نوح فيلدمان يثير قضية «الشريعة»

قراءة في {سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها}

نوح فيلدمان يثير قضية «الشريعة»
TT

نوح فيلدمان يثير قضية «الشريعة»

نوح فيلدمان يثير قضية «الشريعة»

مثل كتاب نوح فيلدمان «سقوط وقيام الدولة الإسلامية»، (الصادر سنة 2014 عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر)، واحدة من المحاولات العلمية الغربية البارزة التي حاولت مناقشة تفكك واستعادة الدولة لقوتها في الجغرافية السياسية الإسلامية. وتدور أطروحته المركزية حول النظام الديمقراطي الدستوري، وارتباط الشريعة بسيادة القانون، وما يطرحه ذلك من تحديات تتعلق ببناء نظام مؤسساتي يحدد شكل الدولة الإسلامية، ويضفي عليه طابعا ديمقراطيا متجددا تسود فيه العدالة، ويتجاوز الهيكل التنظيمي الموروث، الذي يمنح الأولوية لسلطة تنفيذية مستبدة. ويتجاوز اختلال التوازن القائم بين السلطة الرقابية والتشريعية التي مارسها العلماء؛ وكذلك سلطة الحاكم التي توسعت، وأضعفت تاريخيا قدرات النزعة الدستورية الإسلامية الرامية لخلق منظومة مؤسساتية للحكم السياسي قائم على الشريعة.
يمكن القول: إن محاولات البروفسور نوح فيلدمان، أستاذ القانون في جامعة هارفارد الأميركية، ومؤلف لكتب ودراسات متعددة حول قضايا الشرق الأوسط، تتحدد في سؤال «هل يمكن أن تنجح الدولة الإسلامية الجديدة؟». علما بأنه يستحضر دور الإرث السياسي وإلغاء الخلافة، وما استتبعه من فقدان «الشريعة سموها الرسمي، وتم تنزيل رتبة العلماء الذين كانوا حماة الشرع وعزلهم، وأعلنت الدولة الجديدة التي حلت محل القديمة انفصالها عن سابقتها» (ص 42) من جهة. ومن جهة ثانية، يستحضر تجربة المجتمع، الذي عاش في ظل دستور عرفي يتطور على الدوام منذ العصر الأموي، والعباسي، والعثماني؛ وصولا إلى تاريخنا المعاصر، الذي ظهرت فيه الحركات الإسلامية، التي ينادي بعضها بدستور الشريعة، في ظل الدولة القُطرية.
يرى الكاتب، أن هناك فشلاً واضحًا للعلمانية وتجربتها في الحكم عربيًا، سواء ارتبطت العَلمنة باشتراكية الدولة وقوميتها أو ليبراليتها طيلة القرن العشرين. ومع ذلك لم يخف الصراع بين التيارات السياسية الوطنية، وصراع هذه الأخيرة مع الاستعمار؛ الدعوة إلى الإسلام باعتباره حلا للمشكلات السياسية في العالم الإسلامي. بل إن تفاعلات مسار التاريخ السياسي للدولة العربية المعاصرة، زاد من حدة المطالب الشعبية الرامية لاستعادة نموذج مثالي للسلطة يطلق عليه «الخلافة الإسلامية».
لا يعود بنا فيلدمان، ليشرح بالتفصيل مضمون الأطروحات الدستورية التقليدية، والحديثة أو المعاصرة، بالقدر الذي اهتم بالنظرية العامة للنظام السياسي. وليس من الغريب أن نجده يهمل، أطروحات حديثة لها بالغ الأثر في واقع الفكر الدستوري الإسلامي المعاصر. فلا نجد أن أستاذ القانون بهارفارد، يستحضر وهو يحلل التوجهات الدستورية المعاصرة ما طرحه الكثير من المنظرين الإسلاميين من مثل أبي الأعلى المودودي، في كتابه «نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور»، الذي شكل لفترة زمنية مهمة مرجعا نظريا لمحاولات الحركات السياسية الإسلامية لاستعادة المعنى والنموذج الإسلامي للدولة.
