المدينة المنورة.. تراث حي يعيش ازدهار الحاضر وطموحات المستقبل

رحلة خاصة إلى أولى عواصم الإسلام (1 من 2)

المدينة المنورة.. تراث حي يعيش ازدهار الحاضر وطموحات المستقبل
TT

المدينة المنورة.. تراث حي يعيش ازدهار الحاضر وطموحات المستقبل

المدينة المنورة.. تراث حي يعيش ازدهار الحاضر وطموحات المستقبل

منذ تعرّفت إلى المملكة العربية السعودية، في خريف 1979، وفي خاطري زيارة المدينة المنورة. وخلال فترة إقامتي في مدينة الخُبَر بالمنطقة الشرقية، كان زميل لي يسافر إلى المدينة مرة كل شهر لزيارة شقيق له يعمل فيها، وكان يُخبرني عنها الكثير.
لم أسعد طيلة نحو سنتين بالقيام بتلك الزيارة، مع أنني جُلت في مختلف أنحاء المنطقة الشرقية من الجبيل شمالا إلى الأحساء جنوبا. ثم بعد زيارة قصيرة إلى الرياض، انتقلت إلى المنطقة الغربية فأقمت خلالها أربعة أشهر في جدة، وزرت إبّان إقامتي هناك مكة المكرمة والطائف. غير أن زيارة المدينة المنورة ظلت بالنسبة لي حلما طالما رجوت أن يتحقق. وبالفعل، تحقّق - ولله الحمد - خلال فبراير (شباط) الماضي.
المدينة المنورة، التي عُرفت عبر تاريخها بأسماء منها يثرب وطيبة، هي اليوم حاضرة تضجّ بالحياة والمشاريع والنشاطات التنموية والاستثمارية والثقافية، وإن كانت لا تبدو كذلك لأول وهلة لمَن يقصدها برّا من جدة. تلك الأبنية التي شيّد معظمها خلال العقود الثلاثة الأخيرة في بعض ضواحيها لا تتميّز بطابع معماري جذاب، وبالتالي، لا تعبّر بصدق عمّا في وسطها النابض بالحياة، ولكن مع الاقتراب من وسطها تتغيّر الصورة المعمارية تماما. فهنا أبنية جميلة لافتة معماريا، من المباني التجارية والخدمية، إلى المساجد الرائعة الذائعة الصيت.
المدينة المنورة اليوم عبارة عن «ورشة» دائمة وحركة دؤوبة. طموحٌ وتخطيط للمستقبل لعلّ خير ما يختصره أن الكثير من المباني الضخمة العصرية العالية في محيط الحرَم النبوي الشريف، وكلها شيّدت حديثا، ستُزال بموجب المخطّطات التي أقرّت حديثا للتوسعة الجديدة للحرم. وفوق هذا احتفلت المدينة المنورة هذا العام باختيارها «عاصمة للثقافة الإسلامية»، وهو ما أهّلها لاستضافة عدد كبير من الفعاليات الثقافية المتميّزة ولقد سعدت بالاطلاع على معرضين رائعين للخطّ العربي والصور التاريخية.
الواقع أننّي منذ أيام المدرسة ألِفتُ أسماء مواضع عدّة في المدينة. وفي ما بعد، اطّلعت في كتاب «أطلس تاريخ الإسلام» للدكتور حسين مؤنس (طبعته دار الزهراء للإعلام العربي 1986) على خريطة المدينة في أيام الرسول (صلى الله عليه وسلّم)، ولقد أجابت خريطتان يومها في الكتاب على جملة من تساؤلاتي لجهة المواضع التي كنت قرأت عنها وودّدت التعرف إليها.
قرأت عن يوم بُعاث بين الأوس والخزرج، آخر الفتن بين الأنصار قبل الهجرة النبوية بخمس سنوات، وعن مسجد قُباء أول مسجد في الإسلام. وقرأت عن «الخندق» الذي حُفِر عند سفح جبل سلع لمنع الأحزاب المتحالفة مع قريش من مهاجمة المسلمين المتحصّنين إبّان الغزوة التي حملت اسمي «الأحزاب» و«الخندق».
