقر أن القدرة على الإنجاز والمخاوف الإدارية الأخرى أسهمت في انخفاض مدفوعات المانحين في الماضي، لكنه أشار إلى أن السلطات تبذل جهودا لتطوير جودة الاستثمار العام والمساعدة في تحفيز تعهدات المانحين. يأتي بين هذه الجهود إنشاء إطار المحاسبة المشترك ومكتب تنفيذي لتسريع امتصاص تعهدات المانحين بالتنسيق مع البنك الدولي.
من ناحية أخرى كانت اليمن تصنف قبل التحول السياسي كإحدى دول القاع على مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية. ويرى زقوت أن هناك «حاجة ماسة لبذل الجهود في هذا الإطار الذي يمثل قضية بالغة الخطورة».
وتحدث بازرعة إلى «الشرق الأوسط» عن الحاجة إلى إجراء مراجعة شاملة لهذه المساعدات لدراسة التأثير الذي أحدثته خلال العقدين أو الثلاثة الماضية. علاوة على ذلك فنحن بحاجة إلى التفكير في آليات وأولويات لهذه المساعدة وتبنيها في خطط التنمية المستقبلية.
وقد سلط التقرير الشامل الذي نشرته منظمة تشاتام هاوس، مؤسسة بحثية في لندن، في سبتمبر (أيلول) الماضي «هروب رأس المال المباشر إلى الملاذات الضريبية تسبب في انخفاض حجم تدفقات المساعدات الدولية»، ووفقا للتقرير فإن كل دولار أنفق على المساعدات في اليمن في الفترة بين 1990 و2008 كان يقابله 2.70 دولار أخرى تغادر البلاد.

إعادة بناء دولة الشرعية
ويواجه مؤتمر الحوار الوطني الكثير من المنتقدين في اليمن الذين يعتقدون أن أقطاب النظام السابق ودوائر السلطة حققوا أهدافهم من خلاله. لكن الكثير من المراقبين يعدون مؤتمر الحوار الوطني قصة نجاح في العالم العربي بالصورة نظرا لقدرته على تجنيب اليمن مصيرا أسوأ وتوحيد كل قطاعات المجتمع اليمني لمناقشة مستقبل البلاد.
وقد أصدرت لجنة تحديد عدد الأقاليم التي شكلها الرئيس عبد ربه منصور هادي لدراسة المسألة الشائكة للتحول السياسي اليمني، تقريرها النهائي في العاشر من فبراير (شباط)، والتي اقترحت تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم، اثنان في الجنوب وأربعة في الشمال. ويقدم هذا النموذج نظريا حلا لعدد مشكلات اليمن المزمنة، وتحديدا الشعور بالإهمال أو الاستغلال الذي تشعر به الكثير من الأقاليم وخاصة الجنوبية تجاه الحكومة المركزية في صنعاء.
ولكن كما هو الحال مع كل التوصيات التي صدرت عن مؤتمر الحوار الوطني، يكمن الحل في تنفيذ تلك التوصيات. إضافة إلى ذلك فقد تم تأجيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وهذا لا ينبئ بخير بالنسبة لحكومة تجد نفسها مضطرة لإقناع المواطن اليمني أنها قادرة على الدفاع عن مصالح اليمنيين ككل لا البعض منهم وقدرتها على توفير الأمن.
وينظر إلى تعزيز مؤسسات الدولة في الوقت الراهن كأساس لأي مظهر من مظاهر النجاح الاقتصادي، لكن بناء القدرة لا يتوقع أن يقوم بهذا العمل بمفرده، فالدولة اليمنية تواجه أزمة شرعية عميقة، ولا تزال مبتلاة بشبكة التحالفات التي أنشأها الرئيس السابق علي عبد الله صالح لتعزيز قبضته على السلطة، ولمكافأة الحلفاء ومعاقبة الخصوم.
وأخيرا، فإن الأمل معقود على استكمال مسيرة التحول السياسي التي تسهم في إعادة تشكيل صورة الدولة اليمنية ومن ثم إنهاء مناخ التمرد والعنف، وهو ما قد يحقق الثقة اللازمة لجذب المستثمرين والسماح للقطاع الخاص بالتوسع. هذا قد يتطلب بعض الوقت، لكنه رفاهية لن يستطيع اليمنيون تحملها.
* شارك في إعداد التقرير
عرفات مدابش من صنعاء



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري