الفيلسوف ميشال أونفري والإسلام على المقاس الفرنسي

حين يموت الشعب ويجري تعويضه بجمهور يصنعه الإعلام

غلاف «التفكير في الاسلام»
غلاف «التفكير في الاسلام»
TT

الفيلسوف ميشال أونفري والإسلام على المقاس الفرنسي

غلاف «التفكير في الاسلام»
غلاف «التفكير في الاسلام»

بمنهجه الأركيولوجي القائم على البحث والحفر في الأرشيفات يذكر فوكو في كتابه «المراقبة والعقاب»، الذي لدينا ترجمة له بالعربية من طرف: د. علي مقلد، ومراجعة د. مطاع صفدي، عن مركز الإنماء القومي سنة 1990، قصة ذلك الجندي الفرنسي «روبيرت فرنسوا داميان» في أواسط القرن الثامن عشر الذي هاجم الملك لويس الخامس عشر بسكين فأصابه بجرح خفيف، فتم القبض عليه وحكم عليه بالإعدام سنة1757 صدر عن دار غراسيه، في مارس (آذار) الماضي، كتابا للنجم الإعلامي الفيلسوف ميشال أونفري Michel Onfray، بعنوان لافت هو: «التفكير في الإسلام» Penser L›Islam، وقد بات الكتاب متداولا اليوم في الإعلام المرئي الفرنسي، يثير نقاشا كبيرا، خصوصا بعد الهجمات التي تعرضت لها فرنسا.
ويعالج الكتاب الأسباب الحقيقية وراء تفجير فرنسا؟ ويحاول الإجابة عن سؤال: ما الذي يجعل الإسلام، بتعبير نيتشه، يتملك الصحة الجيدة؟ ويثير أسئلة من نمط: هل الإسلام واحد أم متعدد؟ ما دور الدعاية الإعلامية في تشكيل صورة نمطية عن الإسلام؟ هل الإسلام دين سلام أم دين حرب؟ حرفية النص وتأويله في الإسلام؟ وما العمل في حالة حدوث تناقضات بين متون المصادر في الإسلام، أي القرآن والحديث والسيرة؟ كيف يمكن لفرنسا أن تتعامل مع الإسلام في الداخل ببرغماتية، وتجعل منه قوة دافعة؟ هل يمكن تكييف الإسلام مع مبادئ الجمهورية الفرنسية؟ وأسئلة أخرى عميقة، من قبيل اللائكية والإسلام، والإسلاموفوبيا (الخوف من الإسلام)، والإسلاموفيليا (محبة الإسلام)، وغيرها.
والكتاب في حقيقته عبارة عن حوار مع الصحافية الجزائرية أسماء كوار، بخصوص الإسلام. ويقول أونفري عنه إنه ليس مكتوبا من طرف متخصص في الإسلام، ولكن هو كتاب مواطن يعد الإسلام، بالنسبة له، سؤالا فلسفيا. فهو يعلن منذ البداية أنه يريد التفكير في الإسلام بحرية.
* أنفري يلوم فرنسا
في البداية، يعلن أونفري رفضه للسياسة الفرنسية، ويعتبرها المسؤولة عما يحدث لها من عنف. فحينما قررت فرنسا أن تتدخل عسكريا في مالي، في يناير (كانون الثاني) 2013، سمحت لنفسها بالتدخل، قبل ذلك، في أراضي إسلامية كالعراق وأفغانستان وليبيا، فيما سماه أنفري بالحروب الاستعمارية الجديدة، كانت في حقيقة الأمر، تحضر لانتقام مؤجل ضدها. فإذا كان اللوم ينبغي أن يوجه لطرف، فبالأساس يجب أن يكون إلى فرنسا. فما يحدث لها من ردود عنيفة، ما هو إلا نتاج هجومها السابق، والمساهمة في تدمير مناطق إسلامية، وتدخلها في شؤون لا تعنيها. فلا يمكن لفرنسا أن تكون في مأمن، وأن لا تكون هدفا للهجوم عليها، وقد ساهمت في حروب على أراضٍ إسلامية.
