جاك دريدا ومقاربة جديدة لمفهوم الكذب

أكثر تطابقًا مع الحقيقة وملتصق بالصورة التي تبرز الواقع وتلغيه

جاك دريدا ومقاربة جديدة لمفهوم الكذب
TT

جاك دريدا ومقاربة جديدة لمفهوم الكذب

جاك دريدا ومقاربة جديدة لمفهوم الكذب

شكل مفهوم الكذب، موضوعا بالغ الأهمية في الفكر الفلسفي مند بداياته الأولى. فالفلسفة بحث عن الحقيقة وسعي إليها. ولا يمكن بلوغ هذه الغاية إلا عن طريق تعرية أضدادها، المتمثلة في الوهم، والزيف، والأسطورة، والخيال. ولعل في الحوارات السقراطية ضد السفسطائية، والكهف الأفلاطوني، والتمييز بين الحقيقة والدوكسا (الفكر اليومي)، والحقيقة والدوغما، أبلغ مثال على هذا الأمر. يصنف الكذب في إطار اللاحقيقة. وهو مفهوم زلق متقلب، من الصعب الإمساك به وتصنيفه وتخليص الحقيقة منه. فنقيض الحقيقة له ألف وجه ووجه. ولا يمكن الإلمام به كليا، وبالحقل الذي يشغله، كما يعبر عن ذلك مونتيني، لأنه يشتغل في المناطق المظلمة، بين الذات والموضوع، الحقيقة والواقع، الحقيقة والوهم، النية الحسنة والنية السيئة. فيصبح الكذب أحيانا، أكثر الحقائق صدقا ويقينا، ويصدقه حتى أولئك الذين يعتقدون في قرارات أنفسهم، بأنهم أكثر الناس تحصنا ضده.
يحاول الفيلسوف الفرنسي، جاك دريدا (1930 - 2004) في كتابه تاريخ الكذب، الذي عمل على ترجمته وتقديمه الأستاذ أحمد بازي، عن المركز الثقافي العربي 2016. أن يعود إلى هذا المفهوم، من خلال مختلف المرجعيات الفلسفية التي قاربته على مدار تاريخ الفلسفة، بغية مساءلتها، والاحتفاظ بما يساعد على فهم منطق اشتغال الكذب في زمننا المعاصر، وفي الوقت نفسه، نقد مختلف التصورات التي لم تفلح في أن تحيط بهذا المفهوم إحاطة تامة.
عرض جاك دريدا لمقاربات كثيرة للكذب في تاريخ الفلسفة، باحثا فيها عما يمكن أن يساعده على فهم جيد له. لكنه في النهاية، يؤكد على أن هذه المقاربات، لا تحيط بالكذب كما أصبح معقدا في زمننا المعاصر. ليس الكذب خطأ كما ارتأى ذلك نيتشه. فقد نخطئ من دون أن نكون كاذبين. وليس الكذب phantasma، الذي يعني بالنسبة لليونان الخيال والخرافة. وهو ليس pseudos الذي يجمع بين الخطأ والخداع والتزوير بشكل معقد، كما هو وارد في محاورة هيبياس. كما أن الكذب ليس لا قصدية، كما هو وارد عند أفلاطون. فمن المستحيل أن نجد كذبا غير مقصود. وهذا ما يصححه أرسطو بتحديد أدق، حيث لا يعني الكذب عنده فقط فعل الكذب، وإنما نية إحداثه. إنه فعل ضد إيمان الشخص، أي أن الشخص يكذب، على الرغم من أنه مؤمن بعكس ذلك. والإيمان قدسية بالنسبة لأوغسطين، والصدق مقدس، والكذب ضد هذا المقدس. وبالتالي، يصبح قول الحقيقة بالنسبة لأوغسطين مقدسا. وهذا ما يتبناه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، جاعلا هذه القدسية عقلية وليست دينية فقط. وهو أكثر فيلسوف مؤثر في نظر دريدا في هذا المجال، حيث توقف عنده كثيرا. ربط كانط بين الحقيقة والصدق. الصدق ضد الكذب. والكذب ضد الحقيقة. قول الصدق واجب مقدس بشكل قطعي إلزامي ولا مشروط. فلا وجود حتى لكذب نافع. بل إن الكذب النافع جريمة في حق الواجب والأخلاق والإنسانية. لأن الكلام مع الآخرين أصلا وعد بقول الحقيقة، والكذب إخلاف لهذا الوعد، وفي الوعد توجد الحرمة والقداسة التي تطبع الوصية الأخلاقية لقول الصدق.
