ينطوي عمل كل روائي على رؤية مضمرة لتاريخ الرواية، وعلى فكرة ماهية الرواية، إذ من خلالها يتم تنوير الوجود الإنساني وحمايته ضد كل أشكال النسيان. إنها مرآة عاكسة لتعقد الوجود. فحين تجالس «ميلان كونديرا»، أكان ذلك على مقعد في أحد المقاهي، أو تمشيا بصحبته في أحد الأحياء، أو السفر بصحبته حتى اليونان والتيه معه في أساطيرها التي لا تنتهي، أو جالست أبطال رواياته، ستجد في داخل كل هذا «كونديرا» فعلا. فالوطن، كفكرة متعالية مجردة، سيكون حاضرا حتى النخاع. إنه حب، بل عشق، حتى وإن كان من طرف واحد، يتجسد في شخوص كل رواية من رواياته. فهم (أي الشخوص) يطبعهم الخوف من العودة لأنها ستكون عودة مؤلمة غير مرحب بها، ولأنه وطن لا يفهم منطق الحب «الكونديري»، حيث نلمس هذا في ردود فعل متمردة. إن «كونديرا»، المتمرد العابث، سيدافع عن وجوده من خلال تلك الآليات لأنها الملاذ من أجل الاستمرار، وفي تحمل حب بهذا الحجم، أمام عدم القدرة على فعل شيء، أو تغيير شيء، أو تحقيق شيء. فعلى حد تعبيره «كلما كان الزمان الذي تركناه خلفنا رحبا، كان الصوت الذي يدعونا إلى العودة» أشد طغيانا. فهي عودة «أنطولوجية» ليس هناك مجال لمقاومتها. وعلى الرغم من الحياة المريحة في الغربة، فإن هناك اختيارا دائما للعودة، مع أنها عودة إلى مجهول غير مضمون العواقب، لا تتوقع ما ستكون ردة فعله، فالعودة كمغامرة ترفض دائما الانتهاء. ولأن العودة هي «مصالحة مع نهاية الحياة»، سنقرأ مع كونديرا التاريخ بلا هوادة، بكل بؤسه، وطغيانه، وحروبه، ودماره، وما أحدثه من ألم وجروح لا تندمل أبدا عند من خاضها أو عاشها. فأينما حلوا وارتحلوا، يحملون هما مثقلا، وبؤسا لعينا، وعيا شقيا لا يتوقف، بمعنى تحمل حياة ليست بالحياة. إنها قوة كامنة لا تتوفر للكل. فحتى أحلامهم باتت تتكرر بالصيغة نفسها، والأسلوب نفسه، وكذلك الألم. وفي خضم كل هذا، يرفضون الموت. إنها إرادة الحياة التي تنتصر على الرغم من القهر. هل نقول إنهم زومبي ZOMBIE؟ ولم لا؟! فهو الآخر يرفض الموت النهائي تحت وطأة شظايا مشاهد لا تنتهي، نابعة من أحضان الماضي. فـ«إرينا» مثلا، بطلة رواية «الجهل»، ستجسد بشكل عميق ما طرحته سابقا. ففي حديثه عن لقاء بين «إرينا» وأمها، بعد قطيعة دامت 17 سنة، نلاحظ أن اللقاء جاء فاترا باردا وصاعقا. فالأم جاءت من براغ إلى باريس، ولم تهتم لما يمكن أن تكون عليه «إرينا»، التي تحاول بدورها جاهدة لرسم صورة جميلة عن وجودها في باريس، صورة لا تكترث لها الأم بتاتا. إنه تعميق لمفهوم «الغربة» بكل معانيه عند «إرينا». فحتى العيش في وهم الحياة السعيدة لم تمنحها إياه الأم. بل كان حضورها تعميق للإحساس بالدونية والعجز، وبارتباط واه ما زال يجمعها بكل شيء. إنه الشعور بألا يكون المرء هو نفسه. إذن ففكرة الانفصال عن أي شيء، وعن أي شخص، لم تنجح بعد موت شخوص «كونديرا». إنه رجوع إلى الخلف، شعور بالضعف وبالشفقة على الذات، وبكل الأحاسيس السلبية غير المرغوب فيها. قد يبدو المرء أكثر وضوحا مع «إرينا» أثناء اقتنائها فستان الفرح في لحظة أجبرت عليه، وجلب عليها الكوابيس. فروحها قد أنشطرت بين رغبتين متناقضتين: رغبتها في العودة من جهة، ومقتها لعالمها السابق من جهة أخرى. تناقض عجيب يحمل بين طياته كل معاني الحنين الدفين والعميق للمكان. إنها المعاناة في شتى تجلياتها، إنها الحاجة إلى البوح والبكاء، والرغبة في الانعتاق من دون جدوى.
