في العيد.. لا تصدقوا المتنبي!

في العيد.. لا تصدقوا المتنبي!
TT

في العيد.. لا تصدقوا المتنبي!

في العيد.. لا تصدقوا المتنبي!

تأتي الأعياد فلا تجد بهجتها، تآمر عليها أبو الطيب المتنبي وجنود الخلافة الداعشية فسرقوا فرحتها، وخطفوا بسمتها، وجردوها من زهوها وحلاوتها. أولئك بأفعالهم المشينة، وذاك الشاعر العملاق بشطر بيت يكفي ليصبغ أعيادنا بالأسى.
كلما جاء عيد، انتصب في ذاكرتنا بيتُ أبي الطيب المتنبي: «عيدٌ بأية حالٍ عُدتَ يا عيدُ.. بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ»، يفتشُ أبو الطيب عن ركامٍ وأنقاض حتى يقف فوقها منشدًا هذا البيت، ويردد صداه عشرات الكتاب والمعلقين الذين يتناقلون بيته جيلاً بعد جيل ليفسدوا علينا فرحتنا. يستكثرُ علينا أبو الطيب المتنبي أن نفرح، أو نفتش بين مآسينا عن بصيص أمل، أو بسمة نرسمها على وجوهنا نتقي بها من الكآبة.
لقد خدعنا أبو الطيب المتنبي أكثر من ألف عام. فتلك القصيدة العابسة المكفهرة لا علاقة لها بمآسي الزمان ولا سوء الأحوال، كانت مجرد منشور سياسي اختطه المتنبي في خضم صراع شخصي وانتهازي وساذج مع أبي المسك كافور الإخشيدي (905م-968م)، باختصار كان يريد عطايا ومناصب من حاكم مصر كافور فلم يحصل عليها، ففرّ منه وهجاه بهذه القصيدة.
خصومة المتنبي مع كافور الإخشيدي كانت مسرحًا مفتوحًا طيلة قرون من الزمان تروي حكاية المثقف مع السلطة. المتنبي كان نموذجًا للمثقف الوصولي الانتهازي، وكانت مواقفه تعبر عن مصالحه لا عن قناعاته، وحين تقّرب من كافور، منحه كل المكرمات والمزايا النبيلة، وحين خاصمه قال فيه من الهجاء ما يشبه الدمار الشامل. شظية من ذلك الهجاء أصابتنا نحنُ فصار شطر بيت واحد منها: (عيدٌ بأية حالٍ عدتَ يا عيدُ) كفيلا بتخريب أفراحنا وتدمير أعيادنا.
بالغ المتنبي في مدحه لكافور، كما بالغ في هجائه، وكانت عيناه مصوبتين نحو نعيم السلطة وعطاياها.. ولأنه المتنبي فقد كان يرجو ما هو أكبر من منحة أو هبة أو مكرمة، كان يريد قسطًا من السلطة، دون أن يعي أن هذا الطموح هو الثقب الأسود الذي يهوي فيه أي مثقف. قال المتنبي يمدح أبا المسك كافور:
كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا
وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا
قَواصِدَ كافورٍ تَوارِكَ غَيرِهِ
وَمَن قَصَدَ البَحرَ استقلّ السَواقِيا
تَرَفَّعَ عَن عَونِ المَكارِمِ قَدرُهُ
فَما يَفعَلُ الفَعلاتِ إِلّا عَذارِيا
يُبيدُ عَداواتِ البُغاة بِلُطفِهِ
فَإِن لَم تَبِد مِنهُم أَبادَ الأَعاديا
أَبا المِسكِ ذا الوَجهُ الَّذي كُنتُ تائِقًا
إِلَيهِ وَذا الوَقتُ الَّذي كُنتُ راجيا
وحين خاصمة، تنّكر لجميع خصاله، واستحضر - كما يفعل أي مثقفٍ متطرف أو مؤدلج - كل أدوات الخصام الجائرة ورمى بها خصمه، حتى إن المتنبي راح يعيب على كافور لونه وجنسه وعرقه وملامح وجهه، من تلك القصيدة أورثنا المتنبي طعمًا مرًا لأعيادنا، ورحنا نردد شطر بيته دون أن نعي أن هذا المثقف الماكر يصفي عداواته الشخصية على حسابنا، يقول المتنبي في هجائه لكافور:
أكُلّمَا اغتَالَ عَبدُ السّوْءِ سَيّدَهُ
أوْ خَانَهُ فَلَهُ في مصرَ تَمْهِيدُ
صَارَ الخَصِي إمَامَ الآبِقِينَ بِهَا
فالحُرّ مُسْتَعْبَدٌ وَالعَبْدُ مَعْبُودُ
لا تَشْتَرِ العَبْدَ إلا وَالعَصَا مَعَهُ
إنّ العَبيدَ لأنْجَاسٌ مَنَاكيد
مَنْ عَلّمَ الأسْوَدَ المَخصِي مكرُمَة
أقَوْمُهُ البِيضُ أمْ آبَاؤهُ الصِّيدُ
العيد فرصة للفرح والسعادة.. ولكنه فرصة أكبر للأمل الضروري لتجديد الحياة، مهما حاول مثقفون نرجسيون – كما فعل المتنبي - أن يطفئوا أنواره ويصبغوه بالمآسي والإحباط.. بينما هم يرفلون في النعيم.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.