«المتمهن».. بناء الجسور في رواية تركية

إليف شافاق تكتب حكاية حبها لمدينة إسطنبول

جانب من مدينة إسطنبول القديمة - غلاف الرواية
جانب من مدينة إسطنبول القديمة - غلاف الرواية
TT

«المتمهن».. بناء الجسور في رواية تركية

جانب من مدينة إسطنبول القديمة - غلاف الرواية
جانب من مدينة إسطنبول القديمة - غلاف الرواية

الكاتبة التركية إليف شافاق تشترك مع الكثير من كتاب العالم اليوم في اختيارها للغة غير لغتها الأم لكي تكتب بها. نعرف الكثير من أولئك في الوطن العربي: كتاب أنجلوفونيون وفرانكوفونيون، ويعرف بقية العالم، غير الغربي غالبًا، الكثير منهم أيضًا. ولعل هذا الوجود البرزخي العبر ثقافي لأولئك الكتاب، سواء العرب أو غير العرب، هو ما يجعلهم قريبين من الأوضاع الإنسانية البرزخية أيضًا، حيث تتداخل ثقافات وتتبلور تطلعات وتعلو مشكلات يصعب تصورها خارج ذلك الإطار من القلق العابر للحدود وللوجود. ولعل ذلك القلق أحد الأسباب وراء شعبية شافاق العابرة للحدود أيضًا والتي تؤكدها ترجمة رواياتها إلى الكثير من اللغات يقال أنها بلغت الأربعين كانت العربية إحداها. إنها، كما يقول عن نفسه بطل روايتها التي أتحدث عنها هنا، «تحب الجسور».
رواية شافاق هي The Architect’s Apprentice) 2014) التي ترجمها إلى العربية محمد درويش بعنوان «الفتى المتيم والمعلم» (دار الآداب 2015). هنا تنعقد صلات مدارها الحب، الحب بين تلميذ ومعلم، وبين شاب وحيوان، وبين فتى وأميرة. يهيمن الحبان الأولان ويستمران بينما يصل الثالث في نهاية الرواية إلى اكتشاف محزن. الحب، ولعل الكلمة الأدق هي العشق، يتصدر الرواية من خلال اقتباسين من شاعرتين من القرن السادس عشر، شاعرة عثمانية وأخرى هندية. والقرن السادس عشر هو الفترة التاريخية للأحداث، ففي تلك الفترة رحل الفتى الهندي جهان مع فيله الأبيض المحبوب، وهو فيل شاب أيضًا، إلى قصر السلطان العثماني سليمان القانوني في إسطنبول، حيث تبدأ الحكاية بتعرف جهان على المعماري التركي الشهير سنان وانضمامه إلى تلاميذه المتمهنين، أو الراغبين في تعلم مهنة الهندسة المعمارية، وكذلك بتعرفه على ابنة السلطان محرمه (أو مهريمه، كما تتهجى). جهان هو مركز الانتباه وأعين السرد، رغم هيمنة السارد العليم، تكاد تتجه حيثما اتجهت عيناه وانصرف همه. نتابع علاقته الحميمة بالفيل الأبيض الصغير الذي جاء هدية من حاكم هندي، مثلما نتابع تعلقه بمحرمه، ومثلما نتابع، وهو الأهم، علاقته الحميمة أيضًا بأستاذه سنان.
علاقات الحب هذه تتشكل عبر رؤية غير مألوفة تلخصها عبارة إهداء تتصدر الرواية هي «إلى المتمهنين في كل مكان... لم يعلمنا أحد أن الحب هو الحرفة الأصعب». ما ليس بمألوف هنا ليس وصف الحب بالحرفة فحسب وإنما في توسيع أمداء الحب أيضًا بحيث يشمل الإنسان والحيوان وكذلك – وهنا مكمن جمال أيضا – العمارة. رواية شافاق حكاية حب لمدينة، لإسطنبول تحديدًا: كيف تشكلت معماريًا، الناس الذين بنوها، الرؤى والدماء التي نزفت لكي تُبنى، وعلاقات السلطة والهيمنة التي تقف في خلفيتها التاريخية. في ملاحظة ذيلت بها الرواية ذكرت شافاق أن العمل ولد من تأملها وهي في سيارة تاكسي في إسطنبول مبنى قديما كان المعماري سنان قد أنجزه، ثم واصلت البحث حتى عثرت على التاريخ المعماري للمدينة ودور المعلم الذي عرف بـ«المعمار سنان» الذي مات عن 99 عامًا في 1588، بعد أن عاصر ثلاثة من السلاطين العثمانيين آخرهم مراد الثالث. لكنها في قراءتها أيضًا عثرت على ما أوحى لها بشخصية جهان والفيل وعناصر سردية أخرى بعضها تاريخي والبعض متخيل، لتولد الرواية في النهاية من إعادة صياغة التاريخ بصورة تعبر عن رؤية فنية، ونظرات معمقة في حياة الإنسان وعلاقاته بما حوله. وأظن أن كثيرًا من كتاب الرواية التاريخية والمعنيين بها سيفيدون من ملاحظات الكاتبة في نهاية الرواية حول الكيفية التي حولت بها الأحداث والشخصيات التاريخية إلى أحداث وأشخاص روائية.
