ليبيا.. انقلاب طاولة التوقعات

بين اتساع خطر الحرب الأهلية وفرص المصالحة

ليبيا.. انقلاب طاولة التوقعات
TT

ليبيا.. انقلاب طاولة التوقعات

ليبيا.. انقلاب طاولة التوقعات

تكتل القوى المسلحة الذي أخذ زمام المبادرة لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي المتطرف في ليبيا، وتحديدا، في معقله بمدينة سرت - في شمال وسط ليبيا - قلب طاولة التوقعات من جديد في هذا البلد الذي يعاني الفوضى والتحالفات سريعة التغير. واليوم يمكن أن تقرأ مستقبل ليبيا القريب بين عدة خيارات أصبحت أكثر وضوحا عن السابق، منها خطر اتساع نطاق الحرب الأهلية، ومنها القيام بأمر سيئ آخر يكرهه الليبيون ألا وهو تقسيم البلاد إلى دولتين على الأقل، بينما يظل خيار المصالحة باقيا «طوق نجاة» يمكن اللجوء إليه في حال رجح خيار تحكيم صوت العقل.
تتداول التقارير في هذه الآونة أخبار التكتل المسلح الذي قلب طاولة التوقعات في ليبيا، خلال الفترة الأخيرة من الصراع المحتدم فيها، وهو عبارة عن مجموعة الميليشيات المحسوبة على مدينة مصراتة، الواقعة إلى الشرق من العاصمة الليبية طرابلس، وبضع بلدات في شمال غربي ليبيا.
يخوض هؤلاء المقاتلون حربا تحت راية «المجلس الرئاسي» لـ«حكومة التوافق الوطني» بقيادة فايز السراج، رغم عدم اكتمال الإجراءات الدستورية والقانونية لعمل هذه الحكومة المقترحة. وتحمل العملية ضد «داعش سرت» اسم «البنيان المرصوص». وبالفعل، تمكن الشبان المتحمسون والضباط الطموحون من شق سحب الغبار وطرد الدواعش من على طول الطريق الواصل بين مدينتي مصراتة وسرت.
الآن يدور القتال داخل معقل التنظيم الإرهابي المتطرف في سرت، المدينة الواقعة على ساحل البحر المتوسط على بعد نحو 200 كيلومتر إلى الشرق من مصراتة، وأكثر قليلا من 400 كيلومتر عن طرابلس. أما السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح فهو: ماذا سيحدث بعد أن تنتهي عملية «البنيان المرصوص» من مهمتها؟ أي بعد أن تقهر الدواعش في عقر دارهم، وتقضي على وجودهم الذي بدأ في سرت مع مطلع عام 2015.

السؤال.. ماذا بعد؟
يمكن أن يكون أخطر سؤال يطرحه أي مقاتل على نفسه هو: ماذا سنفعل بعد أن ننتصر؟ والأخطر منه ألا تكون هناك إجابة.
إن معظم القوات - إضافة إلى بعض القيادات - المنضوية تحت عملية «البنيان المرصوص»، كانت تخوض في صيف عام 2014 حربا محمومة ضد ميليشيات منافسة لها في مطار طرابلس الدولي ومحيطه. وارتبطت تلك الحرب بالصراع على النفوذ وعلى السلطة. لكن، بعد الانتصار في تلك الحرب، وحرق المطار وتدمير ما فيه من مدارج وطائرات، لم تكن هناك إجابة عما ينبغي عمله في اليوم التالي.
ومع ذلك تسببت نشوة النصر في معركة المطار في مزيد من الجرأة لميليشيات «فجر ليبيا»، التي سرعان ما دخلت في حروب عبثية في مناطق داخل طرابلس وما حولها وفي جنوب البلاد أيضا، بالإضافة إلى محاولات قامت بها للاستحواذ على منطقة الهلال الغنية بالنفط في شرق البلاد. وهذا الماضي القريب أصبح اليوم يلقي بظلاله على احتمالات ما بعد هزيمة الدواعش المنظورة في سرت.
ولأن معظم القادة وغالبية الكوادر القتالية الوسطى كانت من المحسوبين على مدينة مصراتة، فإن الخطاب غير المنضبط لبعض الزعماء أظهر في ذلك الوقت مخاوف من المسحة الجهوية - أي الإقليمية - للقوات المصراتية المقاتلة التي كانت تعمل ضمن فريق يتكون من قادة ميليشيات تابعين لكل من جماعة الإخوان المسلمين و«الجماعة الليبية المقاتلة» وغيرهما.

