«العدالة والتنمية» و«النهضة».. الأولوية السياسية

قراءة في استراتيجيتي الحزبين المغربي والتونسي

مناصرون لحركة النهضة التونسية يتلحفون علمها والعلم الوطني في أثناء انعقاد مؤتمرها الشهر الماضي (أ . ف. ب)
مناصرون لحركة النهضة التونسية يتلحفون علمها والعلم الوطني في أثناء انعقاد مؤتمرها الشهر الماضي (أ . ف. ب)
TT

«العدالة والتنمية» و«النهضة».. الأولوية السياسية

مناصرون لحركة النهضة التونسية يتلحفون علمها والعلم الوطني في أثناء انعقاد مؤتمرها الشهر الماضي (أ . ف. ب)
مناصرون لحركة النهضة التونسية يتلحفون علمها والعلم الوطني في أثناء انعقاد مؤتمرها الشهر الماضي (أ . ف. ب)

يتساءل كثيرون من المراقبين والمختصين في التنظيمات الإسلامية عن خصوصية حزب «العدالة والتنمية» المغربي، و«حركة النهضة» التونسية، ومساهمتهما الحاسمة في ضمان استقرار بلديهما؛ وسط محيط إقليمي مضطرب، ينتشر فيه الإرهاب والمواجهات المسلحة عوض الاحتكام لصناديق الاقتراع ومنهج التداول السلمي للسلطة. غير أن المراجع لأدبيات وسلوك التنظيمين المغاربيين سرعان ما يفهم طبيعة سلوكهما السياسي الحالي، الذي جاء بعد ثورة بتونس جعلت من النهضة تنظيما شرعيا، وفي الوقت نفسه قائدة لحكومة ائتلافية، وطرفا مركزيا في الحكومة الحالية. أما في المغرب، حيث النظام السياسي ملكي تنفيذي، فقد أدى حراك 20 فبراير (شباط) 2011 إلى وصول «العدالة والتنمية» إلى قيادة الحكومة المغربية، بالتحالف مع ثلاثة أحزاب.
تعود أصول حزب «العدالة والتنمية» المغربي للحركة الوطنية المغربية؛ إذ أسس سنة 1967 باسم حزب «الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية». ويعد الدكتور عبد الكريم الخطيب، مؤسس الحزب، من أبرز قياديي المقاومة وجيش التحرير المغربي، وكانت له صلات وثيقة بالعائلة الملكية؛ وكان وراء اقتراح تنصيص الدستور المغربي على كون «الملك أميرا للمؤمنين». ولقد تمتع الرجل بعلاقة واسعة مع قادة التحرير في أفريقيا والعالم العربي. وعرف عن الخطيب توجهه الإسلامي المعتدل، ودفاعه عن المرجعية الإسلامية. ولقد اختارت حركة «التوحيد والإصلاح» الالتحاق بحزبه سنة 1996. وسرعان ما غير أعضاؤها اسم الحزب في 1999 إلى «العدالة والتنمية»، وفي عام 2004 أصبح الدكتور سعد الدين العثماني على رأس الأمانة العامة. وبعده انتخب عبد الإله بنكيران أمينا عاما جديدا، وهو يجمع حاليا بين رئاسة الحزب ذي المرجعية الإسلامية، وكونه رئيسا للحكومة بالمغرب.
وعلى عكس الاستقلالية التامة لحزب «العدالة والتنمية» وحركة «التوحيد والإصلاح». أسست حركة «الاتجاه الإسلامي» في تونس عام 1969، على منهج الإخوان المسلمين؛ إلا أن علاقتها بالتنظيم العالمي لـ«الإخوان» ظلت متوترة تاريخيا، خاصة أن كلا من عبد الفتاح مورو وراشد الغنوشي كانا يطرحان أفكارا ورؤى مختلفة عن المنظومة الفكرية لتنظيم حسن البنا. وكانت هذه الخصوصية الفكرية وراء طرد حركة «النهضة» من التنظيم العالمي (هذا ما صرح لنا به عبد الفتاح مورو في زيارته الأخيرة للمغرب عام 2014 في لقاء خاص به)، وذلك بداية تسعينات القرن العشرين (1991). ورغم أن بعض قيادات «النهضة» حضرت بعض الأنشطة التي كان وراءها التنظيم العالمي، فإن ذلك لا يعني أن «النهضة» جزء منه.
ولقد سعت حركة «النهضة» منذ عام 1987 للتحول لحزب سياسي شرعي يعمل في ظل الدستور والقانون القائم بتونس، وتقدمت مرتين لتأسيس حزب في هذا الإطار، غير أن وزارة الداخلية رفضت الطلبين معا. ولم يتم الاعتراف بالحركة بصفتها حزبا سياسيا إلا بعد الثورة حين رخصت له حكومة محمد الغنوشي الثانية يوم 1 مارس (آذار) 2011؛ وشارك في الانتخابات ليحتل المرتبة الأولى ويشكل حكومة مع حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية»، وهو من يسار الوسط و«التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات»، كما أنه يشارك اليوم مع حزب «نداء تونس»، الذي يعتبر من «الحرس القديم».
على خلاف «النهضة» التي تعرضت لتضييق ومواجهة شاملة قبل الثورة، استفاد حزب «العدالة والتنمية» جزئيا من بداية الانفتاح السياسي في المغرب منذ عام 1992. ففي ذلك العام طرح الملك بالمغرب دستورا ممنوحا، لكنه منح الوزير الأول بعض السلطات، وكذلك في العام نفسه صوتت حركة «الإصلاح والتجديد» (التي ستشكل عام 1996 رفقة «رابطة المستقبل الإسلامي» حركة «التوحيد والإصلاح») على هذا الدستور بنعم؛ مما اعتبر رسالة سياسية للملكية، مفادها استعداد الإسلاميين الإصلاحيين للعمل في ظل الدستور غير الديمقراطي، خاصة أن إسلاميي «العدالة والتنمية» لم يشككوا ولم ينازعوا الملكية شرعيتها. كما أن هذه الأخيرة لم تواجه الإسلاميين تاريخيا بشكل قمعي مبالغ فيه، كما هو الحال بتونس التي تبنت زمن الرئيس بن علي الذي اعتمد سياسة استئصالية للتيار الإسلامي عموما، وحركة «النهضة» خاصة.
تزامن هذا الانفتاح السياسي في المغرب مع سياسة دينية جديدة؛ إذ عمدت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى تنظيم مظاهرة دينية فكرية عالمية سميت «مؤتمر الصحوة الإسلامية»، وشارك فيها زعماء إسلاميون بارزون، منهم راشد الغنوشي. وساهم هذا الانفتاح للنظام السياسي المغربي على حركة «النهضة» في تمتين العلاقات بين الإسلاميين المغاربة والتونسيين، خاصة أن قيادات القطاع الطلابي لـ«النهضة» هربت من بلادهم بداية التسعينات للمغرب، ولقيت دعما من إسلامييه بزعامة بنكيران. ومن القيادات البارزة لـ«النهضة» التي استقرت في المغرب المفكران «النهضويان» التونسيان عبد المجيد النجار وحسن بن حسن المتخصص في الفلسفة الغربية الحديثة.
وظلت العلاقات بين التنظيمين المغاربيين كبيرة، وعقدت بينهما لقاءات كثيرة ومتعددة، في الوقت الذي كان حزب «العدالة والتنمية» المغربي في المعارضة، و«النهضة» التونسية في المنفى. كذلك استمر التواصل المكثف بعد ثورة 2011، حين أصبحت الزيارات التي تقوم بها قيادات التنظيمين متعددة في السنة الواحدة. ومن أبرز ما أسفر عنه هذا التواصل في السنوات الأربع الماضية، توجه «النهضة» الجديد للفصل بين المجال الدعوي والسياسي؛ فقد ركزت اللقاءات بين التنظيمين على هذه المسألة منذ 2012، واستقبلت حركة «التوحيد والإصلاح» المغربية قيادات عدة لـ«النهضة» بقصد الاطلاع على التجربة المغربية للتمييز بين المجالين الدعوي والسياسي. فإسلاميو المغرب بدأوا هذا المسلسل منذ 1998، فيما سمي بسياسة «التمييز بين الدعوي والسياسي» التي أدرجتها حركة «التوحيد والإصلاح» في مخططها الاستراتيجي للتخصصات. ويقول مرجع سابق في الحركة، إن هذا التوجه «ترجمة عملية لرغبة الحركة في الانتقال من تنظيم جامع بديل متعدد الوظائف، إلى حركة رسالية فاعلة ومنفتحة عليه وعلى طاقاته»، وهكذا تفرع عن التنظيم فصل العمل السياسي والنقابي، والجمعوي عن الحركة الأم.
وفي هذا الإطار استدعت حركة «النهضة» عام 2015 رئيس حركة «التوحيد والإصلاح» عبد الرحيم الشيخي والأستاذ محمد يتيم، وهو من أبرز منظري «العدالة والتنمية» وحركة «التوحيد والإصلاح»، لتقديم ورقة حول الفصل بين الدعوي والسياسي أمام أعضاء مجلس شورى حركة «النهضة» في تونس العاصمة. وعلى ما يبدو فإن التلاقي الفكري بين التنظيمين لم يقرب بينهما فقط، بل جعل موقفيهما تجاه التيارات المتطرفة العنيفة متطابقا؛ فقد رفض التنظيمان استعمال العنف والتكفير الديني، ودخلا في مواجهة معه دعوية وسياسية في مرحلة المعارضة، وفي زمن المشاركة في السلطة. كذلك اتخذ التنظيمان في مناسبات متواترة مواقف وسلوكيات جريئة ضد الفكر الإرهابي، والتنظيمات العلمانية المتطرفة. الشيء الذي جر على كل من «العدالة والتنمية» وحركة «النهضة» سخط التطرف الديني واللاديني؛ إذ يعتبر الأول تبنيهما للمرجعية الإسلامية والتدين المعتدل والقبول بالديمقراطية والدستور والمؤسسات الشرعية كفرا بالشريعة. وفي المقابل، يعتبر الخصوم العَلمانيون التنظيمين وجها آخر لـ«داعش» و«القاعدة»، وأن قبولهما بالديمقراطية مجرد نفاق سياسي مرحلي.
