تأتي الأعياد فلا تجد بهجتها، تآمر عليها أبو الطيب المتنبي وجنود الخلافة الداعشية فسرقوا فرحتها، وخطفوا بسمتها، وجردوها من زهوها وحلاوتها. أولئك بأفعالهم المشينة، وذاك الشاعر العملاق بشطر بيت يكفي ليصبغ أعيادنا بالأسى.
كلما جاء عيد، انتصب في ذاكرتنا بيتُ أبي الطيب المتنبي: «عيدٌ بأية حالٍ عُدتَ يا عيدُ.. بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ»، يفتشُ أبو الطيب عن ركامٍ وأنقاض حتى يقف فوقها منشدًا هذا البيت، ويردد صداه عشرات الكتاب والمعلقين الذين يتناقلون بيته جيلاً بعد جيل ليفسدوا علينا فرحتنا. يستكثرُ علينا أبو الطيب المتنبي أن نفرح، أو نفتش بين مآسينا عن بصيص أمل، أو بسمة نرسمها على وجوهنا نتقي بها من الكآبة.
لقد خدعنا أبو الطيب المتنبي أكثر من ألف عام. فتلك القصيدة العابسة المكفهرة لا علاقة لها بمآسي الزمان ولا سوء الأحوال، كانت مجرد منشور سياسي اختطه المتنبي في خضم صراع شخصي وانتهازي وساذج مع أبي المسك كافور الإخشيدي (905م-968م)، باختصار كان يريد عطايا ومناصب من حاكم مصر كافور فلم يحصل عليها، ففرّ منه وهجاه بهذه القصيدة.
خصومة المتنبي مع كافور الإخشيدي كانت مسرحًا مفتوحًا طيلة قرون من الزمان تروي حكاية المثقف مع السلطة. المتنبي كان نموذجًا للمثقف الوصولي الانتهازي، وكانت مواقفه تعبر عن مصالحه لا عن قناعاته، وحين تقّرب من كافور، منحه كل المكرمات والمزايا النبيلة، وحين خاصمه قال فيه من الهجاء ما يشبه الدمار الشامل. شظية من ذلك الهجاء أصابتنا نحنُ فصار شطر بيت واحد منها: (عيدٌ بأية حالٍ عدتَ يا عيدُ) كفيلا بتخريب أفراحنا وتدمير أعيادنا.
بالغ المتنبي في مدحه لكافور، كما بالغ في هجائه، وكانت عيناه مصوبتين نحو نعيم السلطة وعطاياها.. ولأنه المتنبي فقد كان يرجو ما هو أكبر من منحة أو هبة أو مكرمة، كان يريد قسطًا من السلطة، دون أن يعي أن هذا الطموح هو الثقب الأسود الذي يهوي فيه أي مثقف. قال المتنبي يمدح أبا المسك كافور:
كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا
وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا
قَواصِدَ كافورٍ تَوارِكَ غَيرِهِ
وَمَن قَصَدَ البَحرَ استقلّ السَواقِيا
تَرَفَّعَ عَن عَونِ المَكارِمِ قَدرُهُ
فَما يَفعَلُ الفَعلاتِ إِلّا عَذارِيا
يُبيدُ عَداواتِ البُغاة بِلُطفِهِ
فَإِن لَم تَبِد مِنهُم أَبادَ الأَعاديا
أَبا المِسكِ ذا الوَجهُ الَّذي كُنتُ تائِقًا
إِلَيهِ وَذا الوَقتُ الَّذي كُنتُ راجيا
وحين خاصمة، تنّكر لجميع خصاله، واستحضر - كما يفعل أي مثقفٍ متطرف أو مؤدلج - كل أدوات الخصام الجائرة ورمى بها خصمه، حتى إن المتنبي راح يعيب على كافور لونه وجنسه وعرقه وملامح وجهه، من تلك القصيدة أورثنا المتنبي طعمًا مرًا لأعيادنا، ورحنا نردد شطر بيته دون أن نعي أن هذا المثقف الماكر يصفي عداواته الشخصية على حسابنا، يقول المتنبي في هجائه لكافور:
أكُلّمَا اغتَالَ عَبدُ السّوْءِ سَيّدَهُ
أوْ خَانَهُ فَلَهُ في مصرَ تَمْهِيدُ
صَارَ الخَصِي إمَامَ الآبِقِينَ بِهَا
فالحُرّ مُسْتَعْبَدٌ وَالعَبْدُ مَعْبُودُ
لا تَشْتَرِ العَبْدَ إلا وَالعَصَا مَعَهُ
إنّ العَبيدَ لأنْجَاسٌ مَنَاكيد
مَنْ عَلّمَ الأسْوَدَ المَخصِي مكرُمَة
أقَوْمُهُ البِيضُ أمْ آبَاؤهُ الصِّيدُ
العيد فرصة للفرح والسعادة.. ولكنه فرصة أكبر للأمل الضروري لتجديد الحياة، مهما حاول مثقفون نرجسيون – كما فعل المتنبي - أن يطفئوا أنواره ويصبغوه بالمآسي والإحباط.. بينما هم يرفلون في النعيم.
في العيد.. لا تصدقوا المتنبي!
في العيد.. لا تصدقوا المتنبي!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة