تحديات ما بعد الحوار الوطني في اليمن

محاولات إنعاش الاقتصاد تصطدم بالفوضى الأمنية.. وغياب التخطيط يزيد معدلات الفساد

عناصر من الشرطة والجيش اليمنيين يشاركون في مظاهرة دعت لسقوط الحكومة في صنعاء أمس (رويترز)
عناصر من الشرطة والجيش اليمنيين يشاركون في مظاهرة دعت لسقوط الحكومة في صنعاء أمس (رويترز)
TT

تحديات ما بعد الحوار الوطني في اليمن

عناصر من الشرطة والجيش اليمنيين يشاركون في مظاهرة دعت لسقوط الحكومة في صنعاء أمس (رويترز)
عناصر من الشرطة والجيش اليمنيين يشاركون في مظاهرة دعت لسقوط الحكومة في صنعاء أمس (رويترز)

بعد أكثر من شهرين من اختتام أعمال مؤتمر الحوار الوطني في اليمن، الذي وضع سلسلة من القرارات والتوصيات لحل الأزمة الناشبة في البلاد، تبدو محاولة إعادة إنعاش الاقتصاد المتعثر قاتمة، وسط حالة من الفوضى الأمنية والعنف المنتشر، ما يشكل تحديا صعبا أمام القيادة السياسية في صنعاء.
فمدينة عدن القديمة، التي تقع في الجنوب، تقعد على فوهة بركان خامد في الناحية الجنوبية الشرقية من شبه جزيرة عدن. وتحتوي على واحد من أكبر المرافئ الطبيعية في العالم والذي يتمتع بمياه عميقة، على درجة كبيرة من الصفاء. لم تخف موارد وإمكانيات مدينة عدن، التي تقع عند نقطة التقاء البحر الأحمر مع منطقة خليج عدن ومنطقة شرق أفريقيا مع جنوب آسيا، على الإمبراطورية البريطانية، فقد كانت مرتبطة بكابل التلغراف الذي يربط لندن بمدينة بومباي الهندية. بعد الحرب العالمية الأولى، أصبح تموين السفن بالوقود من أهم عناصر الأنشطة الاقتصادية في مينائها.