ويحدث أن تتحقق فكرة العودة. لكن عن أي عودة سوف نتحدث مع كونديرا؟ هل هو رجوع لذات مفرغة من أي تاريخ؟ أم لذات ما زال كل التاريخ يحبس أنفاسها؟ أم ذات أنشأت لنفسها تاريخا جديدا مضافا إلى ما سبق؟ أم ذات متشظية بين كل التواريخ؟
إن عودة «إرينا» إلى «براغ»، واللقاء بينها وبين صديقاتها القديمات في ليلة ساهرة ماجنة، لم يوصلاها إلا إلى هوة سحيقة في داخلها. إذ إنه السقوط في اللاشيء واللامعنى. فلم يحرك أي شيء شيئا. الكل ساكن غريب مهما بلغ عمقه (ضحكات تافهة، كلام مقزز، موسيقى مملة). إذن، هل الانتشاء ما زال حاضرا في موسيقى العودة؟ أم أن ضريبة العودة ما زالت تدفع بشكل أو بآخر؟
إنه الخوف المبهم من كل شيء. خوف يتجسد في وحدة عميقة للذات، وحدة ضد كل شعارات البلد الجديدة «إخوة لجميع الأعراق، امتزاج جميع الثقافات، وحدة الكون، وحدة البشر...». إنها الصور الدعائية الجوفاء التي يتم تسويقها بعيدا عن ذوات منهكة منشرخة منهزمة تريد الاعتراف بالخضوع. إنها ذوات «مريضة تعاني من نقص في الحنين»، ومن «تشوه مازوشي في الذاكرة». فالذكريات ننسجها ونحكيها حين نقطن البلد، وليس حين نبتعد عنه. فتاريخ الذاكرة يتم تشويهه في هذا الانقسام بين زمانين ومكانين مختلفين تماما. إنه الحاضر المهزوم الآسر المنتزع للماضي. ستنتقل الأحداث بين «إرينا» و«جوزيه». لكن الحال يبقى هو نفسه. إنها الغربة العميقة التي تنخر كل كيان على الرغم من مزاعم العودة. إن من يقرأ لكونديرا سيلمس عبثا ووهما يجر وراءه كل معنى وكل حقيقة وكل إيمان. إنها متاهة اللاشيء التي نغلفها بكثير من القيم الواهمة. فاللاشيء يجرنا إلى عبثية المعاني، ويعبر ربما عن وعكة روحية، أو طاقة مكبوتة، أو شاعر متمرس في وصف حقيقة وجودنا. إنه الجهل بكل شيء. إنه معرفة ناقصة بالذات، برغباتها ومتاهاتها، وبالآخر أيضًا في كل أبعاده، وبالكون وامتداداته. إننا نتخبط مع «كونديرا» في مياه وسطح وقعر، بلا هوادة ومن دون توقف. لا نحن ننجو ولا نغرق. عذاب بلا توقف – متعب هذا المآل. لكن ما يثير الانتباه في كتابات كونديرا هو أن القارئ يجد نفسه أمام ذات عارية لضربات سوط تلو سوط، لا تتوقف عن إحداث الألم والقلق والضجر والخيبات والانتكاسات، وطابوهات فارغة، وآيديولوجيات جوفاء، وقيود أسرة. لكن الذات لا تتوقف في البحث عن الحرية والانعتاق، عن لحظات من الانتشاء اللامنطقية. فالذاكرة الإنسانية لا تمسك من الماضي سوى بأجزاء صغيرة بائسة من دون أخرى، من دون أن تكون لدينا إمكانية معرفة لماذا هذا اللغز؟ لماذا هذا الاختيار؟ إنها الحياة الإنسانية باختصار. فليست لدينا الذاكرة نفسها حتى لو عشنا المواقف عينها. لكل منا ما يخصه: لا تشابه، لا تقاطع، لا مقارنة. لكن الشيء الأكيد هو أننا عشناها معا. لكن ليس بالطريقة نفسها حين نحاول تكرارها. إنها الألغاز الإنسانية في أبعادها كافة. فـ«إرينا»، وهي حالمة تمشي بين شوارع براغ كحقيقة، وبين شوارع «باريس» كصورة، ينتابها إحساس بالسعادة في «باريس» عنها في «براغ». غير أن رباطا