هنا ينبه أونفري فرنسا إلى أنه إذا كانت قد قادت حملة إسلاموفوبيا على بعض الأراضي الإسلامية، فهي على العكس من ذلك، تقود حملة إسلاموفيليا في الداخل، معتقدة أن الإسلام في فرنسا لا علاقة له بالإسلام العالمي. وهذا بحسب أونفري، جهل بمعنى «الأمة» الذي يجمع المسلمين بأكملهم في العالم، ويلم شملهم في توليفة واحدة. فالإسلام ديانة لا إقليمية. وما زاد من حدة ذلك، هو الإنترنت الذي جمع المتفرقين في المكان والزمان ضمن المعمورة.
* دعوة إلى سياسة برغماتية
يشير أنفري في كتابه إلى أنه لا يمكن إنكار أن عودة الأديان إلى أوروبا عموما، وفرنسا خصوصا، قد أخذ صبغة إسلامية، وينبغي بحسبه، التعامل مع هذه العودة بعقل اسبينوزي (نسبة للفيلسوف باروخ اسبينوزا). أي بهدوء وحياد وجداني، ومن دون حقد أو تبجيل أو كراهية، وخصوصا من دون عمى، ومن دون حب قبلي أو أحكام مسبقة. فالمطلوب فقط، هو شيء واحد، هو الفهم والاستيعاب. ما دفع أنفري إلى أن يتخذ الأفق الأنواري كمرجع له، مذكرا بعبارة اسبينوزا التالية: «لا تضحك، لا تبك، لكن افهم».
فإذا كانت فرنسا قد مرت بأحداث مأساوية أخيرا، فهذا لا يعني من وجهة نظر الكاتب التعامل بانفعال مع الأمر، أو السقوط في مطلب الشفقة، الذي هو وقود الإعلام ورجال السياسة الباحثين عن النجاح في الانتخابات. فالإعلام ليس محتاجا لأن نفكر، ولكن لأن نشاهد في وقت الإشهارات الممولة، والرفع من نسبة المتفرجين، لهذا يتم الإكثار من برامج العنف والجنس والفضائح، وكل ما يخلق الإثارة. أما التفكير والتحليل، فهما منفران، ما يعني الخسارة المالية. فحتى شعار «أنا شارلي: Je suis charlie» الشهير، الذي تردد بعد تفجيرات يناير، اعتبره أونفري، مضللا، ومجرد دعاية إعلامية صارخة. لقد مات الشعب وتم تعويضه بجمهور صنعه الإعلام. فمنذ سنوات، لم تعد المدرسة هي المشكلة لوعي الناس. فقد فقدت هذا الدور، حيث تم بيعها للآيديولوجيين في السوق، لتعوض بالتلفاز والإنترنت وكل وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت تصنع الحشود التي لا تفكر، بل تتجمع كرجل واحد بشعار «أنا شارلي».
كان أول سؤال طرحته الصحافية أسماء كوار على ميشال أونفري هو: هل لديك معرفة عميقة بالإسلام؟ ليجيبها: في الحقيقة، أنا أعرف المسيحية أكثر بحكم تربية والدي. لكن وكما قرأت التلمود اليهودي، قرأت وبتمعن، والقلم في يدي، القرآن وأحاديث الرسول وسيرته، وبعض ما تيسر من الكتب حول الإسلام. كما سافرت إلى العشرات من الدول الإسلامية كالجزائر، والمغرب، ولبنان، وتركيا، وفلسطين، والإمارات العربية. ما جعلني أرى التنوع الإسلامي وعدم تجانسه، مكتشفا في الوقت نفسه، أن البربرية التي يلصقها بعض الغرب على الإسلام هي مجرد حكم قيمة. فقتل الأبرياء وذبح الناس يعد شيئا بربريا بالفعل. لكن لا ينبغي نسيان أن الغرب كان معتديا بتدخلاته السافرة، بحثا عن الثروات، وخصوصا التي يمكن جنيها من بيع السلاح.
إذن فالرجل لا ينطلق من كونه يدعي التخصص في الإسلام، ولكن كما قال هو: قرأ المصادر المهمة للإسلام، ليسائل النصوص بحثا عن أجوبة للأسئلة التي أصبح الإسلام يطرحها على العالم، خصوصا مسألة العنف. فالموضوع بالنسبة إليه، يحتاج للتفكير حقا، وتجنب الدعاية الإعلامية ما أمكن.