في رواية شافاق، التي أود ترجمة عنوانها إلى «الفتى المتمهن والمعماري» أو إلى «تلميذ المعماري»، وهي ترجمات لا تنقل إيحاءات الأصل، مثلما لا ينقله العنوان الذي اختاره درويش في ترجمته. في هذه الرواية التي تتجاوز الأربعمائة وخمسين صفحة ثراء من كل نوع: سردي وتاريخي ولغوي وفلسفي، مما يستحيل اختصاره هنا، ومع أني قرأت الأصل وليس الترجمة فإني أرجو أن تكون الترجمة المتوفرة للقارئ العربي قد نقلت شيئًا من ذلك الثراء، لكن حسْب الترجمات، كما هو حسْب المقالات التعريفية، أن توحي بالأصل، كل بمقدار. العلاقة الحميمة بين جهان والفيل من أجمل ما في الرواية، وكذلك هو إعجاب الفتى الهندي بالمعماري الشهير وما يصدر عن تلك العلاقة من رؤى معمقة تجاه البناء ودلالاته الفنية والإنسانية. أما العلاقات الاجتماعية، لا سيما أوضاع المضطهدين من نساء وعبيد وأسرى وأقليات كثيرة عاشت متجاورة في إسطنبول العثمانية، أولئك الذين لا يتذكرهم أحد، فمن الجوانب التاريخية التي تشرق الرواية بوصفها عن قرب وتعاطف كبير. في لقاء بين جهان وبائع الكتب سيميون يسأل البائع العجوز الفتى الهندي عن أفضل ما يجيد بناءه، فيرد جهان «أحب الجسور». والجسور بمعناها الأشمل محور رئيس للرواية، جسور بين الناس وبين الحضارات، بين سنان ومايكل أنجلو، وكانا متعاصرين، بين الإنسان والحيوان، بين الأقوياء والضعفاء. الجسور حوار بين ضفاف والعمارة، كما يقول سنان، «حوار مع الإله».
مع اقتراب الرواية من نهايتها تتكثف الرؤى حول معنى تلك العلاقات والأحداث. ينظر جهان في كبره إلى ماضيه فيتكشف له عن مأساة تكاد تختصر كل شيء: «لقد كرس حياته سنوات كثيرة لمدينة كان فيها – ولا يزال – غريبًا؛ حبه لامرأة لا تُطال؛ وشبابه وقوته لمهنة كانت، على الرغم من أهميتها، تُرفض لأتفه تغير في الأحداث». هنا تبدو الحياة من خلال مجاز معماري، مبنى هشا وقابلا للانهيار في أية لحظة. لكن وجوهًا أخرى للمأساة تتجاوز معاناة جهان وحده. أحد تلك الوجوه هي الحروب التي كان السلاطين يشنونها بين الحين والآخر سعيًا وراء الغنائم. يقول دافود، زميل جهان في تعلم العمارة والذي حل بالحيلة محل سنان في بلاط السلطان، وهو يوضح لزميله ما لم ينتبه له الزميل البريء: «كل مسجد هائل بنيناه قام على ثروة جاءت من غزوة أخرى. في طريقه إلى أرض المعركة دمر الجيش قرى وقتل المزيد من أهل بلادي. لم يهتم معلمنا لآلامهم. رفض أن يرى ذلك، فدون سفك الدماء في أماكن أخرى، لم يكن المال ليتوفر، ودون المال لم يكن مبنى ليقوم في العاصمة». ذلك هو الوجه الآخر للحضارة يراه المهمشون وإن احتلوا مراكز قوة فيما بعد، مصداقًا لقول فالتر بنيامين: لا توجد وثيقة لحضارة ليست في الوقت نفسه وثيقة لبربرية.
من المشاهد الأكثر بربرية وإيلامًا، المشاهد التي يراها المهمشون بل يعيشونها، مشهد يأتي في ختام الرواية. إنه مشهد المحظيات اللاتي كن في قصور السلاطين وانتهت «صلاحيتهن». نراهن في مشهد مأساوي وقد جمعن في مبنى منعزل يأكلن ويشربن حتى جاءت النهاية وقد عجلت بها أحداث مختلفة، منها صراعات الحرملك والدخول في مؤامرات ومكائد مختلفة، كما أن منها فقدانهن لسر جاذبيتهن لأسيادهن. في مشاهد كتلك تهبط بنا الرواية إلى جحيم دانتي، بعد أن صعدت بنا إلى جناته المتمثلة بجماليات العمارة ونعيم القصور. لكن مجمل الرواية وأحداثها تنفرش أمامنا على ما يشبه المطهر الكبير، حيث تعتلج الأحداث وتعلو الطموحات ثم تموت.



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.