سحريا جماليا لا يربطها سوى بـ«براغ». تفهم فجأة لماذا تحب هذه المدينة، وكم كان رحيلها عنها إلى الأبد مؤلما – وداعات مزيفة وغير ضرورية وثلجية بينما تقول لنفسها: «من خسر هذه الوداعات لا يمكن أن ينتظر شيئا ذا شأن من هذه اللقاءات». لكن لكل مدينة سحرها الذي لا يعرفه إلا من ذاب فيها: «ماشا شاعر الزمان، نيرودا قصاص الشعب التشيكي، أغاني فوسكوفيك وفيريتش في الثلاثينات، هرابال وسكفوريسكي»، إنهما رمزان للحرية، حران على نحو بهيج بفكاهتهما الوقحة. هذا هو عطر هذا البلد الذي لا يمكن الوصول إلى جوهره اللامادي الذي حملته معها إلى «فرنسا». إنه اليوم الأخير لتحقيق الوداعات، وداع للمدينة التي تحب بين جميع المدن، لكنها مستعدة في الوقت عينه لفقدانها دون أسف، لتكون جديرة بحياتها. وما ترغب فيه الآن هو الحب من دون أي امتنان، لأن الامتنان هو مجرد اسم آخر للضعف، للتبعية. وما يثير الانتباه عند «كونديرا» هو دقته في وصف المحيط، وما يصاحب ذلك من تأويلات وتشبيهات كثيرة. وفي الغالب لا يكون الأبطال عند كونديرا أحرارا في مصيرهم، وفي أخذ قراراتهم. لكن عندما تكون الظروف مواتية لأخذ القرار، يصبح الأمر صعبا. فأبطاله يتحنطون في متاهات من القرارات والأفكار والانفعالات إلى درجة تصبح فيها عملية الحسم صعبة. فالبطل يصبح معه كائنا زلقا يمكن أن تتوقع منه أي شيء وفي أية لحظة. إنها أزمة كائن ومتاهة لا تنتهي. أو بشكل مختصر، إنه في أبعاده الوجودية القلقة المؤرقة كلها، ربما ما يعمق هذا تلك العودة وأية عودة. عودة انقطع فيها جسر التواصل بين الكل، فلا أحد يهتم لأحد. فأنت تنسى كأنك لم تكن حتى من الأكثر قربا، فلا أحد يكترث لما صرت عليه. مفارقة نحاول جاهدين تقريب منطقها من دون جدوى. يجب أن تتعود على أن تعبر الحياة دون اهتمام أو إصغاء أو انتظار للرحمة من أحد. ولعل لقاء «إرينا» و«جوزيه» أكد ذلك حقا. فقد كان لقاء ظنناه للوهلة الأولى لقاء حبيبين. صرنا نتنفس الصعداء مع «كونديرا» لأن اللقاء كان بعد فراق طويل جدا مع ما صاحبه من حميمية. لكننا نصدم حين يقرر «جوزيه» الذهاب لحاله بكل بساطة، دون اكتراث لـ«إرينا» التي ما زالت تحتفظ بتذكار عن الأيام الخوالي. فحتى اسمها لم يعد يذكره – إنها المهزلة الكونديرية في قمتها. فقد أصبح اللقاء بلا معنى، بلا قيمة، بلا ذكرى. فكل شيء إلى مزبلة النسيان. لذا فإن الوطن والعودة «الكونديرية» ليستا كمثيلاتهما عند عبد الرحمن منيف، أو غسان كنفاني، أو الطيب صالح مثلا. إنها عودة اللاعودة. إنها رغبة اللارغبة. إن كل القيم في سلة المهملات. إننا أمام الكائن المتأزم، السارح في الملكوت ينتظر هلاكه. وهو في ذلك متسلح بالنسيان، بالعبث، باللامبالاة من أجل الاستمرار، ولكي لا تخنقه كل هذه الأعاصير من القلق والتيه والعبث.
ميلان كونديرا وأنطولوجيا «الجهل»
معه نقرأ التاريخ ببؤسه وطغيانه وحروبه ودماره وما أحدثه من ألم وجروح لا تندمل
ميلان كونديرا وأنطولوجيا «الجهل»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة