مرثية دولة في حال موت سريري

بُعيد سقوط نظام صدام حسين بدأت مأساة جديدة في العراق

انتخابات العراق.. هل كانت طائفية؟
انتخابات العراق.. هل كانت طائفية؟
TT

مرثية دولة في حال موت سريري

انتخابات العراق.. هل كانت طائفية؟
انتخابات العراق.. هل كانت طائفية؟

صورة العراق، الأمس واليوم، رسمها ويرسمها المتصارعون على السلطة والمال والنفوذ، بشراهة سياسيين لا يشبعون، جمعتهم إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، قبيل احتلال العراق عام 2003، من شوارع المنافي، كما قال بول بريمر الحاكم المدني التنفيذي لسلطة الاحتلال في مذكراته، وأضاف: «لم نجد شخصية عراقية أمينة ووطنية تحكم العراق ما بعد 2003».
عند تلك اللحظة المرتبكة، بُعيد سقوط نظام صدام حسين، بدأت مأساة جديدة، أكثر قسوة ومرارة على العراقيين؛ إذ إن بناء نظام سياسي جديد أشد صعوبة بكثير من إسقاط نظام سابق لم يدافع عنه حتى بعض أقرب مقربيه.
يقدم الكاتب كتابه بأنه «يضم مقالات كتبت بعد 2003 في صحف ومواقع إلكترونية مختلفة، وبعضها كُتب في ظروف لا أظن أن الكثيرين تسنى لهم فيها قراءتها، وهي بمجموعها تمثل تلك الحركة الوئيدة التي دفع بها الماضي الديكتاتوري وسيطرة الأنظمة السياسية على الدولة، إلى لحظة الاحتلال الأجنبي، ومن ثم إلى نظام سياسي أجهز على ما تبقى من الدولة وفكك المجتمع العراقي».

المواطن والدولة
ينطلق كتاب سهيل سامي نادر «المريض العراقي - سلالم نازلة إلى الإخفاق السياسي الكبير» من أزمة العلاقة بين المواطن والدولة، أو من يمثلها من زعماء ومؤسسات وأحزاب، حاكمة ومعارضة، فهو يبدأ من مشهد شخصي عاشه شابا يتمثل من مصادفة نادرة جعلته وجها لوجه مع الزعيم عبد الكريم قاسم، رئيس وزراء أول جمهورية عراقية عام 1958.
لقاء المواطن العراقي الشاب (سهيل سامي نادر) بلقاء الزعيم قاسم ذو دلالة خاصة تكشف عن مسافة اغتراب شخصي مبكّر بين مواطن عادي وزعيم شهير، وفي وصف الكاتب لذلك اللقاء (هو اللقاء الثاني بعد سابقه ضمن وفد شبابي) نكتشف معه ذلك الاغتراب المبكر، بين المواطن العادي والدولة ممثلة بزعيمها الأوحد:
«...عندما مرت سيارة الزعيم مبطئة، كنّا تقريبا في الشارع، بحيث اتجه سائقه قليلا إلى اليسار، نحو الرصيف، ورأيته الوجه بالوجه، وجلوسه المتصالب على المقعد الخلفي، مدّ ذراعه محييا ومبتسما، إلا أنني لم أرفع يدي لرد تحيته ولم أبتسم. كنت أنظر في عينيه، في وجهه في ابتسامته البريئة، المشرقة، مرتديا قناعا جافا معدا لإنكاره وتجاهله وعدم المعرفة به، صديقي شعر بالحرج إلا أنني أمسكت يده وأفهمته ألا يفعل. عرف الزعيم أن ثمة إرادة وقحة تتحداه. اختفت ابتسامته وحل محلها تساؤل مستغرب، طفولي، وعندما اجتازتنا سيارته أدار رأسه إلينا مندهشا، من هذه القسوة غير المبررة، وظل هكذا حتى غاب في عمق الشارع».
الفقرة الآنفة رمزية قدر ما كانت واقعية أسست لافتراق أول بين المواطن وزعيمه، وإذ يضعها الكاتب في الصفحات الأولى من كتابه فهو يدعو قارئه للتعارف. التعارف الفكري والمزاجي بين الاثنين ليسيرا معا في السياق الذي يقترحه نادر، مقدمة لما سيأتي من أفكار وخيبات وافتراقات أشد وضوحا بين المواطن ودولته.
يوجه الكاتب خطابا نقديا شجاعا وصريحا لثقافة الثنائية العراقية الماثلة: الجلاد والضحية، وهي ثنائية تتفرع عنها ثنائيات عدة: الأبيض والأسود، القاعدة والقيادة، الحرية والعبودية (مفاهيم أو سوء فهم)، الإمكانات المتوافرة و«اليوتوبيات المستحيلة»:
«الآن في هذه اللحظة الفارغة من التاريخ السياسي العراقي يبدو بلدنا مطوقا بفكر اليوتوبيات المستحيلة، مطوقا بتاريخ هائل من العسف والانحطاط، ومن دون أمثلة تاريخية مهمة، وإذا ما بحثنا عنها فسنجد أنفسنا نمتثل لحالة انتقائية مثيرة للشفقة».

انتخابات ما بعد صدام
صمم الأميركان انتخابات ما بعد صدام على أساس قومي وطائفي؛ ظنا منهم أن هذا التقسيم سيرضي جميع العراقيين بما أنهم بلد متنوع الأديان والطوائف والقوميات والإثنيات، التي كثيرا ما أطلقنا عليها نعت «المتآخية» في كتاباتنا السياسية والحقيقة إنه تأخٍ مزعوم عندما ندرك أن الدولة المدنية، وحدها، هي من تتبنى هذا التآخي وتحميه، وتتيحه للجميع ضمن الدستور والقانون.
بسقوط ديكتاتورية صدام لم تقم في العراق دولة مدنية، كما حلم العراقيون، بل قامت ديكتاتورية من نوع مختلف: ديكتاتورية العملية السياسية برمتها، تقودها أحزاب قومية وطائفية اختزلت التنوع الحقيقي إلى تمثلات كتلوية لا تمت إلى المجتمع العراقي بصلة سوى صلة التسميات السياسية التي حملتها تركيبة النظام الجديد.
أي أن الانتخابات لم تتح الفرصة للمكونات السياسية والفكرية المختلفة عبر أحزاب وشخصيات سياسية، مدنية، بعيدة عن التقسيم الكتلوي والطائفي.
يوضح سهيل سامي نادر معضلة الانتخابات العراقية الأولى، مثلا، من خلال فوز الطائفة لا الحزب (نوري المالكي، مثلا) «لقد أيقظت الانتخابات الأولى الروح الطائفية وسيّستها، لتعززها الثانية، ابتداء من لحظة ظهور نتيجتها، من خلال معركة أديرت بشراسة من أجل تكريس قيادة المالكي، ليس بوصفه فائزا، بل لأنه ينتمي إلى طائفة معينة».
هذا، وما رافقه من تكريس نظام المحاصصة ألغى أي إمكانية للمنافسة السياسية، وليس السياسة التنافسية، رغم أن مبدأ المحاصصة ليس خطأ من الناحية النظرية، عندما يطبق بشكل مدروس على أساس ممثلي الشعب بمكوناته كافة، لكنه، في الحالة العراقية، مثل اقتساما لأسلاب دولة صدام بشكل يدعو للخجل. «ضج الناس من المحاصصة؛ لأنها طبقت بشروط همجية استولت على الدولة وحولتها إلى بقرة حلوب».
يقدم سهيل سامي نادر في كتابه هذا شهادته المواطن - الكاتب على تطورات الصراع السياسي في العراق بروح نقدية عالية، مفككا ظواهر مشتبكة أو متجاورة، مثلت صورة العراق الحقيقية بعد 2003، عبر رصد أبرز مفاصلها، وإن بدا الكاتب على شيء من السخط على، واليأس من مستقبل يمكن الاطمئنان عليه، جراء ماض وحاضر يعجان بالفساد والإرهاب، وغياب روح المواطنة عن زعماء طائفيين وفاسدين، يسيرون بالبلد إلى الهاوية أكثر فأكثر، ليأتي كتابه مرثية تليق بدولة تسير إلى حتفها بخطوات واثقة.



ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.