يميز المودودي بين الحاكمية القانونية والحاكمية السياسية، ويربط الأولى بحق الله في التشريع للمسلمين، بينما الثانية تخص تنفيذ الأحكام الربانية. فالدولة الإسلامية عند المودودي، دولة الحاكمية، و«الحاكمية بكل معنى من معانيها لله تعالى وحده، فإنه هو الحاكم الحقيقي في واقع الأمر»، (المودودي: نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، الدار السعودية، جدة، طبعة 1985، ص211). أما فيلدمان، بروفسور القانون، فإنه يسجل أن تطور التنظير السياسي الدستوري للإسلاميين، لا يستند إلى المنظومة التقليدية؛ بل يعمل على تجاوزها، وتجاوز استنادها إلى ركيزة العلماء، واعتبارهم الهيئة التشريعية والرقابة للحاكم. والإسلاميون كذلك لا يسعون لاستعادة النظام الشرعي الإسلامي القديم؛ بل إنهم من الناحية النظرية والعملية، انخرطوا في نظام الدولة الحديثة، التي جعلت من الدولة مؤسسة المؤسسات المتعددة، التي تشمل السلطة التنفيذية، والقضائية، والتشريعية، وجعل من موظفيها جزءا من منظومة مدنية للحكم السياسي.
وعلى الرغم من أن الإسلاميين يعظّمون العلماء، فإنهم لا يعتبرونهم عصب الدولة، أو مصدر السلطة، أو الرقابة، أو رجال مؤسسات الدولة المعاصرة. بل إن التوجه الجديد يعتمد سياسة تعوض العلماء بمدنيين في الوظائف العامة، ولا تترك للعلماء غير الدور الاستشاري في نظام الحكم. إن الإسلاميين يطرحون ويتبنون، في الواقع، دعوة مستجدة، تأسيسية لدولة إسلامية جديدة: «والنتيجة أن اقتراحهم الدستوري القائم على الشريعة لا يمثل الدستور الإسلامي الكلاسيكي، بل شيئا مختلفا جدا، إنها مجموعة جديدة من الترتيبات الدستورية المُؤَسلمة»، (سقوط الدولة ونهوضها، ص 143).
من جهة أخرى، يظهر فيلدمان بمظهر المحامي المدافع عن الإسلاميين، وهو ينتقد التصورات الغربية المغلوطة حول الخبرة والتصورات الدستورية الإسلامية. ويعتبر أن كتّاب وفلاسفة من أمثال منتسكيو وماكس فايبر وغيرهم، كرسوا هذا الخطأ الفكري؛ وبالتالي يصعب على الغرب اليوم تصور عودة مؤسساتية ودستورية ديمقراطية للدولة الإسلامية. كذلك، يصعب عليه إدراك حقيقة «صعود الدعم الشعبي للشريعة الإسلامية في العالم الإسلامي مرة أخرى، وتأثير ذلك في الغرب وفي الشرق».
ولهذا لجأ فيلدمان في الدفاع عن وجهة نظره، إلى المنهجية التحليلية لتجربة التاريخية الإصلاحية العثمانية، وعرضه للتغيير الدستوري الذي أدى إلى تعويض العلماء بأجهزة تشريعية وإدارية حديثة تدور في إطار الإنتاج الغربي. وهنا لم يعد النظام السياسي المقنن في حاجة إلى العلماء لاكتساب الشرعية. وفي الإطار نفسه، يؤكد صاحب الكتاب أن الترتيب الدستوري العثماني الجديد، لم يعلن الانفصال التام عن الشريعة والقيم السياسية الإسلامية التي ترتكز على العدالة والمساواة، وإن كان يدور أساسا في مجال الأحوال الشخصية.