مسجد النبي (صلّى الله عليه وسلّم) وبقيع الغرقد وبُعاث والعقيق وجبل أحُد وثنية الوداع وحُرُض ووادي مهزور ووادي بطحان وقباء... كلها أسماء كَم ودّدت أن أراها، وأتيح لي ذلك في الشهر الماضي. كل هذه الأماكن تقع اليوم في بقعة صغيرة محدودة المساحة من المدينة المترامية الأطراف، التي يقارب تعداد سكانها المليون نسمة، وتمتد في أرض منبسطة وسفوح ومرتفعات تحفّ بها جبال تعطيها مشهدا لا يُنسى.
جغرافية المدينة
وسط المدينة، أي محيط الحرم النبوي، مكان سهلي تحتضنه مرتفعات تشكل أجزاء من حرّتين هما حرّة واقم إلى الشرق وحرّة الوبرة إلى الغرب. ويقطع هذا المكان بضعة وديان تصبّ فيه وتلتقي عنده منها وادي مذينيب ووادي مهزور شرقا - وبينهما بُعاث - ووادي رانوناء جنوبا. وترسم الوديان الثلاثة معا، عند ما يُعرف بالعالية، وادي بطحان الممتدّ شمالا.
قُباء تقع جنوبي العالية، وإلى الغرب منها جبل عير، وإلى الشمال من هذا الجبل كتلة جبلية تضم جبل بني عبيد وحرّة الوبرة تفصل وادي بطحان عن وادي العقيق الممتدّ متوازيا معها من الشمال إلى الجنوب إلى الغرب من وسط المدينة.
وعند الطرف الشمال الشرقي من وادي العقيق يمتد جبل أحُد من الشرق إلى الغرب، يفصله وادي قناة عن وسط المدينة، عبر الجرف والعرصة، ثم راتج والسافلة والسنح والبقيع على حرّة واقم الممتدة في شمال شرقي وسط المدينة وقلبه، حيث الحرم.
وإلى الغرب من الحرم ينتصب جبل سلع، أقرب المرتفعات إلى نقطة وسط المدينة شرقي حرة الوبرة، وإلى الشمال منها ومنه وبينهما وجبل أحُد، ثنية الوداع التي كانت فعليا مدخل المدينة الشمالي الغربي. وإلى الشمال من ثنية الوداع في أرض منبسطة غربي الجرف، تلتقي وادي العقيق بالوادي الذي يجمع واديي بطحان وقناة عند مجمع الأسيال وبئر رومة. هكذا كانت يثرب، أو المدينة المنورة، في أيام الهجرة.. مكانا صغيرا لا يمتد إلا على بضعة كيلومترات مربّعة.
أما عن الاسم، فوفق بعض المراجع التاريخية والجغرافية، ومنها «معجم البلدان» لياقوت الحموي أن المدينة حملت اسم يثرب «لأن أول من سكنها عند التفرّق يثرب بن قانية - أو قاينة - بن مهلائيل بن إرم بن عبيل بن عوص بن سام بن نوح عليه السلام، فلما نزلها رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، سماها طيبة وطابة كراهية للتثريب، وسمّيت مدينة الرسول لنزوله بها». وجاء في شرح ذلك أن التثريب هو التعيير فـ«لا تثريب عليكم» تعني لا تعيير عليكم ولا عيب. وقال ابن عباس، رضي الله عنه: «من قال للمدينة يثرب فليستغفر الله ثلاثا إنما هي طيبة».
