«متحف مقام» للنحت اللبناني .. مركز ثقافي على قمة جبل

400 منحوتة لـ60 فنانًا.. وآلاف الوثائق جمعت بمبادرة فردية

من معروضات المتحف ({الشرق الأوسط})
من معروضات المتحف ({الشرق الأوسط})
TT

«متحف مقام» للنحت اللبناني .. مركز ثقافي على قمة جبل

من معروضات المتحف ({الشرق الأوسط})
من معروضات المتحف ({الشرق الأوسط})

حين تصعد بك السيارة من مفترق نهر الكلب باتجاه بلدة قرطبا، في طريق جبلي يبدو مأهولاً حينًا ومهجورًا في أحيان أخرى، لا يمكنك أن تتصور، بأن ثمة من سولت له نفسه أن يأتي إلى هذا المكان القصي بمئات المنحوتات، ليحول قمة في أقصى مرتفع إلى متحف. لا بد أن تصل إلى آخر الطريق، وتظن أن لم يعد ثمة ما يمكن أن تكتشفه كي ترى مساحة متسعة لركن السيارات وما يشبه مصنعين ضخمين مزنرين بغابة من الأشجار كي تعرف أنك وصلت إلى «عاليتا» و«متحف مقام»، الذي افتتح بمبادرة فردية من الناقد التشكيلي سيزار نمور ورفيقته الألمانية غابرييلا شوب. المنظر الخلاب الذي يجمع بين الجبل والخضرة والبحر المنبسط أمامك، لا يلهيك عن اكتشاف ما يزيد على 400 منحوتة لما يقارب 70 فنانًا لبنانيًا، نقلت إلى هذا المكان. مغامرة لم يجرؤ عليها أحد قبل هذين الشريكين اللذين جمعهما حب الجمال، على هذه القمة.
مصنعان قديمان، إذن، كان أحدهما يصنّع الأكياس لتعبئة الإسمنت والآخر يفبرك أقلام التلوين الشمعية والسبورات الصغيرة. وبعدما توقف المصنعان عن العمل منذ 10 أعوام، ارتأى سيزار نمور تحويلهما إلى متحف. وهذا ما كان، حيث افتتح المشروع عام 2013. 10 آلاف متر مربع، وهبها نمور للفن، وبنى لنفسه إلى جانبها وعلى مكان أكثر ارتفاعًا ما يسميه كوخًا ليسكن فيه. وهو منزل خشبي جميل ومطلٍ، اكتفى به.
يتحدث سيزار عن رؤية بعيدة المدى، عن جمعية تشكلت لا تبتغي الربح، وكل هدفها أن تحفظ استمرار المشروع. الرجل يؤمن بالتراكم، ولا يريد لكدّه أن يذهب هباء الريح.
حين تدخل المتحف تدرك أن الجهد هائل. المتحف فريد من نوعه في لبنان، حيث لا يمكنك أن ترى هذا الكم من المنحوتات اللبنانية معروضة ومصنفة ومرتبة كما تشاهدها هنا، في أي مكان آخر.
يعترف مدير المتحف بأن الهدف الأول لمشروعه توثيقي، وتبعًا لذلك يتم تقسيم المنحوتات وعرضها، حيث يخصص ركنًا لكل فنان، يوضح مساره وتطور خطواته الفنية. وثمة مكتبة يجمع فيها القيمون على المتحف كل ما يتعلق بالفن التشكيلي في لبنان. يقول نمور: «نعيد التأريخ للغاليريات التي افتتحت، للمعارض التي أقيمت فيها، نعاود بناء التاريخ الفني، من خلال الصور والملصقات وحتى بطاقات الدعوة التي طبعت، هذا غير الكتب والوثائق التي صارت بالآلاف».
تتجول في المتحف الذي يخصص ركنًا لكل نحات، هنا الفريد بصبوص له صالة خاصة. أعماله بمنحنياتها ودفئها وتكورها الرحمي، تعيدك إلى روح البصابصة، ليس بعيدًا عنه أعمال أخيه يوسف، وتلفتك بينها منحوتة كبيرة خشبية، لا تزال تدور على قاعدتها كمروحة لا تهدأ. إنها أشبه بطير يكاد يحلق من فرط الرهافة، كذلك تجد منحوتات رودي رحمة البديعة التي يصعب أن تمر بها دون أن تتوقف مليًا، أمام أجسادها المصقولة، وانسيابيتها الإغريقية. لرودي رحمة في هذا المتحف منحوتة ضخمة من البرونز عبارة عن تفاحة عملاقة يقف على عنقها رجل برجل واحدة، يحاول جاهدًا أن يجد اتزانه كي لا يسقط.
من مجموعة سيزار نمور الخاصة التي قضى حياته يتتبع خطى التشكيل أو تلك التي أهديت له حبًا كي تبقى محفوظة في هذا المكان، يأتيها الزوار من كل حدب وصوب، للتعرف على النحت اللبناني الحديث، يتشكل المتحف. في أحد الأقسام أعمال حسين ماضي المنتصبة، وهي تخلط بين التجريد والأنسنة، وكذلك معدنيات بولس ريشا التي تنحت إنسانها بتفريغه من الكتل الصلبة وتجعله خطوطًا ومنحنيات. ثمة منحوتة لافتة جدًا للفنانة ميراي حنين، تظن أنها كتاب ورقي، كتب على صفحتيه المفتوحتين نص موقع لسيزار نمور باللون الأسود، وقد وضعت في واجهة زجاجية خاصة بها، نظرًا لقيمتها الجمالية.
المتحف كبير وسقفه شاهق يصل إلى 7 أمتار، يعطيك إحساسًا بالرحابة والرهبة، وقد قسم إلى صالات وأجنحة. وما إن تخرج من قسم حتى تدخل في آخر، لتجد نفسك بين التجهيزات التي جمع منها الجميل والطريف وشديد الحداثة. من بينها تجهيز مكون من مكانس مصطفة وأمامها مجموعة من قصاصات الأوراق كتب عليها كلمات بالعربية والإنجليزية، تستحق الكنس والتخلص منها. ثمة تجهيز للفنانة التشكيلية ندى صحناوي، هو عبارة عن 3 مراحيض اصطفت أمام شاشة، تنتظر من يجلس إليها ويستمع إلى نشرة الأخبار. وقد تستمتع برؤية تجهيز «الربيع العربي» الظريف لرؤوف رفاعي الذي هو عبارة عن شخص يقف مقلوبًا، رجلاه إلى أعلى ورأسه إلى أسفل، وقد دخل الرأس في مقعد كرسي خشبي وعلق فيه. الاختناق بالكراسي رمز للربيع الدامي بالنسبة لهذا الفنان.
لا يكتفي «مقام» بأن يكون مجرد متحف للمجموعة الجميلة الدائمة التي حصل عليها، التي تشكل بوصلة لكل من يريد أن يتعرف على النحت اللبناني أو يقتني شيئًا منه، وإنما يجعل من متحفه أقرب إلى مركز ثقافي لعرض الأفلام وتقديم المسرحيات وتنظيم المحاضرات، هذا عدا المعارض التي تنظم في كل مرة، والمسابقات الفنية. وهذه الأيام فإن الصالة الرئيسية التي تدلف منها إلى باقي المتحف تستقبلك بمعرض لفنانين تباروا في تقديم أعمالهم بإعادة تدوير ما كان يفترض أن يكون بين النفايات. قطع خشب، أغطية زجاجات، تلفزيون قديم، مذياع أكل الدهر عليه وشرب، قطع من البلاستيك. بعض الفنانين نجحوا فعلاً بتقديم أعمال لافتة، مثل الفائزة الأولى التي صنعت تمثالاً لامرأة راقصة من علب المشروبات الغازية، وآخر شكّل رجلاً آليًا من بطاريات فرغت وأصبحت بلا جدوى، أو آلة عود من كرتون وخشب، وعصفور من قطع بلاستيكية مهملة.
أزمة النفايات التي تؤرق اللبنانيين، وبلدان كثيرة لا تعرف ماذا تفعل بمهملاتها، يحاول الفنانون أن يجدوا لها حلولاً ولو رمزية في هذا المكان الجبلي الأنيس.
يحلم سيزار نمور الذي يرصد الفن التشكيلي اللبناني منذ نصف قرن بأن يكبر الحلم، بأن يجد من يعاضد الخطوة، بأن يلتف حوله الفنانون وعشاق الإبداع. مشروع جميل ومجنون في وقت واحد، يأتي تحديدًا في الزمن الذي يبدو فيه كأن هذا الصنف من المخلوقات المغامرة بمالها ووقتها وجهدها، قد انقرض أو يكاد.
لزيارة موقع المتحف:
[email protected]



جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي
TT

جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي

ثمة فرق بين النقد الثقافي الساعي لإصلاح حال أمة ما وتسليط الأضواء على الأخطاء التي تعيق التطور من جهة، وجلد الذات الذي يصبح إدماناً، من جهة أخرى. هذا ما خطر ببالي وأنا أعيد قراءة كتاب الفيلسوف السعودي عبد الله العلي القصيمي «العرب ظاهرة صوتية». من وجهة نظره، العرب مُصوّتون فقط في حين لا يكتفي الآخرون بإصدار الأصوات، بل يتكلمون ويفكرون ويخططون وهم أيضاً خلاقون قاموا بإبداع الحضارات والقوة والفكر وتجاوزوا الطبيعة وفهموها وقاموا بتفسيرها قراءة فهم وتغيير وبحث عن التخطي والتفوق.

مثل هذا النقد مدمر لأنه يبشر بسقوط يستحيل النهوض منه لأن المشكلة في الجينات، والجينات لا يمكن إصلاحها. «العرب ظاهرة صوتية»، شعار رفعه العديد من الكتاب وأصبحت «كليشة» مكرورة ومملة، ولا يمكن أن يكون هذا التوجه نافعاً لأنه لا يضع خطة عمل، بل يرمي العربي في حفرة من الإحباط. مع أن هناك الكثير مما نراه من إنجازات دولنا في الجوانب النهضوية وأفرادنا على الصعيد العلمي ما يدعو إلى التفاؤل، لا الإحباط.

ما الذي خرج به جلد الذات الذي يمارسه المثقفون العرب على أنفسهم وثقافتهم بعد كل هذه العقود المتتابعة؟ بطبيعة الحال، ليس هذا موقف الجميع، إلا أن الأصوات المتطرفة توصلت إلى أن العرب لديهم مشكلة جينية، تمنعهم من مواكبة قطار الحداثة وإصلاح مشكلاتهم والانتقال إلى نظام الحياة المدنية المتحضرة. لا خلاف على تطوير أنظمة الحياة وتطبيق فلسفة المنفعة العامة للمجتمع وإعلاء قيمة حقوق الإنسان والحرية، وإنما الخلاف هو في هذا الوهم الذي يُخيل لبعض المثقفين أن المشكلة ضربة لازب وأنه لا حل، وهذا ما يجعل خطابهم جزءاً من المشكلة لا الحل، لأن هذا الخطاب أسس لخطاب مضاد، لأغراض دفاعية، يتجاهل وجود المشكلة وينكرها.

لا فائدة على الإطلاق في أن ننقسم إلى فريقين، فريق التمجيد والتقديس للثقافة العربية وفريق مشكلة الجينات. وأصحاب الرؤية التقديسية هم أيضاً يشكلون جزءاً كبيراً من المشكلة، لأنهم لا يرغبون في تحريك شيء، وذلك لأنهم يؤمنون بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، وإن دخلت معهم في نقاش فتحوا لك صفحة الماضي المجيد والانتصارات العسكرية وغزو العالم في العصر الوسيط يوم كان العرب حقاً متفوقين، وكان المثقف الأوروبي يتباهى على أقرانه بأنه يتحدث العربية ويفهم فلسفة ابن رشد.

يخطئ الإسلاميون، وهم من يرفع شعار التقديس، عندما يتخيلون أن تجربتهم هي التمثيل الأوحد للديانة الإسلامية، فالنص حمَّال أوجه وفي باطنه آلاف التفاسير، والناجح حقاً هو من يستطيع أن يتخلى عن قراءاته القديمة التي ثبت فشلها ولم تحل مشكلات الشعوب التي تتوق إلى الحياة الكريمة. يخطئ من يتصور أن بإمكانه أن يسحق الأقليات ويحكم بالحديد والنار، وها هي تجربة صدام حسين وبشار الأسد ماثلة أمام عيوننا.

لقد بدأت مشكلتنا منذ زمن قديم، فالأمة العربية الإسلامية أدارت ظهرها للعلم في لحظته المفصلية في قرون الثورة العلمية والاكتشافات، ولهذا تراجعت عن المكانة العظيمة التي كانت للحضارة العربية الإسلامية يوم كانت أقوى إمبراطورية على وجه الأرض. دخلت حقاً في عصور الانحطاط عندما رفضت مبدأ السببية الذي قام عليه كل العلم بقضه وقضيضه، وولجت في عوالم من الدروشة والتخلف، ليس فقط على صعيد العلوم المادية، بل على الصعيد الأخلاقي أيضاً، وأصبحت صورة العربي في الذاكرة الجمعية تشير إلى شخص لا يمكن أن يؤتمن ولا أن يصدّق فيما يقول. هذا ما يجعله ضيفاً ثقيلاً من وجهة نظر بعض المجتمعات الغربية التي لجأ إليها العرب للعيش فيها.

لقد عاش العربي في دول تقوم على فرق ومذاهب متباغضة متكارهة قامت على تهميش الأقليات التي تحولت بدورها إلى قنابل موقوتة. هذا المشهد تكرر في كل الأمم وليس خاصاً بالعرب، فنحن نعلم أن أوروبا عاشت حروباً دينية دموية اختلط فيها الديني بالسياسي وأزهقت بسببها مئات الآلاف من الأرواح، لكنهم بطريقة ما استطاعوا أن يداووا هذا الجرح، بسبب الجهود العظيمة لفلاسفة التنوير ودعاة التسامح والتمدن والتعامل الإنساني الحضاري، ولم يعد في أوروبا حروب دينية كالتي لا زالت تقع بين العرب المسلمين والأقليات التي تعيش في أكنافهم. العرب بحاجة إلى مثل هذا التجاوز الذي لا يمكن أن يحصل إلا في ضفاف تكاثر الدول المدنية في عالمنا، وأعني بالمدنية الدولة التي تعرف قيمة حقوق الإنسان، لا الدول التي ترفع شعار العلمانية ثم تعود وتضرب شعوبها بالأسلحة الكيماوية.

الدولة المدنية، دولة الحقوق والواجبات هي الحل، ومشكلة العرب ثقافية فكرية وليست جينية على الإطلاق. ثقافتنا التي تراكمت عبر العقود هي جهد بشري أسس لأنظمة أخلاقية وأنماط للحياة، وهذه الأنظمة والأنماط بحاجة إلى مراجعة مستمرة يديرها مشرط التصحيح والتقويم والنقد الصادق، لا لنصبح نسخة أخرى من الثقافة الغربية، وإنما لنحقق سعادة المواطن العربي وحفظ كرامته.