بحلول خمسينات القرن الماضي، كانت عدن قد بدأت في استيراد وتكرير النفط الخام، ما جعلها ثاني أكثر الموانئ نشاطا في العالم بعد ليفربول. ومع رحيل بريطانيا عن جنوب اليمن في عام 1967 بعد سلسلة من الانتفاضات، تعاقب على حكم البلاد مجموعة من الحكومات الشيوعية المدعومة من الاتحاد السوفياتي. ولم تستطع التجربة الشيوعية أو العقود التي تلت تحقيق الوحدة بين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية تحت حكم الرئيس علي عبد الله صالح تحقيق أي نوع من الإفادة لاقتصاد الجزء الجنوبي من البلاد، بل على العكس، فقد استمر تدهور الأوضاع الاقتصادية هناك، حتى وصل الأمر إلى توقف النشاط تقريبا في ميناء عدن في الوقت الحالي.
يبقى مسار تحول عدن من أهم محاور التجارة العالمية إلى رمز قومي لسوء الإدارة الحكومية مثالا على التدهور التراجيدي لاقتصاد اليمن، ناهيك عن العواقب الكارثية التي جلبها ذلك التدهور على عدد السكان المتنامي يوما بعد يوم والذي يُقدر حاليا بـ25 مليون نسمة. مند أسبوعين دعت الأمم المتحدة المجتمع الدولي إلى تقديم دعم لـ14.7 مليون شخص بحاجة ماسة للمساعدة الإنسانية.
وكان مؤتمر الحوار الوطني قد اختتم أعماله في أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي، حيث كان الهدف الرئيس من ورائه يتمثل في اقتراح خريطة طريق سياسية ودستور جديد بعد احتجاجات 2011. التي أطاحت بالرئيس علي عبد الله صالح. ومنذ نهاية المؤتمر، تصاعدت المطالب الشعبية، التي تطالب قادة اليمن بإعادة تركيز جهودهم على التعاطي مع المشاكل الاقتصادية الملحة في البلاد.
وخلال أعمال المؤتمر، تعرضت الحكومة اليمنية لانتقادات شديدة بسبب تركيز اهتمامها على المناقشات التي جرت خلال المؤتمر، في حين تجاهلت القضايا التي تمس الحياة اليومية للمواطنين العاديين. ورغم النظرة المستقبلية القاتمة للاقتصاد اليمني في ظل حالة انعدام الأمن وعدم الاستقرار السياسي السائدة في البلاد، تبقى شخصيات بارزة في مؤتمر الحوار الوطني متفائلة إلى حد ما بشأن مستقبل اليمن. يقول أحمد أبو بكر بازرعة، رئيس مجموعة عمل التنمية الشاملة في المؤتمر الوطني، لـ«الشرق الأوسط»، بأن التوصيات الواردة في التقرير النهائي، الذي أعدته المجموعة: «سيكون لها أثر إيجابي» على الجهود المبذولة للتصدي لمشكلات اليمن الاقتصادية، رغم «أن ظهور ذلك الأثر سيستغرق بعض الوقت».
وتتضمن تلك التوصيات، التي سيرد جزء منها في الدستور اليمني الجديد، التأكيد على حرية النشاط الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى تعددية الملكية في مختلف قطاعات الاقتصاد، أي تجنب الممارسات الاحتكارية وعمل شراكات بين القطاعين العام والخاص. ويشير الدكتور أحمد الأصبحي، نائب رئيس مجموعة عمل الحكم الرشيد التابعة لمؤتمر الحوار الوطني، إلى أنه من المتوقع أن تساهم القرارات والتوصيات، الصادرة عن المجموعة، في خلق بيئة اقتصادية أكثر ملائمة، مضيفا أن «تلك القرارات والتوصيات، البالغ عددها 305، تركز على مبادئ المحاسبة والشفافية وسرعة الاستجابة والعدل والكفاءة والفعالية وسيادة القانون ومكافحة الفساد».
وبسؤاله عما إذا كان من الممكن تنفيذ التوصيات بزيادة الشفافية في قطاع الأعمال ومؤسسات الدولة بشكل صحيح، أبدى الأصبحي أمله في أن يحدث ذلك بالفعل شريطة أن تتوفر آلية مراقبة شعبية ومؤسسية «لتكون بمثابة شكل من أشكال الضغط».
غير أن الحفاظ على الاقتصاد اليمني قادرا على الوقوف على قدميه يبقى مهمة ضخمة وثقيلة. وكان الرئيس المؤقت عبد ربه منصور هادي قد لخص الاختبار الصعب الذي يواجه الحكومة اليمنية حينما قال: «75 في المائة من مشاكل اليمن تتعلق بالوضع الاقتصادي».

أرقام مثيرة للقلق

تعرض بيانات الاقتصاد المتاحة سيناريو مخيفا. تقول تقديرات البنك الدولي بأنه في عام 2012 بلغت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر في اليمن 54.5 في المائة مقارنة بـ42 في المائة قبل ثلاث سنوات، وهو رقم أعلى قليلا من المعدل السائد في الدول الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى. ويعاني واحد من بين كل طفلين من سوء التغذية. ورغم التقدم الذي حققته البلاد في بعض المجالات، مثل الانخفاض المستمر في معدل وفيات الأطفال الرضع، من غير المرجح أن تتمكن اليمن من تحقيق أهداف الأمم المتحدة الإنمائية للألفية.
تشير تقديرات متحفظة إلى أن معدل البطالة في اليمن وصل إلى 35 في المائة. ويصل معدل البطالة بين الشباب إلى أكثر من 55 في المائة. كما ساهم توجه المملكة العربية السعودية العام الماضي نحو تشديد قوانين العمل في تفاقم مشكلة البطالة في اليمن، حيث عاد نحو 300 إلى 400 ألف يمني، غالبيتهم يعملون بشكل غير قانوني في المملكة، إلى بلادهم.
وتبدو هذه الصورة أكثر إثارة للقلق عند تحليلها في سياق التركيبة السكانية في اليمن. وخلال مؤتمر عن اليمن جرى عقده مؤخرا في لندن، حذر بروفسور آلن جي. هيل، أستاذ السكان والصحة الدولية في جامعة ساوثهامبتون، من خطر النمو السكاني في اليمن. ويتوقع بروفسور هيل، وهو خبير ديموغرافي بارز سابق في جامعة هارفارد، أن عدد سكان اليمن سوف يتضاعف في أقل من 20 سنة في حال استمر معدل النمو الحالي.
وسيشكل هذا الارتفاع الكبير في عدد السكان ضغطا كبيرا على الخدمات الاقتصادية والتعليمية والصحية في البلاد.
خلال العقد الماضي، اعتمد اقتصاد اليمن على قطاع النفط والغاز بشدة، حيث كانت عائدات القطاع تشكل 60 في المائة من الإيرادات الحكومية خلال الفترة بين عامي 2010 و2012. وقد ساهمت عائدات النفط حكومة الرئيس علي عبد الله صالح في توفير الدعم للوقود، وهو ما أصبح من الصعب الحفاظ عليه من الناحية الاقتصادية في الوقت الحالي. وفي حين مثلت عائدات قطاع النفط الجزء الأكبر (أكثر من 70 في المائة) من الإيرادات الحكومية على مدار العشرة أعوام الماضية، لم يرق حجم إنتاج النفط أبدا إلى المعايير العالمية. ويواصل إنتاج النفط تراجعه المستمر في الوقت الذي لم يعد بمقدور الدولة الاعتماد على أسعار النفط المرتفعة في تعويض تناقص الإنتاج.
ويمتلك اليمن أيضا الغاز الطبيعي. وتصل احتياطيات الغاز الموجودة في محافظة مأرب، المجاورة للعاصمة صنعاء، إلى محطة إسالة الغاز الطبيعي في منطقة بلحاف على الساحل الجنوبي عبر خط أنابيب طوله 320 كيلومترا، ثم يجري شحن الغاز المسال إلى الأسواق الآسيوية والأميركية والأوروبية. غير أن إيرادات صادرات الغاز الطبيعي المسال لن تكون كافية لتسد العجز الناجم عن تراجع عائدات النفط. وبالإضافة إلى ذلك، يجري استهداف البنية التحتية للطاقة في شتى أنحاء البلاد باستمرار من قبل الجماعات المسلحة، وقد أدت هذه الأعمال التخريبية إلى تعطيل صادرات الغاز الطبيعي المسال في عام 2012.
ومن المتوقع أن يجري استخدام جزء من الغاز في إنتاج الكهرباء، وهو القطاع الذي يعتمد أيضا بشكل كبير على قطاع النفط في اليمن. ويمثل نقص الطاقة مشكلة دائمة في اليمن، حيث يستفيد أقل من 50 في المائة من السكان من الطاقة الكهربائية. ويبدو اللجوء إلى إنتاج الكهرباء من المولدات الكهربائية والطاقة الشمسية وطاقة الرياح مكلفا للغاية لحل تلك المشكلة في المدى القصير.
ويرى بعض المحللين للشأن اليمني أن المشكلة الأكثر إلحاحا لا تتمثل في تراجع احتياطيات اليمن من النفط، بل في استنزاف موارد المياه. وتقول هيلين لاكنر، الخبيرة في الشؤون اليمنية والمتخصصة في قضايا التنمية الريفية وإدارة المياه، بأن 70 في المائة من سكان اليمن يعيشون في مناطق ريفية، 47 في المائة منهم فقط يحصلون على مياه صالحة للشرب. غير أن الوضع يزداد سوءا مع التغير المتزايد وغير المتوقع في أنماط الطقس، بما في ذلك موجات الجفاف الشديد والأمطار الغزيرة التي تشهدها بعض المناطق. ويلقى عشرات اليمنيين حتفهم كل عام بسبب الصراعات المرتبطة بالسيطرة على المناطق التي تتوفر بها المياه. وخلال سنوات قليلة، من الممكن أن تصبح صنعاء أول عواصم العالم التي تشهد اختفاء موارد المياه.
وتبقى مصالح النخبة والسيطرة على مختلف قطاعات الاقتصاد، بما في ذلك قطاعا الاتصالات والتصنيع، ملمحا رئيسيا في الاقتصاد اليمني، والذي لا يبدو أنه تراجع حتى مع سقوط علي عبد الله صالح وتشكيل الحكومة الجديدة.
ولا ينبغي أن نندهش عندما نعلم أنه في ظل الفرص الاستثمارية القليلة وغياب الأمن والاستقرار السياسي، تواجه الدولة نقصا في المهنيين اليمنيين المؤهلين، وهو ما يطلق عليه هجرة العقول. ويقدر تقرير - صادر عن وزارة شؤون المغتربين اليمنية – أن هناك 30 ألفا من اليمنيين المؤهلين تأهيلا عاليا يقيمون في الخارج، غالبيتهم في منطقة الخليج.

