بعد «البريكست».. ألمانيا المرتبكة تصارع لقيادة أوروبا

برلين رسّخت مكانتها في أوروبا وتسعى لتعويض التراجع البريطاني

بعد «البريكست».. ألمانيا المرتبكة تصارع لقيادة أوروبا
TT

بعد «البريكست».. ألمانيا المرتبكة تصارع لقيادة أوروبا

بعد «البريكست».. ألمانيا المرتبكة تصارع لقيادة أوروبا

قد تواجه بريطانيا خطر الانغلاق على نفسها ويتقلص تأثيرها عقب التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. ولكن ثمة دولة واحدة قد تجد صوتها في أوروبا يتضخم بشكل كبير للغاية، وهي ألمانيا.
وتمكّنت الدولة ذات الاقتصاد الأكبر في أوروبا من الوصول إلى ذروة تأثيرها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية بفضل قيادة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. غير أن الرحيل الوشيك لثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، قد يلقي بعبء أكبر بكثير على القيادة في ألمانيا.
ولا يزال بعض الأوروبيين في حالة خوف من القوة الألمانية، حيث إن الاتحاد الأوروبي أنشئ في الأساس لمواجهة بروز برلين كقوة مهيمنة في القارة الأوروبية. غير أن الكثيرين الآن باتوا يخشون تراجع ألمانيا عن مقعد القيادة، تاركة أوروبا لتنزلق نحو أزمة سياسية واقتصادية.
وتجدر الإشارة إلى أن صوت ألمانيا الأقوى يرتكز على اقتصادها الضخم وعلى استقرارها أيضًا، في وقت وجدت فيه مجموعة من الدول نفسها غارقة في أزمات لا تعد ولا تحصى أو تتجه بأنظارها نحو الانغلاق على نفسها والتركيز على الشأن الداخلي بها فحسب.
وعلى الرغم من ذلك، فما من دولة قلقة على صعودها أكثر من ألمانيا نفسها. وعلى سبيل المثال، قامت جنيفر فيتنون، وهي خريجة جامعية تبلغ من العمر 22 عامًا درست الاقتصاد والفلسفة بجامعة مانهايم، مؤخرًا بإطلاق حملة عبر وسائل الإعلام الاجتماعية مع 500 آخرين من منظمة شباب حزب الخضر. وتهدف الحملة إلى مطالبة الألمان بالتوقف عن رفع الأعلام الوطنية خلال مباريات بطولة كرة القدم الأوروبية.
ورغم ذلك فإن حملتهم ضد رموز القوة الألمانية أثارت جدلاً وطنيًا كبيرًا، لكن فيتنون وجماعتها ليسوا بمفردهم، حيث انخرطت المنظمات الطلابية الأخرى في صفوفهم انتصارًا لقضيتهم. وفي برلين والأنحاء الأخرى من البلاد، نشرت بعض المطاعم علامات أو تحديثات من موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» خلال كأس الأمم الأوروبية 2016. محذرين روادهم وزبائنهم ضد إظهار مشاعر الوطنية ومنع ألوان العلم الألماني، الأحمر والذهبي والأسود.
وقالت فيتنون، إنه في أعقاب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «ثمة خطر يتمثل في أن ألمانيا ستدفع بنفسها أكثر من اللازم لمرتبة الصدارة، مستخدمة قوتها الاقتصادية لممارسة الهيمنة السياسية في أوروبا». وأصرت على أن ألمانيا لا ينبغي عليها أن تحتل مركز الصدارة في القارة نظرًا للرعب الذي شكلته الحرب العالمية الثانية. وأضافت: «بالنسبة لي، لا يمكننا أبدا التخلص من النزعة القومية للحقبة النازية في البلاد».
وقال فريدريش: «من الواضح أن المسؤولية بالفعل تزيد على كاهل ألمانيا، عقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي». غير أنه انتقد الحملة المضادة للأعلام الوطنية قائلاً إنها: «توضح كيف أن بعض أجزاء المجتمع الألماني لا تزال ذات علاقات مضطربة مع هويتها.. وأعتقد أنه أمر مخزٍ للغاية».
ومن دون بريطانيا، وهي دولة مدافعة عن العولمة والتجارة الحرة، يتساءل بعض المحللين حول كيفية ومدى نجاح ألمانيا في تحويل الدفة في أوروبا ضد الدول الأكثر تأييدًا لمذهب الحماية والدول المعنية بشؤونها الداخلية في المقام الأول، مثل فرنسا وإيطاليا. ومع ذلك، فعندما يتعلق الأمر بالقيادة، فقد لا يكون أمام الألمانيين الكثير من الخيارات. فإن كانت ألمانيا هي «من تقرر» لأوروبا، فلا يعني ذلك أنها من سعت وراء القيام بهذا الدور.
فبعد أن كان يطلق عليها «رجل أوروبا المريض» في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بسبب المشاكل المالية التي أعقبت الوحدة، صار يضرب اقتصادها الآن نموذجًا عالميًا يُحتذى به، وإن كانت ألمانيا الآن كما يرى الكثيرون لم تصبح الأقوى تمامًا بكل ما في الكلمة من معانٍ.
وعلى الرغم من أنها تحتل مركز الصدارة عالميًا من أجل مكافحة التغير المناخي، فلا تزال ألمانيا ذات قوة دبلوماسية خجلة بعض الشيء تدعمها القوة العسكرية. وعوضًا عن ذلك، فإن ألمانيا تحت قيادة ميركل تمارس نوعًا من قيادة ما بعد الحداثة، وهو مثال يحتذى به من خلال توافق الآراء.
ويُظهر سعي ميركل لخروج متمهل ومنظم لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حتى وإن كان بعض باقي الدول الأعضاء يظهرون نفاد صبر حاد إزاء ذلك، الأسلوب المنهجي الذي تُعرف به ميركل داخل ألمانيا. وإن كانت ميركل حازمة مع بريطانيا، فإنها تتجنب أيضًا توجيه أي إهانة لها، لأنها تعلم جيدًا أن ذلك لن يصب في صالح أوروبا.
وتبدو ألمانيا أقوى اليوم، نظرًا لضعف جيرانها. فبريطانيا تترك المسرح، وفرنسا تُغرقها المشكلات الاقتصادية والحرب على الإرهاب، وإسبانيا وإيطاليا تواجهان البطالة الهائلة وعدم الاستقرار السياسي. وانغلقت كل من بولندا والمجر على أنفسهما لاحتضان القومية. أما اليونان، فهي تواجه أسوأ ما يمكن أن تواجهه دولة.
«يرجع السبب في الهيمنة الألمانية على أوروبا لاستسلام فرنسا الصامت»، بحسب كورالي دلوم، صحافي فرنسي بصحيفة «لوفيغارو» أبدى ضيقا شديدا من الخروج البريطاني. فعندما أظهرت فرنسا قيادتها للاتحاد الأوروبي، بدت في صورة فوضوية مثل ملك صغير يجري تنصيبه. فالمستشارة الألمانية ميركل، وفق النقاد، أساءت التعامل مع أزمة اللاجئين في المنطقة مما شجع على الفرار الجماعي للاجئين نتيجة لموقفها المرحب لاستقبالهم قبل إغلاقها للحدود إثر صفقة معيبة أبرمتها مع تركيا.
وقال لفرانك والتر شتانمير، وزير الخارجية الألماني في مجلة «فورن أفيرز»، إن «ألمانيا لم تبحث عن دورها الجديد على المسرح الدولي»، لكنها ظهرت كلاعب أساسي بأن حافظت على ثباتها وسط عالم متغير. في الحقيقة، لا يتوقع أحد انعطافة كبيرة في ألمانيا تجاه تعزيز القوة العسكرية في المستقبل القريب، فقد اتخذت برلين خطوات كبيرة بتسليحها الجماعات الكردية في مواجهة تنظيم داعش ودعم الحلفاء من خلال أعمال استطلاع المعارك في سوريا. بيد أن مناوأتها للعنف في أعقاب الحرب العالمية الثانية تظل القوة الدافعة للسياسة الألمانية الخارجية.
لكن ألمانيا بمقدورها تعويض التراجع البريطاني سواء في أوروبا أو خارجها. فشتانمير، على سبيل المثال، يبحث عن مقعد غير دائم لألمانيا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وميركل تدافع عن الزيادة في نفقات التسليح، وذلك في مواجهة روسيا المولعة بالقتال مؤخرا وعتادها القديم المعيوب.

* خدمة «واشنطن بوست»
خاص بـ«الشرق الأوسط»



موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
TT

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)

يشكّل تحديث العقيدة النووية لروسيا الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً، تحذيراً للغرب، وفتحاً ﻟ«نافذة استراتيجية» قبل دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب البيت الأبيض، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

«إن تحديث العقيدة النووية الروسية يستبعد احتمال تعرّض الجيش الروسي للهزيمة في ساحة المعركة»، بيان صادر عن رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريتشكين، لا يمكن أن يكون بياناً عادياً، حسب «لوفيغارو». فمن الواضح، حسب هذا التصريح الموجه إلى الغربيين، أنه من غير المجدي محاولة هزيمة الجيش الروسي على الأرض، لأن الخيار النووي واقعي. هذه هي الرسالة الرئيسة التي بعث بها فلاديمير بوتين، الثلاثاء، عندما وقّع مرسوم تحديث العقيدة النووية الروسية المعتمد في عام 2020.

ويدرك الاستراتيجيون الجيوسياسيون الحقيقة الآتية جيداً: الردع هو مسألة غموض (فيما يتعلّق باندلاع حريق نووي) ومسألة تواصل. «وفي موسكو، يمكننا أن نرى بوضوح الذعر العالمي الذي يحدث في كل مرة يتم فيها نطق كلمة نووي. ولا يتردد فلاديمير بوتين في ذكر ذلك بانتظام، وفي كل مرة بالنتيجة المتوقعة»، حسب الصحيفة. ومرة أخرى يوم الثلاثاء، وبعد توقيع المرسوم الرئاسي، انتشرت موجة الصدمة من قمة مجموعة العشرين في كييف إلى بكين؛ حيث حثّت الحكومة الصينية التي كانت دائماً شديدة الحساسية تجاه مبادرات جيرانها في ما يتصل بالمسائل النووية، على «الهدوء» وضبط النفس. فالتأثير الخارق الذي تسعى روسيا إلى تحقيقه لا يرتبط بالجوهر، إذ إن العقيدة النووية الروسية الجديدة ليست ثورية مقارنة بالمبدأ السابق، بقدر ارتباطها بالتوقيت الذي اختارته موسكو لهذا الإعلان.

صورة نشرتها وزارة الدفاع الروسية في الأول من مارس 2024 اختبار إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات تابع لقوات الردع النووي في البلاد (أ.ف.ب)

العقيدة النووية الروسية

في سبتمبر (أيلول) الماضي، وفي حين شنّت قوات كييف في أغسطس (آب) توغلاً غير مسبوق في منطقة كورسك في الأراضي الروسية، رد فلاديمير بوتين بتحديد أنه يمكن استخدام الأسلحة النووية ضد دولة غير نووية تتلقى دعماً من دولة نووية، في إشارة واضحة إلى أوكرانيا والولايات المتحدة. لكن في نسخة 2020 من الميثاق النووي الروسي، احتفظت موسكو بإمكانية استخدام الأسلحة الذرية أولاً، لا سيما في حالة «العدوان الذي تم تنفيذه ضد روسيا بأسلحة تقليدية ذات طبيعة تهدّد وجود الدولة ذاته».

وجاء التعديل الثاني في العقيدة النووية الروسية، الثلاثاء الماضي، عندما سمحت واشنطن لكييف باستخدام الصواريخ بعيدة المدى: رئيس الكرملين يضع ختمه على العقيدة النووية الجديدة التي تنص على أن روسيا ستكون الآن قادرة على استخدام الأسلحة النووية «إذا تلقت معلومات موثوقة عن بدء هجوم جوي واسع النطاق عبر الحدود، عن طريق الطيران الاستراتيجي والتكتيكي وصواريخ كروز والطائرات من دون طيار والأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت». وحسب المتخصصة في قضايا الردع في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري)، هيلواز فايت، فإن هذا يعني توسيع شروط استخدام السلاح النووي الروسي.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خلال اجتماع على هامش قمة مجموعة العشرين في أوساكا باليابان 28 يونيو 2019 (رويترز)

انتظار عودة ترمب

لفترة طويلة، لاحظ صقور الاستراتيجية الجيوستراتيجية الروسية أن الردع الروسي تلاشى. وبالنسبة إليهم، فقد حان الوقت لموسكو لإعادة تأكيد خطوطها الحمراء من خلال «إعادة ترسيخ الخوف» من الأسلحة النووية، على حد تعبير سيرغي كاراجانوف، الخبير الذي يحظى باهتمام فلاديمير بوتين. ةمن هذا المنظار أيضاً، يرى هؤلاء المختصون اندلاع الحرب في أوكرانيا، في 24 فبراير (شباط) 2022، متحدثين عن «عدوان» من الغرب لم تكن الترسانة النووية الروسية قادرة على ردعه. بالنسبة إلى هؤلاء المتعصبين النوويين، ينبغي عدم حظر التصعيد، بل على العكس تماماً. ومن الناحية الرسمية، فإن العقيدة الروسية ليست واضحة في هذا الصدد. لا تزال نسخة 2020 من العقيدة النووية الروسية تستحضر «تصعيداً لخفض التصعيد» غامضاً، بما في ذلك استخدام الوسائل غير النووية.

وحسب قناة «رايبار» المقربة من الجيش الروسي على «تلغرام»، فإنه كان من الضروري إجراء تحديث لهذه العقيدة؛ لأن «التحذيرات الروسية الأخيرة لم تُؤخذ على محمل الجد».

ومن خلال محاولته إعادة ترسيخ الغموض في الردع، فإن فلاديمير بوتين سيسعى بالتالي إلى تثبيط الجهود الغربية لدعم أوكرانيا. وفي ظل حملة عسكرية مكلفة للغاية على الأرض، يرغب رئيس «الكرملين» في الاستفادة من الفترة الاستراتيجية الفاصلة بين نهاية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ووصول الرئيس المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، الذي يتوقع منه بوتين مبادرات سلام محتملة لإنهاء الحرب.

يسعى بوتين، وفق الباحثة في مؤسسة «كارنيغي»، تاتيانا ستانوفايا، لوضع الغرب أمام خيارين جذريين: «إذا كنت تريد حرباً نووية، فستحصل عليها»، أو «دعونا ننهي هذه الحرب بشروط روسيا».