رغم الإغراء الذي تقدمه المقاربة الكانطية، إلا أنها بالنسبة لدريدا غير كافية لتقديم طرح واف للكذب وتعقيداته. فقد أعاد كانط الصدق إلى الذات. فالصدق أخلاق نابعة من الذات. والكذب هو الآخر، كذب نابع من الذات. الذات هي المركز. إلا أن هذه الذات في نظر دريدا، لا تعيش معزولة محصنة في قلعتها، تحلل وتحرم. بل إنها تنخرط في واقع وسياق ومجتمع وتاريخ. أي أن الجوانب التاريخانية للكذب، هي أكثر الجوانب المؤثرة فيه. ليس الكذب مرتبطا بالذات فقط، بل بالواقع والتاريخ والظروف. هكذا، من الضروري في نظر دريدا، أن نتجاوز طرحين اثنين غير دقيقين لمفهوم الكذب: الطرح الأول ينظر إلى الكذب كفعل مسيطر - كما هو وارد عند حنة آرندت التي اعتبرت أن هناك تحولا تاريخيا على مستوى الظروف والبنية والتجارب المشتركة المؤسسة لهذا المفهوم، حيث ترى أن الكذب قد اكتمل في هذا العصر بشكل كبير جدا، وتحول التاريخ، بشكل عام، إلى كذب بالمطلق. وكظاهرة أضحت شمولية مميزة للعصر، تنعزل عن الذوات التي تمارسها، كأن المسألة أضحت خارج قدرات الفرد الواعية، والطرح الثاني، أن ننظر إلى الكذب كفعل محصور في الذات الحرة المؤمنة، التي يجب أن تحتفظ بقدسية الحقيقة كما سبقت الإشارة لذلك عند كانط.
يتجاوز دريدا طرح إيمانويل كانط، وينطلق من طرح حنة آرندت، ليعمل على تخطيه هو الآخر بعد ذلك، ليربط بين الكذب وفعل الكذب. ففعل الكذب يتوجه إلى الآخرين، ولا يمكن الكذب إلا على الآخرين، قصد خداعهم وتضليلهم وإلحاق الأذى بهم، ودفعهم إلى الاعتقاد بأشياء يعرفون أنها غير صحيحة؛ حيث إن الكاذب يعرف حقيقة ما يعزم قوله، ويعرف كذلك الفرق الموجود بين ما يفكر فيه وما يقوله ولمن سيقوله، والنتائج المترتبة عن هذا، وإلا فلا نقول إن الكلام ينتمي إلى خاصية الكذب. وبالتالي، فالمقصد هنا، أولا وأخيرا، هو الأهم، حيث يتوفر على بعد إنجازي، ويرمي إلى خلق الحدث والدفع إلى الاعتقاد به. هكذا يمكن أن نجد منطقة حرة من السهل علينا أن نمسك فيها بالكذب، في ارتباطه، ليس بالأخلاق فقط، وإنما بالثقافة والمعتقد والسياسة، حيث ينبغي الكشف عن الأقنعة والتقنيات والوسائل الموظفة للقيام به.
انطلاقا من هذا التحديد، يدخل دريدا إلى صلب الموضوع ليربط الكذب بالسياسة، فالكذب وسيلة للحكم، والديماغوجية يمتهنها كل من في سدة الحكم؛ حيث أصبح بالإمكان التلاعب بالوقائع، حتى في العالم الحر، من طرف تنظيمات ضخمة تخدم مصالح أطراف معينة، تعمم العقلية المرتبطة بمصلحة الدولة. فيتم التلاعب على مستوى واسع بالآراء والأحداث، وحتى بحقائق معروفة من طرف الجميع. والرسم غير مطالب منه أن يطابق الواقع بل أن يحل محله. وبعبارة