التكتلات العسكرية
من جهة أخرى، فإن القوات القادرة على القتال في عموم ليبيا مقسمة على الأرض بين عدة تكتلات، والتكتل الذي ينطلق عادة من مصراتة ومن طرابلس، يتكون من ميليشيات يقودها في الأغلب متشددون إسلاميون وجهويون متعصبون، وهي عبارة عن خليط من المدنيين «الثوار» وعدد أقل من العسكريين المحترفين. ولقد تمكنت ميليشيات هذا التكتل منذ انطلاق الانتفاضة المسلحة ضد معمر القذافي في 2011 من الاحتفاظ لنفسها بكميات ضخمة مما كانت تحتويه مخازن الجيش الليبي، بجانب مطارات عسكرية وطائرات ودبابات وآليات وصواريخ وغيرها.
واليوم يبدو أن هذا التكتل يحظى بنوع من «التدليل» أو الحظوة من جانب البعض في الأمم المتحدة والبعض من الدول الغربية، وبخاصة بعدما انحازت عدة ميليشيات فيه إلى «المجلس الرئاسي» وفتحت له الطريق للعمل من داخل العاصمة طرابلس. وجرى تناول انطلاق التكتل نفسه ضد «داعش» في سرت بكلمات الإطراء من زعماء دوليين، على الرغم من الخسائر الضخمة التي مُني بها؛ إذ يقدر أن يكون عدد القتلى قد وصل إلى نحو 150 وعدد الجرحى إلى نحو 500.
«الجيش الوطني» كل هذا يدور في غرب ليبيا ووسطها، فماذا عن الشرق الذي توجد فيه غرفة العمليات الرئيسية لـ«الجيش الوطني الليبي» بقيادة الفريق أول خليفة حفتر؟
يعمل «الجيش الوطني» على محاربة الإرهاب منذ عام 2014، وعزز من شرعيته التفويض الذي منحه له البرلمان الليبي المنتخب الذي يعقد جلساته في مدينة طبرق، بالشرق أيضا. لكن، منذ بدأت الأمم المتحدة رعاية حوار وطني قبل نحو سنتين، وما تبعها من مفاوضات انتهت بـ«اتفاق الصخيرات» (في المغرب) بين عدة أطراف ليبية و«المجلس الرئاسي» برئاسة السراج، أصبحت هناك شكوك في القدرة على حسم قضية «التكتلات العسكرية» و«شبه العسكرية».
«الجيش الوطني» بدأ الحرب على الإرهاب في مدينة بنغازي، كبرى مدن الشرق، وفي مدينة درنة وكذلك في بعض بلدات الجنوب قبل أكثر من عشرين شهرا، وحقق انتصارات لافتة على الرغم من أن جيش ليبيا (الموالي للقذافي) تعرض لضربات موجعة وقاصمة للظهر من طائرات حلف شمال الأطلسي «ناتو» طوال ثمانية أشهر من عام 2011.

مرحلة ما بعد القذافي
وبعدما قتل القذافي بدأ الحكام الجُدد عملية ترتيب الأوضاع للمستقبل، لكن الهيمنة كانت واضحة لقيادات التيار المتشدد الذي تدرب زعماؤه الليبيون على القتال في جبال أفغانستان وباكستان والشيشان وغيرها من جبهات الاشتباكات التي كان يغلب عليها طابع حروب العصابات والأصوليات. وكان يمكن ملاحظة قلة الرغبة في إعادة بناء الجيش والشرطة في هذا البلد، مع حالة ارتياح لاستمرار عمل «كتائب الثوار» التي هي عبارة عن ميليشيات مسلحة.
وكما هو معروف، ظهر في أول برلمان وفي أول سلطة تنفيذية وأمنية له، في مرحلة بعد القذافي، شخصيات لها علاقة بتنظيم «القاعدة»، وأخرى موالية لجماعة الإخوان، وثالثة تدعم جماعات متطرفة متباينة. وبدا أن هذا يتعارض مع المزاج الليبي المسالم والراغب في تحقيق أهداف الثورة من ديمقراطية وحرية وعدالة اجتماعية. ولهذا أسقط الليبيون في الانتخابات البرلمانية التي أجريت عام 2014 الحكام المرتبطين بتلك التنظيمات، لكن الميليشيات وعددا من الطامحين الجهويين، تحصنوا في طرابلس وطردوا معارضيهم منها، وحرقوا المطار الدولي، كما شنوا أكبر عملية اغتيالات ضد ضباط الجيش والعسكريين النظاميين في القوات المسلحة والشرطة. وبالتالي، اضطر البرلمان الجديد إلى عقد جلساته في شرق ليبيا انتظارا لحسم الموقف.
في الشرق واجه «الجيش الوطني» الميليشيات التي كانت تهيمن على بنغازي وعلى مطار بنينة الدولي الواقع في ضواحيها، وكذلك على درنة، رغم الدعم الكبير الذي كانت تحصل عليه تلك الميليشيات من زعماء يعملون في الظلام في كل من مصراتة وطرابلس.
ومع أن الحوار السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة انطلق فإن «الجيش الوطني» نأى بنفسه عن هذا المسار، معتبرا أن مهمته «محددة»، وهي القضاء على الإرهابيين وعلى المسلحين الذين يرفضون الرضوخ لسلطة الدولة الشرعية ممثلة في البرلمان والحكومة المنبثقة عنه. وعلى هذه الخلفية برز تنظيم «أنصار الشريعة» المتطرف (المصنف دوليا كمنظمة إرهابية)، وبرزت معه مجاميع يطلق عليها «مجالس الثوار» تحظى بدعم من القيادات المتحصنة في العاصمة، ومن بينها أطراف كانت على علاقة بالحوار السياسي الذي يحظى برعاية أممية.
وفي خطوة تسببت في تعقيد الموقف أكثر مما كان عليه، أعلن زعماء «أنصار الشريعة» في بنغازي ودرنة مبايعة تنظيم داعش، مع استمرار بعض قادتهم في الوقت نفسه في التعاون مع مجالس الثوار، باعتبار أن الخصم واحد وهو الجيش، وذلك رغم وجود خلافات داخلية والاقتتال بين المسلحين المتطرفين في درنة وغيرها. ومع هذا لم تنقطع خطوط الإمداد بالسلاح والمقاتلين لدعم عمليات هذا الخليط من المتشددين ضد القوات المسلحة، وكذلك ضد البرلمان. وفي قفزة جديدة أدت إلى مزيد من الارتباك في التعاطي مع القضية، بدأ المتطرفون الليبيون جلب المقاتلين الأجانب من مختلف التوجهات.. إخوان.. تنظيم «القاعدة».. «داعش»، بالإضافة إلى مرتزقة يقاتلون بأجر. وبسرعة وجد «داعش» نفسه قادرا على الإعلان عن إمارة خاصة في سرت.

انتصارات وارتباكات
كان «الجيش الوطني الليبي» يقول حتى أسابيع قليلة مضت، إنه سيتوجه للقضاء على التنظيم الدموي في سرت، بمجرد انتهائه من سحق المتطرفين في بنغازي وأيضا في درنة. وبالفعل حقق في شهر مارس (آذار) الماضي انتصارات لافتة في مواقع صعبة. وأدى هذا إلى ارتباك في أوساط القادة في كل من طرابلس ومصراتة، على أساس أنه إذا تمكن «الجيش» من دخول سرت فإنه سيمضي في طريقه إليهم في طرابلس. هكذا كان يفكر بعض القادة في اجتماعات عقدت على عجل في العاصمة وفي بلدات قريبة منها. ومن ثم، بدأت خطة لطمس رايات حفتر التي بدأت تلوح في الأفق، ولا سيما أن لـ«الجيش الوطني» قواعد على مشارف طرابلس نفسها.
وفي هذه الأثناء كانت هناك اتصالات بين كل من المبعوث الأممي إلى ليبيا مارتن كوبلر، ورئيس «المجلس الرئاسي» فايز السراج مع حفتر، في محاولة على ما يبدو لترويضه بحيث يعمل تحت سلطة السراج، وأن يجلس جنبا إلى جنب مع قادة ميليشيات تتولى حماية «المجلس الرئاسي». وبدأ هذا الموقف هزليا؛ إذ قال أحد العسكريين المقربين من حفتر: «كيف نجلس مع زعماء ميليشيات لا يعترفون بالجيش، بل يحاربونه؟!». واستاء قادة آخرون من رغبة بعض الأطراف الدولية في المساواة بين «جيش نظامي، وميليشيات تعمل خارج السلطة الشرعية ومتورطة في أعمال قتل وتخريب».
وهكذا، عقد قادة «الجيش الوطني» العزم على دخول سرت. وبدأت عدة وحدات عسكرية في التحرك لمحاصرة المدينة، قبل أن تظهر تداعيات سريعة أوقفت كل شيء؛ إذ قفز السراج إلى الأمام قفزة مفاجئة، وأعلن أنه هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، بينما المعروف أن هذا المنصب يشغله رئيس البرلمان المستشار عقيلة صالح، وزاد السراج على ذلك، فأعلن أيضًا تشكيل «غرف عسكرية» لمحاربة «داعش» في سرت، وخرج اسم عملية «البنيان المرصوص» إلى النور انطلاقا من سرت.
وبدأ القتال الذي تحول سريعا إلى محرقة سقط فيها شبان ومدنيون متحمسون للقتال، لكنهم غير مدربين على مواجهة تنظيم دموي مثل «داعش». فعلى سبيل المثال قام «داعش» بعملية التفافية من خلف خطوط «البنيان المرصوص»، يوم أول من أمس، ونفذ ثلاثة تفجيرات في بوابة تفتيش بوقرين، التي تقع بين مصراتة وسرت، ما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن عشرة أشخاص.
ومن جانبه، وأمام هذا الواقع الجديد أرجأ «الجيش الوطني» تنفيذ خطته في سرت، وركز عملياته على تطهير بنغازي ودرنة من بقايا المتطرفين. وبغض النظر عن الخسائر في الأرواح يمكن للميليشيات التي تعمل اليوم تحت راية «المجلس الرئاسي» أن تنتصر في سرت، كما انتصرت وهي تحمل اسم «فجر ليبيا» في معركة مطار طرابلس، لكن إلى أين؟

