باريس تطمح في أن تأخذ محل لندن كمركز مالي عالمي

مطار هيثرو يصارع ليعكس مكانة العاصمة البريطانية بالصدارة

أمام البنك المركزي البريطاني (رويترز)
أمام البنك المركزي البريطاني (رويترز)
TT

باريس تطمح في أن تأخذ محل لندن كمركز مالي عالمي

أمام البنك المركزي البريطاني (رويترز)
أمام البنك المركزي البريطاني (رويترز)

قد تجد باريس، وربما فرنكفورت أو لوكسمبورغ، ضالتها مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لتأخذ واحدة منها مكانها بوصفها مركزا ماليا عالميا، بدلا من لندن، التي سيطرت دائما على هذا المشهد. وحذر كثير من السياسيين والمراقبين أن لندن قد تخسر هذا المركز إذا خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، الذي تعامل مع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون خلال القمة الأوروبية باحترام وود، وطلب من زملائه القادة عدم محاولة إذلال كاميرون، «لأن ذلك سيكون إذلالا لبريطانيا».
لكن خروج بريطانيا من الاتحاد فرصة أمام باقي الأعضاء، خصوصا الأقوياء، لتقاسم الكعكة. وفي الأمس قال هولاند إنه يأمل في «تكييف» التنظيمات الفرنسية «بما في ذلك الضريبية»، لجعل مركز باريس المالي «أكثر جاذبية»، بعد تصويت البريطانيين مع خروج المملكة المتحدة من الاتحاد.
وستكون هناك منافسة أخرى حول مكانة لندن العالمية من خلال مطار هيثرو، الذي وصل إلى أعلى قدراته الاستيعابية، ولهذا فقد جاء الوقت من أجل توسيعه، حتى تبقى لندن من أكثر العواصم العالمية جذبا، وهذا ما عبر عنه أول من أمس اللورد ديفيد بلانكيت، الوزير العمالي السابق، المنوط بهذه المهمة، قال إن الانتخابات على زعامة حزب المحافظين ستكشف مَن مِن القادة الذي سيأخذ على عاتقه هذه المهمة، خصوصا أن كثيرا منهم وقفوا ضد توسيع المطار لأسباب بيئية وحياتية.
وقال هولاند إنه «مع تحول المملكة المتحدة إلى بلد ثالث، فإن جواز السفر المالي الأوروبي يفترض أن يزول»، في إشارة إلى التشريعات التي تسمح لأي مصرف متمركز في لندن بالعمل في كل أسواق منطقة اليورو. وأضاف أن «هناك نقطة ثانية أساسية هي أنه لن يعود من الممكن القيام بعمليات المقاصة باليورو في لندن».
وتابع الرئيس الفرنسي: «من المشروع والمنطقي أن تنظم المصارف الفرنسية نفسها وتستعد على هذا الأساس»، مؤكدا أن «علينا تكييف قواعدنا، بما في ذلك الضريبية منها، لجعل مركز باريس المالي أكثر جاذبية».
وتأمل باريس في الاستفادة من تراجع محتمل لقطاع الأعمال في لندن بعد التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لكنها تواجه منافسة كبرى من مراكز مهمة مثل فرنكفورت، مقر البنك المركزي الأوروبي أو دبلن ولوكمسبورغ، حيث القواعد الضريبية أكثر ليونة.
والتقى جيرار ميستراليه، رئيس هيئة «باريس أوروبلاس» المكلفة بتطوير المركز المالي لباريس الثلاثاء، وزير المالية ميشال سابان، ليقترح إجراءات لجعل مركز باريس المالي «أكثر جاذبية»، وهو يأمل خصوصا في تمديد فترة نظام التساهل الضريبي للعائدين من الخارج من خمس سنوات حاليا إلى عشر سنوات. ووفق هذا النظام يستفيد كل موظف فرنسي أو أجنبي أقام ضريبيا خارج فرنسا لخمس سنوات على الأقل، من إعفاء ضريبي جزئي لخمس سنوات عند بدئه عملا في فرنسا.
ورجوعا إلى مطار هيثرو، فقد أفادت هيئة الإذاعة البريطانية أمس الخميس بأن بريطانيا سترجئ لوقت أطول البت في بناء مدرج جديد بمطار هيثرو في لندن، وذلك لحين انتخاب زعيم جديد لحزب المحافظين الحاكم.
كان من المقرر أن تعلن الحكومة هذا الصيف أين تنوي تشييد التوسعة الجديدة، ويوم الاثنين الماضي قالت المتحدثة باسم رئيس الوزراء ديفيد كاميرون إن موعد القرار لم يتغير. وتدرس حكومة كاميرون منذ أربع سنوات أين تبني المدرج الجديد، وكان هيثرو هو المرشح الأوفر حظا أمام منافسه مطار غاتويك. ومن المقرر أن يستقيل كاميرون بحلول سبتمبر (أيلول)، مما يفتح باب المنافسة على قيادة الحزب.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