وفي الوقت الذي يؤكد «العدالة والتنمية»، وكذلك حركة «النهضة» أنهما حزبان بمرجعية إسلامية، وأنهما تنظيمان إصلاحيان ديمقراطيان يؤمنان بالتداول والمواطنة والتشاركية في السلطة، من دون إقصاء أي تيار سياسي، جاء سلوكهما السياسي أقرب لأدبياتهما منه لمزاعم خصومهما الإيديولوجيين. فقد شكل حزب «العدالة والتنمية» الحكومة المغربية عام 2011 بالتحالف مع الحزب الشيوعي المغربي سابقا، أي حزب «التقدم والاشتراكية»، ومنحه مناصب وزارية تفوق حجمه داخل البرلمان؛ كما تحالف مع حزب الاستقلال في الحكومة الأولى، وعوّضه في التعديل الحكومي لعام 2012 بحزب التجمع الوطني للأحرار (يمين ليبرالي)، كما بقي متحالفا مع حزب الحركة الشعبية ذي الميول الأمازيغية.
أما حزب حركة «النهضة» فقد أعلن قبل الانتخابات الأولى والثانية 2014، أنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية وأنه سيشكل حكومة مع الأحزاب التي تريد التحالف معه كيفما كان اتجاهها الإيديولوجي. وعلى عكس بعض التوقعات لم يظهر الحزبان أي نزوع للهيمنة، ولم ينجرّ «العدالة والتنمية» وحركة النهضة للمعارك الدينية الهوياتية، كما أنهما اعتبرا التدين مسألة حرية شخصية لا يحق للدولة منعها أو فرضها على المواطنين؛ وهو ما أظهر الحزبين بمظهر ليبرالي إسلامي، خصوصا، بعد التحول السريع لخطاب الحزبين وتركيزه على المسائل الاقتصادية التنموية ومعالجة المعضلات الاجتماعية مثل البطالة في صفوف الشباب.
من جانب آخر، تفادى الحزبان الإسلاميان المغربي والتونسي أي صدام مع مؤسسات ما يطلق عليه «الدولة العميقة»؛ ضمانا للسير العادي لمؤسسات الدولة. فـ«العدالة والتنمية» لم ينافس المؤسسات السياسية مثل الملكية، والأجهزة الأمنية والعسكرية في المغرب. وهو الاختيار نفسه الذي نهجته «النهضة» التونسية، حيث قررت عدم الترشح لرئاسة الجمهورية، بل ساندت منصف المرزوقي في أول انتخابات بعد الثورة، ومن ثم اختارت عدم دعم أي من المرشحين لقيادة البلاد في الانتخابات التي أفرزت فوز الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي. ومن جهة ثانية، ساندت «النهضة» بحزم الأجهزة الأمنية والجيش ضد التنظيمات الإرهابية، بل وكانت ضد قانون العزل السياسي الموجه ضد رموز نظام زين العابدين بن علي. ثم إن «النهضة» اليوم لا تعارض رجوع أي مواطن تونسي لبلده، بما فيه الرئيس السابق، وتدعو لتمكينه وأسرته من جواز السفر التونسي.
إن المتتبع للممارسة السياسية لكل من «العدالة والتنمية» المغربي وحركة «النهضة» التونسية سيلاحظ الذهنية المشتركة للفصيلين الإسلاميين، خاصة فيما يخص التعامل مع بنية الدولة العربية غير الديمقراطية، وكذلك في منهجية التعامل مع المحيط الدولي. ففي مناسبات متعددة كرّر الأمين العام لحزب «العدالة والتنمية» قوله: إنني «لم آت لأتصارع مع الملك، وإذا أراد المغاربة رئيس حكومة يتصارع على السلطة مع الملك فليبحثوا عن شخص غيري. أنا أتيت لأتعاون معه على خدمة البلد»؛ وهذه العبارات تلخص معنى شعار حزبه «الإصلاح في ظل الاستقرار»؛ وكون الملك فيه هو الحاكم الفعلي للدولة، وفقا لدستور 2011.
ورغم أن «العدالة والتنمية» وحركة «النهضة» لم يحققا الكثير على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في المغرب وتونس، فإنهما تمسكا فعلا بمنهج الشراكة الوطنية، ونبذا احتكار السلطة، ومدا اليد لمختلف التيارات السياسية الشرعية، وتحاشيا الاصطدام مع المؤسسات الممسكة بالدولة تاريخيا، وبرز وقوفهما الحازم ضد الفكر والتنظيمات الإرهابية. كل ذلك ساهم بشكل حاسم في الحفاظ على استقرار بلدي الحزبين، كما أدى ذلك إلى توسيع هامش الحريات العامة وتعزيز حقوق الإنسان، في دولتين تبحثان عن بناء دولة ديمقراطية حديثة، وترفضان الانزلاق نحو الحروب الأهلية الدموية.
* أستاذ العلوم السياسية - جامعة محمد الخامس - الرباط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