وعلى مرّ العصور، أنطقت مكانة المدينة الدينية والسياسية والثقافية، ناهيك من مغانيها وطبيعتها، الشعراء بحبّها والتشوّق إليها، فقال فيها حكيم بن عكرمة الديلمي:
لعمرك، للبلاط وجانباه
وحرّة واقمٍ ذات المنار
فجمّاء العقيق فعرصتاه
فمُفضي السّيل من تلك الحرار
إلى أحُد فذي حُرُضٍ فمبنى
قباب الحيّ، من كنفي ضرار
أحبُّ إلي من فجٍ ببُصرى
بلا شك هناك ولا ائتمار
ومن قريات حمصَ وبعلبكّ
لو انّي كنت أجعل بالخيار
وقال عنها ابن الطيب الشرقي الفاسي:
إذا لم تطبْ في طيبة عند طيّبٍ
به طيبة طابت فأين تطيبُ
وإن لم يُجب في أرضها ربُّنا الدعا
ففي أي أرض للدعاء يجيبُ
أيا ساكني أكناف طيبة كلّكُم
إلى القلب من أجل الحبيبِ حبيبُ
ومنهم من المعاصرين علي حافظ، ابن المدينة، الذي قال فيها:
سقاك الله يا تلك المغاني
بطيبتنا فما أحلى رُباها
وباركها النسيم بكل عطرٍ
يفوح شذى وينمو في ثراها
فما أحلى المقيل بسفح سلعٍ
وفي وادي العقيق وفي قُراها
نشاطات لا تهدأ
اليوم كل تلك المواقع التاريخية تشكل القلب أو مركز المدينة العصرية الحديثة الواسعة الأرجاء، التي تضم جامعتين كُبريين (الجامعة الإسلامية وجامعة طيبة)، وفنادق حديثة تديرها مجموعات فندقية دولية، ومعظم الخدمات الاجتماعية والدينية والتعليمية والصحية والمالية والترفيهية في المنطقة، كما تقوم فيها جميع فروع الوزارات وهيكلها الإداري شبه متكامل. ويصلها بالعالم الخارجي مطار دولي عصري تستخدمه ما لا يقل عن 12 شركة طيران عربية وأجنبية، وأكثر منها إبان موسم الحج.
وراهنا، ثمّة استثمارات مالية ضخمة جدا في المدينة تشمل جميع القطاعات الاقتصادية، بل في أول أيام وجودي في المدينة، خلال فبراير (شباط) الفائت استضاف فندق الميريديان الراقي فعاليات «منتدى الاستثمار بالمدينة المنورة» الذي افتتحه الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، أمير منطقة المدينة المنورة، وكان بالنسبة لي خير تعريف على التخطيط الدؤوب للمستقبل في أولى عواصم الإسلام. وفي اليوم التالي عبرت الشارع من الفندق نفسه فزُرت المعرض البديع لفن الخط العربي والصوَر القديمة، الذي يحمل اسم {حروف وإضاءات} المقام بالتعاون مع المتحف البريطاني. ومنها صوَر «الأغوات» المرتبطين بالحرم النبوي، وكان بين اللوحات البديعة المعروضة لوحات قيمة من مجموعات خاصة.
متحف المدينة المنورة
الواقع أن «منتدى الاستثمار» كان واحدا من جملة من مظاهر ورشة العمل الدؤوب الجاري. فخلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي افتتح الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، والأمير ‏فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، المرحلة الأولى من متحف السكة الحديد بالمدينة - «متحف المدينة المنورة» - ضمن فعاليات «ملتقى التراث العمراني الوطني الثالث»، وذلك بعدما أنجزت «الهيئة العامة» أعمال ترميم مباني محطة سكة حديد ‏الحجاز وتأهيلها، ومن ثَم تحويلها إلى هذا المتحف الذي ‏يعرض تاريخ المدينة منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى العصر ‏الحديث. ويُضاف إليه متحف آخر في ورشة إصلاح القاطرات بالمحطة، ‏يعرض تاريخ سكة حديد الحجاز، ويضم قاعة المعارض الزائرة والمؤقتة، ‏وقاعة المحاضرات والعرض المرئي، إلى جانب سوق للحرفيين، ومتجر ‏المتحف والمقهى الشعبي، ومطعم القطار الذي يشمل ترميم 12 عربة ‏قطار كمطعم للعائلات‎.
ويشتمل «متحف المدينة المنورة» في المرحلة الأولى على 14 قاعة ‏عرض تضم: بهو المتحف، وقاعات بيئة المدينة وتاريخها الطبيعي، ‏والمدينة (يثرب) قبل الإسلام، والمدينة المنورة في العهد النبوي، وقاعة زوجات ‏الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأبنائه، وقاعتي الأنصار والمهاجرين، ‏وقاعة المسجد النبوي الشريف، وقاعات المدينة في عهد الخلفاء الراشدين، ‏وخلال العصور الإسلامية والمدينة في عهد الدولة السعودية الأولى وفي ‏عهد الدولة السعودية الثانية، وفي عهد الملك عبد العزيز، وقاعة التراث ‏المديني‎.