وبناءً على استقراء الخبرة التاريخية الدستورية، فإن «الدولة الإسلامية الحديثة يمكنها تقديم العدالة القضائية والسياسية لمسلمي العصر الحديث، ولكن فقط إذا تم إنشاء مؤسسات جديدة تستعيد التوازن الدستوري بين القوى والسلطات». هذه الإمكانية لم تعد بعيدة المنال، وبخاصة أمام التوسع السوسيولوجي لظاهرة المطلب الشعبي بالعودة لقيم الشريعة الإسلامية. وهي ظاهرة تستحق في نظر فيلدمان طرح إشكالية جديدة من الناحية السياسية والدستورية، يمكن تلخيصها في السؤال التالي «لماذا يطالب الناس الآن بعودة الشريعة وينجذبون إليها رغم أن أجدادهم في العصر الحديث نبذوها ووصفوها بأنها أثر من الماضي السحيق؟».
لقد حاول نوح فيلدمان الإجابة في هذا الكتاب عن هذا السؤال، وتقديمه للفكر الغربي المعاصر الذي أصيب بتشوش تصوري تجاه قضايا الشريعة والسياسة في العالم العربي الإسلامي. ولذلك تعمد تذكير القارئ: «إن القوى الغربية تعتبرها (أي الشريعة) تهديدا للديمقراطية، في حين أن الحركات الإسلامية تكسب الانتخابات بسببها، ويستخدمها الإرهابيون لتبرير جرائمهم. فما هي الشريعة؟ ولماذا لها هذه الشعبية الجارفة بين المسلمين رغم الأحكام الجنائية القاسية فيها؟ وهل يمكن لدولة إسلامية أخرى أن تنجح؟ بل هل ينبغي لها أن تنجح؟».
لتجاوز هذا الإشكال، يحيل فيلدمان على الواقع العربي بعد الحراك في 2011، وعاد في المقدمة الطويلة لطبعة الكتاب سنة 2012 لتقديم مزيد من المؤشرات الدالة على تطور فكر الإسلاميين الدستوري والديمقراطي، معتبرا «الدعوة إلى الشريعة هي دعوة إلى سيادة القانون». ومن جانب ثان، فإن الحكومات العربية الديكتاتورية التي اتسمت بعدم توازن السلطة تواجه اضمحلالاً متزايدا. غير أن الكاتب يشير إلى جانب ثالث في يرتبط مركزيا بأطروحة الكتاب، ويتعلق «بالتحديات الدستورية التي يواجهها الديمقراطيون الإسلاميون عندما تسنح لهم الفرصة حقا لتحديد شكل الدولة الجديدة: تحديات إضفاء الطابع الديمقراطي والمؤسساتي على الشريعة يقوم اليوم إصلاحيون دستوريون في تونس ومصر بحله» (ص 35).
غير أن الأكاديمي الأميركي عاد وسجل ملاحظة صدقتها التجربة الراهنة لما بعد 2011، حيث قال: «إذا وصل الإسلاميون للحكم، لكنهم لم يتمكنوا من خلق مؤسسات توازن بين القوى واستعادة حكم القانون، فإننا جميعا (بما فينا الغرب) سنمر بفترة عصيبة». في الواقع سبق للكاتب في كتابه «ما بعد الجهاد» أن ناقش هذه القضية؛ إضافة إلى أن واقع توسع «داعش» بالعراق وسوريا، وتمددها في أفريقيا والغرب، وقدرتها على التجنيد، تلخص ما يرمي إليه فيلدمان حينما يدعو إلى خلق تواصل، بل ومساعدة الحركات الإسلامية الديمقراطية المعتدلة، على بناء نموذج دستوري ديمقراطي جديد، حتى ولو كان في ظل دولة إسلامية حديثة. لكنه في نهاية كتابه، يعود بنا لطرح سؤال مركزي يتعلق بما «إذا كان الإسلاميون، وهم في الحكم، قادرين فعلا على تحقيق سيادة القانون؟» كما يطرح مسألة لا تقل أهمية على أطروحة الكتاب المركزية، وترتبط بالمصداقية «فإذا كان الإسلاميون غير قادرين على توفير العدالة السياسية، سيجدون أنفسهم يفقدون مصداقيتهم مثل سابقيهم» (ص 179).
* اساذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس ـ الرباط



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.