ومن أهم ما جاء في حواره، هو تقسيمه إلى قسمين: إسلام الحرب وإسلام السلام.
فهناك من يضع نصب عينيه السور الحربية، من قبيل: الآية 7 التي جاءت في سورة الأنفال «ويقطع دابر الكافرين»، والآية رقم 5 من سورة التوبة، القائلة: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم». ومن جانب آخر، هناك من يقتطف من القرآن الآيات السلمية، من قبيل الآية 256 من سورة البقرة، القائلة: «لا إكراه في الدين}، والآية 32 من سورة المائدة: «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا». وهنا يذكر أنفري بأن هذا الأمر موجود حتى في المسيحية واليهودية.
وبالعودة إلى سياسة بلده فرنسا، يقول إنفري إنه يعارض بالمطلق أي تفكير في عملية طرد المسلمين من الأرض الفرنسية. فالمسلمون أصبحوا يشكلون جزءا من التراب الفرنسي، وقول كهذا هو علامة على الدولة الكليانية. إن كون الإسلام يوجد في فرنسا، وهو في تزايد وتصاعد، ويظهر قوة، ويمتلك ما يسميه نيتشه «الصحة الجيدة»، يعد معطى واقعيا لا يرفع. فلا معنى لإرجاع المسلمين إلى ديارهم الأصلية، فهم في دارهم الثانية. لهذا يدعو أنفري الجمهورية الفرنسية إلى التعامل بذكاء شديد مع الإسلام في البلاد. فمثلا، إذا ما أخذنا المساجد، فهي وإن لم تكن ممولة بمال الشعب، فهناك من يستغلها للدعاية ضد مبادئ الجمهورية. لهذا وجب التعامل مع هذا الوضع ببرغماتية عالية، بحيث على فرنسا أن تعمل ما في وسعها لتعزيز الآيات السلمية، وتكوين أئمة يسهرون على ذلك، ومراقبة المساجد كي تخلو من الدعاية للإرهاب. هذا على مستوى الداخل. أما على مستوى الخارج، فقد آن الأوان لفرنسا، وهي دولة ضعيفة بحسب أونفري، أن تغير جذريا من سياستها الخارجية، وتوقف الإمبريالية العالمية، وفرض القانون على العالم تحت مسمى حقوق الإنسان، وتتخذ موقفا حياديا، ولا تقدم على الحرب إلا إذا كانت أرضها مهددة، وطبعا بعد استفتاء شعبي.
في الختام، قد نقول إن ميشال أونفري شخص غير متخصص في الإسلام، وأنه يتحدث في مجال لا يدرك تفاصيله. بل إنه اعتمد، حتى في دراسته للمصادر الإسلامية، على الترجمات، ولم يعتمد على اللغة العربية. نعم قد يكون لهذه الانتقادات ما يبررها. ولكن هذا لا يمنع من أن الإسلام لم يعد حكرا، منذ الآن فصاعدا، على معتنقيه القدامى، أو على دارسيه المتخصصين من المستشرقين. بل أصبح مشاعا، ويسري في كل بقاع العالم، ومتداولا على نطاق واسع. بكلمة واحدة، الإسلام أصبح قضية عالمية. لهذا فالفيلسوف ميشال أونفري، وهو للتعريف ملحد، يفكر في الإسلام من منطلق كونه أصبح جزءا لا يتجزأ من فرنسا. فهو أحد أركان نسيجه المجتمعي، ناهيك بأن قراءة المصادر في الترجمات ليست عيبا، بل هي وسيلة أساسية في التلاقح الحضاري. وهو ما يسمح بهذا الكم الكبير والكوني من النقاش حول الإسلام. فالقرآن ليس ملكا لأحد، بل لكل البشرية.
وأخيرا، هل يمكن القول: إن هناك إسلاما عالميا يتشكل وبمواصفات مختلفة، وتشارك في بناء تصوره كل البشرية؟



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