أما المرحلة الثانية فتتضمن تشييد مبنى بمساحة 12 ألف ‏متر مربع، يحتوي خمس قاعات هي: قاعة المدينة المنورة عبر العصور، ‏وقاعة موجودات مكتبة الملك عبد العزيز وقاعة موجودات المسجد النبوي ‏الشريف، وقاعة الطفل، وقاعة «عيش السعودية»، ومن المخطط له أن تستضيف هذه القاعات عروضا رقمية تفاعلية تستخدم خلالها التقنيات السمعية والبصرية ‏الحديثة بغية تجسيد تاريخ المدينة ومخططاتها العمرانية عبر ‏المراحل المختلفة.‏
مرافق المدينة الأخرى
على صعيد آخر، تشكل المدينة المنورة اليوم نقطة الإشعاع لشبكة الطرق الإقليمية، إذ يلتقي فيها كل من طريق الهجرة السريع جنوبا وطريق ينبع غربا وطريق تبوك شمالا وطريق القصيم شرقا.
ووفق البيانات الرسمية تبلغ مساحة منطقة الإشراف المباشر للمدينة المنورة نحو 2596,5 كلم مربع، وتمثل نحو 10,3 في المائة من إجمالي مساحة نطاق المدينة ومراكزها. ثم إن هناك أكثر من 158 مصنعا منتجا في الصناعات غير النفطية، وتقدّر البيانات حجم العمالة في هذا القطاع بنحو تسعة آلاف عامل ما يشكّل نسبة تقارب 53,3 في المائة من العمالة في المنطقة. وتشير الدراسات الجيولوجية إلى وجود خامات الذهب والفضة في المنطقة، كما تضم المنطقة الكثير من الخامات الاستثمارية التي تصلح كمواد بناء، هذا بالإضافة إلى وجود مكمن لمخزون مائي تحت سطح حرة رهط. ويغطّي النطاق الإشرافي للمدينة المنورة شبكة طرق جيدة في ثلاث حلقات دائرية تعتبر مركز الإشعاع للطرق السريعة والرئيسة بالمنطقة. وبالتالي، فهناك ربط قوي بين المدينة ومراكزها. وعلى صعيد الموارد المائية يتغذّى النطاق الإشرافي للمدينة بالمياه من مياه التحلية المجلوبة من محطة التحلية في مدينة ينبع (ينبع البحر)، الميناء التاريخي للمدينة المنورة، وحصّة المدينة المنورة منها 72 ألف م3/ يوميا، وهي تصل إلى المدينة من خلال خط رئيس قطره 32 بوصة، ويجري عبر الشبكة القائمة التي تخدم 95 في المائة من المناطق السكنية بالمدينة، أما باقي المناطق فتخدم بالشاحنات - الصهاريج.
هذا، ومن المقرّر افتتاح المرحلة الثانية من التحلية، التي تبلغ حصة المدينة منها 200 ألف م3/يوم تصل المدينة من خلال خط أنابيب حديدي قطره 52 بوصة تنساب منه المياه المزالة ملوحتها من خزانات المفرحات إلى المدينة انسيابا طبيعيا. وجارٍ حاليا أيضا إعادة تخطيط واستكمال شبكات المياه والصرف الصحي في المنطقة المركزية حول الحرم النبوي الشريف حيث جرت عملية إعادة تخطيط كامل للمنطقة المركزية.
وأما على صعيد الطاقة الكهربائية، فيتغذى النطاق الإشرافي للمدينة المنورة بالكهرباء اليوم عن طريق الشبكة 380 ك.ف، وكذلك محطات آبار علي وطريق المطار، وتبلغ القدرة الاسمية لهذه المحطات 452,700 ميغاواط، والفعلية 352,000 ميغاواط. وتغطي شبكة الكهرباء معظم المدينة المنورة. وتغطي شبكة الهاتف المدينة المنورة بواسطة 11 مقسما موزعة جغرافيا على عدة أحياء.
باختصار، المدينة المنورة حالة عمرانية ونهضوية لم تنمْ على مجد الماضي، بل تستشرف المستقبل وتواكب تحدياته بخُطى واثقة.



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.