إلى أين؟
هل ستتوقف الميليشيات عن القتال وتفتح صفحة جديدة من الحوار السياسي ينتج عنها توافق بين كل من البرلمان المنتخب و«الجيش الوطني» من جانب، والمجلس الرئاسي من الجانب الآخر؟ أم أن نشوة الانتصار في سرت يمكن أن تفتح شهية الميليشيات للتقدم أكثر ناحية المدن الشرقية للدخول في مواجهة مع «الجيش»، ما يمكن أن يتسبب في اتساع خطر الحرب الأهلية وانقسام البلاد إلى غرب وشرق؟
بالمناسبة، تشير بعض التسريبات إلى حصول الأطراف المتحاربة على كميات من الأسلحة المتطورة من السوق السوداء في الخارج. ومع أن المجتمع الدولي يفرض منذ 2011 حظرا على توريد السلاح إلى ليبيا، فإن مجلس الأمن الدولي أصدر قبل بضعة أيام قرارا جديدا يجيز للدول الأعضاء تنفيذ حظر التسليح بالقوة. ويبدو أن هذه الخطوة فسرتها أطراف في البرلمان الليبي على أنها «تصب في مصلحة الجماعات الإرهابية»، كما قال فتحي المريمي، المستشار الإعلامي لرئيس البرلمان، بينما قالت لجنة «الدفاع والأمن» في البرلمان نفسه إن القرار يهدف إلى توسيع صلاحيات المجلس الرئاسي وحكومته التي لم تحظ بثقة البرلمان بعد.
وعلى خلفية انعدام التوافق وأيضًا التربص بين الأفرقاء الليبيين، كانت هناك إجراءات من شأنها أن تعمِّق الخصومة أكثر، وتغير من أرض الواقع بطريقة دراماتيكية. فحتى اليوم المصرف المركزي الليبي منقسم على نفسه إلى ما يشبه المصرفين، أحدهما طبع حاجته من العملة الليبية في روسيا، والآخر قام بطباعتها في بريطانيا. ثم هناك الشركة الوطنية للنفط التي يبدو أنها تعاني آثار الانقسامات، فبعض الدول تحبذ التعامل مع الفرع الموجود تحت هيمنة السلطات الشرعية في الشرق والبعض الآخر يتعامل مع الفرع الموجود في الغرب. وينطبق الأمر على خلافات في مسألة تعيين السفراء والمبعوثين، فثمة دول ما زالت تتعامل مع سلطات البرلمان المنتخب والحكومة المنبثقة عنه، أي حكومة عبد الله الثني في الشرق، وبعض الدول أصبحت تتعامل مع «المجلس الرئاسي» للسراج في الغرب.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.