أخرى، غالبا ما يكون الفرق بين الكذب التقليدي والكذب العصري، هو الفرق ذاته الذي يوجد بين الحجب والنقض. لقد أضحى الكذب السياسي في هذا العصر، دراسة واستراتيجية. كما أن قول الحقيقة هو الآخر يخضع للمعايير نفسها، وبالتالي لا بد من البحث في الخصوصية التاريخية والسياسية والتقنية الإعلامية للكذب. فليست كل الحقائق صالحة للإفصاح. والأمر ليس مقدسا ولا مشروطا بالشكل الذي يريده كانط. أي أنه يجب الأخذ بالحسبان لكل الإكراهات التي يمكن افتراضها، والمراعاة بكل براغماتية للفرص المواتية، والعواقب المحتملة، وأشكال التعبير البلاغية المستعملة، ومشاعر المتلقي، سواء كان خاسرا أو مستفيدا. فيصبح من الضروري الاشتغال بمنطق جديد، وتجاوز الثنائية القائمة على الصدق والكذب عن طريق استحضار منطق الوعي والإنجازية. ولنأخذ على سبيل المثال، رفض بيل كلينتون الاعتراف بأن إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما كان من دون مبرر، على الرغم من الشهادات المناقضة لذلك. ولنأخذ مثالا آخر: التصريح الذي أدلى به الوزير الأول الياباني موراياما لما عبر باسمه الخاص، عن أسفه الصادق والعميق، وبحداده الشخصي، عن الجرائم المرتكبة من طرف اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، في جميع أنحاء آسيا، من دون أن يلزم الدولة، ومن دون استحضار الإمبراطورية اليابانية. والأمثلة كهذه كثيرة جدا. فهل نطالب هنا بيل كلينتون بالالتزام بقول الحقيقة كواجب مقدس كما يرى كانط؟ وهل نقول إن اعتراف موراياما حقيقة أم كذب؟ وهل نرجع إلى الشخص الفاعل الذي يقصد بدقة ما يقول، أم نمضي كما ترى آرندت، ونربطه بالمشهد السياسي الكاذب بمجمله؟ هل تسعفنا ثنائيات الصدق والكذب، والنية السيئة والحسنة، لفهم كل هذه المظاهر؟ هكذا يصبح الكذب مختلفا تماما عن الخطأ، أو النقص الذي قد يعتري المعلومات أو الخبرات. وهو يستدعي العزم المقصود على إلحاق الأذى، وبالتالي لا بد من إعادة مساءلة الشهود والتواريخ والأرشيفات، حيث تنخرط وسائل الإعلام، إضافة إلى الجامعات والأساتذة والمثقفين. وبالموازاة مع ذلك، إعادة كتابة تاريخ للتزوير والنفي والإنكار. ولا بد من الكشف من داخل الدولة على مختلف التعبيرات والتعديلات الإنكارية، وكل عبث بالصور والمشاهد.
لم يعد الكذب هنا، ادعاء مناقضا للحقيقة فقط. كما أنه لا يمكن اعتباره جهلا. ولا يمكن كذلك إلحاقه بالكذب على الذات. فهو ينتمي إلى صنف آخر، بحيث لا يمكن اختزاله في مختلف المقولات التي ورثناها من أفلاطون إلى أوغسطين وروسو حتى كانط وآرندت. وبالتالي، من الضروري التفكير بطريقة جديدة لمقاربته، حتى لا نفتح الباب أمام انحرافات ذات طابع شمولي، ونتسلح بالأدوات الملائمة لفهم هذا الإشكال، فقط لأن الكذب كما يعرفه عصرنا، لم يسبق له مثيل. إنه كذب أكثر تطابقا مع الحقيقة، وملتصق بالصورة الواقعية التي تبرز الواقع وتلغيه في الوقت نفسه.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.