قضية رأس المال

يقول خالد صقر، رئيس بعثة صندوق النقد لليمن، لـ«الشرق الأوسط»، بأن هناك «الكثير من القطاعات الواعدة التي يمكن أن تشكل قاطرة النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل في اليمن، مثل السياحة ومصايد الأسماك والأنشطة البحرية الأخرى، والتي تتمتع جميعها بإمكانات اقتصادية عظيمة».
ويشير وائل زقوت، مدير مكتب البنك الدولي في صنعاء، إلى أن «اليمن تمتلك سواحل بطول 2.300 كيلومتر، والتي لم تستغلها بشكل كامل حتى الآن، كما أن لديها الكثير من المعالم السياحية المهمة». وبرغم الإمكانيات البحرية الهائلة التي تتمتع بها البلاد، يبدو ميناء عدن في حالة يرثى لها، كما يبدو قطاع الصيد الساحلي في حالة من الضعف الشديد بسبب عمليات الصيد غير القانونية التي تقوم بها الأساطيل الضخمة، وكذلك ارتفاع عدد الصيادين اليمنيين.
وتحظى اليمن بوجود الكثير من مواقع التراث العالمي والجبال الوعرة والمرتفعات ذات المناخ المعتدل والسواحل الخلابة والواحات والجزر، مثل أرخبيل سقطرى الذي يُعد واحدا من أفضل مقاصد الغوص وركوب الأمواج في العالم.
ويحذر زقوت أنه «رغم ذلك، لن تتجسد كل تلك الإمكانيات على أرض الواقع في المدى القصير بسبب الوضع الأمني». وتتكرر عمليات خطف الأجانب في اليمن، حيث ينشط فرع تنظيم القاعدة هناك، وأصبحت عمليات الاغتيالات المنظمة شيئا عاديا. كما غدا الشمال مسرحا للمواجهات العنيفة بين المتمردين الحوثيين والجيش اليمني وجماعات أخرى. وهناك حملات مستمرة لتنظيم عصيان مدني في المناطق الجنوبية، في حين تبدو العلاقات معقدة بين بعض القبائل والحكومة وأجهزة الأمن.
وبعيدا عن الوضع الأمني، يبدو من غير المرجح أن تتمكن بعض القطاعات ذات الإمكانيات في تحقيق تقدم من دون ضخ المزيد من الاستثمارات العامة والخاصة، لا سيما في قطاع البنية التحتية، الذي يمثل الاستثمار فيه ضرورة أساسية ووسيلة لتحقيق النمو وتوفير فرص العمل في المدى القصير. وبحسب زقوت فإن «هناك حاجة للاستثمار في قطاعات الطاقة، والطرق السريعة ومياه الشرب (الإمدادات العامة والصرف الصحي) والمدارس الجديدة». ويرى صقر أن «مشروعات البنية التحتية وخاصة تلك التي تستوعب عمالة كثيفة، ستسهم بشكل مباشر وعاجل في توفير فرص العمل». وأضاف: «مما يرثى له، أنه برغم الزيادة النسبية مقارنة بعام 2011، فإن مخصصات إنفاق رأس المال في الميزانية منخفضة للغاية». وأشار إلى أن إنفاق رأس المال في عام 2012 بلغ 10 في المائة فقط من إجمالي الإنفاق الحكومي، مقارنة بـ90 في المائة من الإنفاق الحالي على الإعانات العامة، ونفقات الديون الحالية ورواتب موظفي الحكومة. وأضاف: «هناك حاجة لإعادة توجيه النفقات العامة بعيدا عن المساعدات باتجاه برامج تدعيم النمو والبرامج الموجهة لصالح الفقراء».
ولدى سؤاله عما إذا كان الاستثمار في منشآت تحلية المياه يمثل حلا لتنويع الاقتصاد بعيدا عن الاعتماد على النفط وكوسيلة لمواجهة أزمة المياه، نوه صقر إلى الطبيعة المكلفة لهذه النوعية من المشروعات. وأن هذا الخيار تم ارتياده من قبل دول مجلس التعاون الخليجي، التي تمتلك بعكس اليمن ثروات ضخمة للاستثمار في مثل هذه المشروعات.
وعوضا عن ذلك، قال: إن صندوق النقد الدولي يعتقد: «ضرورة تشجيع السلطات اليمنية الحفاظ على المياه وتقليل معدلات استنزاف مصادر المياه الجوفية الشحيحة بالفعل». وبحسب زقوت: «يمكن لبرامج تحلية المياه أن تشكل خيارا في المناطق الساحلية، نتيجة لتوافر هذه التكنولوجيا بتكلفة منخفضة»، لكن المشكلة هي أن الكثير من السكان الذين يحتاجون هذه المياه يقنطون في المناطق المرتفعة»، ولذا فإن تكلفة الطاقة ونقل المياه من المناطق الساحلية إلى المرتفعات ستجعل منها عملية باهظة التكاليف. ويرى زقوت، ضرورة التركيز على الحد من ري نبات القات في المناطق الجبلية لتوفير مزيد من المياه للاستهلاك المحلي.
ورغم استيراد اليمن لـ95 في المائة من حاجتها القمح وكل احتياجاتها من الأرز بشكل كامل، فإن 90 في المائة من مياهها يذهب للزراعة. ويأتي بين المجالات التي يتم التفكير فيها حاليا لاستغلال ميزة روح المبادرة لدى اليمنيين مشروعات التمويل متناهي الصغر. وبحسب بازرعة، رئيس فريق عمل التنمية الشاملة في مؤتمر الحوار الوطني، تم اتخاذ عدد من القرارات بشأن تأهيل البنوك ومؤسسات التمويل الصغيرة لتقديم التمويل متناهي الصغر بضمان من الحكومة وقروض المساعدات وتقديم الدعم في المناطق الريفية على وجه الخصوص، إضافة إلى تخصيص 20 في المائة من مشروعات الدولة للشركات الصغيرة والمتوسطة.
ولعب المانحون الدوليون دورا مهما في تخفيف الأثر الاقتصادي السلبي لانتفاضة عام 2011، نتيجة لغياب الاستثمار العام والخاص، حيث تعهد أصدقاء اليمن بتقديم ثمانية مليارات دولار في الفترة بين عامي 2012 و2015، والتي تشكل جزءا أساسيا من الأموال المخصصة لتمويل مشروعات البنية التحتية. وقد جرى تقديم نحو 25 في المائة من هذه الأموال بالفعل، جاءت غالبيتها من المملكة العربية السعودية.
وكانت اليمن الدولة الأولى، من بين جميع الدول العربية التي تمر بعمليات تحول سياسي بعد ثورات 2011، التي تتلقى مساعدات مالية من صندوق النقد الدولي. وأوضح صقر أن القدرة على الإنجاز والمخاوف الإدارية الأخرى أسهمت في انخفاض مدفوعات المانحين في الماضي، لكنه أشار إلى أن السلطات تبذل جهودا لتطوير جودة الاستثمار العام والمساعدة في تحفيز تعهدات المانحين. يأتي بين هذه الجهود إنشاء إطار المحاسبة المشترك ومكتب تنفيذي لتسريع امتصاص تعهدات المانحين بالتنسيق مع البنك الدولي.
من ناحية أخرى كانت اليمن تصنف قبل التحول السياسي كإحدى دول القاع على مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية. ويرى زقوت أن هناك «حاجة ماسة لبذل الجهود في هذا الإطار الذي يمثل قضية بالغة الخطورة».
وتحدث بازرعة إلى «الشرق الأوسط» عن الحاجة إلى إجراء مراجعة شاملة لهذه المساعدات لدراسة التأثير الذي أحدثته خلال العقدين أو الثلاثة الماضية. علاوة على ذلك فنحن بحاجة إلى التفكير في آليات وأولويات لهذه المساعدة وتبنيها في خطط التنمية المستقبلية.
وقد سلط التقرير الشامل الذي نشرته منظمة تشاتام هاوس، مؤسسة بحثية في لندن، في سبتمبر (أيلول) الماضي «هروب رأس المال المباشر إلى الملاذات الضريبية تسبب في انخفاض حجم تدفقات المساعدات الدولية»، ووفقا للتقرير فإن كل دولار أنفق على المساعدات في اليمن في الفترة بين 1990 و2008 كان يقابله 2.70 دولار أخرى تغادر البلاد.

إعادة بناء دولة الشرعية
ويواجه مؤتمر الحوار الوطني الكثير من المنتقدين في اليمن الذين يعتقدون أن أقطاب النظام السابق ودوائر السلطة حققوا أهدافهم من خلاله. لكن الكثير من المراقبين يعدون مؤتمر الحوار الوطني قصة نجاح في العالم العربي بالصورة نظرا لقدرته على تجنيب اليمن مصيرا أسوأ وتوحيد كل قطاعات المجتمع اليمني لمناقشة مستقبل البلاد.
وقد أصدرت لجنة تحديد عدد الأقاليم التي شكلها الرئيس عبد ربه منصور هادي لدراسة المسألة الشائكة للتحول السياسي اليمني، تقريرها النهائي في العاشر من فبراير (شباط)، والتي اقترحت تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم، اثنان في الجنوب وأربعة في الشمال. ويقدم هذا النموذج نظريا حلا لعدد مشكلات اليمن المزمنة، وتحديدا الشعور بالإهمال أو الاستغلال الذي تشعر به الكثير من الأقاليم وخاصة الجنوبية تجاه الحكومة المركزية في صنعاء.
ولكن كما هو الحال مع كل التوصيات التي صدرت عن مؤتمر الحوار الوطني، يكمن الحل في تنفيذ تلك التوصيات. إضافة إلى ذلك فقد تم تأجيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وهذا لا ينبئ بخير بالنسبة لحكومة تجد نفسها مضطرة لإقناع المواطن اليمني أنها قادرة على الدفاع عن مصالح اليمنيين ككل لا البعض منهم وقدرتها على توفير الأمن.
وينظر إلى تعزيز مؤسسات الدولة في الوقت الراهن كأساس لأي مظهر من مظاهر النجاح الاقتصادي، لكن بناء القدرة لا يتوقع أن يقوم بهذا العمل بمفرده، فالدولة اليمنية تواجه أزمة شرعية عميقة، ولا تزال مبتلاة بشبكة التحالفات التي أنشأها الرئيس السابق علي عبد الله صالح لتعزيز قبضته على السلطة، ولمكافأة الحلفاء ومعاقبة الخصوم.
وأخيرا، فإن الأمل معقود على استكمال مسيرة التحول السياسي التي تسهم في إعادة تشكيل صورة الدولة اليمنية ومن ثم إنهاء مناخ التمرد والعنف، وهو ما قد يحقق الثقة اللازمة لجذب المستثمرين والسماح للقطاع الخاص بالتوسع. هذا قد يتطلب بعض الوقت، لكنه رفاهية لن يستطيع اليمنيون تحملها.
* شارك في إعداد التقرير
عرفات مدابش من صنعاء



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.