«نهضة» تونس و«إخوان» مصر» على المحك

مراجعات قوى «الإسلام السياسي» بين التطور والجمود

رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتابع المناقشات التي تدور في إطار مؤتمر الحركة أمس في مدينة الحمامات (أ.ف.ب)
رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتابع المناقشات التي تدور في إطار مؤتمر الحركة أمس في مدينة الحمامات (أ.ف.ب)
TT

«نهضة» تونس و«إخوان» مصر» على المحك

رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتابع المناقشات التي تدور في إطار مؤتمر الحركة أمس في مدينة الحمامات (أ.ف.ب)
رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتابع المناقشات التي تدور في إطار مؤتمر الحركة أمس في مدينة الحمامات (أ.ف.ب)

عقد حزب «حركة النهضة» في تونس أخيرا مؤتمره العاشر في مدينة تونس العاصمة، وشهد المؤتمر جملة من الطروحات والمواقف اللافتة في مسيرة الحركة التي تولت عمليا الحكم في أعقاب ثورة 2011، لكنها أبدت مرونة وواقعية، سواء إبان توليها الحكم أو عودتها إلى صفوف المعارضة. وكذلك شهد المؤتمر فوز زعيم الحركة المؤسس برئاستها، حاصلا على غالبية أصوات المؤتمرين (800 صوت)، إلا أن الجانب الأبرز كان ممارسة الحركة نقدا ذاتيا شجاعا، بعد تقييم تجربتها قبل الماضية قبل الثورة التي أطاحت بحكم زين العابدين بن علي وبعدها، عبر حوار شامل استغرق نحو سنتين، وأفرز رؤية جديدة، تشمل ضمن ما تشمله فصل الجانب الدعوي عن الجانب السياسي.

تعاني حركة «الإخوان المسلمون»، الحركة الأم لسائر حركات الإسلام السياسي في مصر، تصلبا وجمودا يكاد يقصمها ويقسمها، بين تياري «الصقور» و«الحمائم»، وبين الشيوخ والشباب، وبين العنف والسلمية، وبين تنظيمها المركزي وفروعها، التي تحمله دون أن يحملها، حتى بات يصح على الجماعة المصرية الأم وصف بعضهم لها بأنها «غدت كالإسفنجة التي تمتص المياه والحياة من الآخرين».
ورغم التأثير والتأثر، فإنه من الخطأ حسبان سائر حركات الإسلام السياسي عليها، فبعضها انفصل عنها مبكرا شأن الراحل الدكتور حسن الترابي وحركته في السودان، أو نشأ منفصلا عنها أساسا شأن «التوحيد والإصلاح» المغربية أو «حركة النهضة» التونسية.
وبينما لا يزال خطاب «النهضة» وأدبياتها، حيين ومتجددين في إطار التاريخ، لم تستطع جماعة «الإخوان المسلمون» – رغم توالي ثمانية مرشدين على رأسها – تجديد أدبياتها التأسيسية وخطابها السياسي، وظلت منحبسة في تراث المؤسس حسن البنا منذ وفاته عام 1949. والمؤسس الثاني – الأكثر تأثيرا في قيادتها – سيد قطب منذ إعدامه عام 1965، واستمرت الجماعة ذات قدرة مدهشة على نفي وإقصاء أي محاولة للتجديد خارجها، أو على الأقل خارج تنظيمها.
كذلك غلب على مرشدي «الإخوان» وقادتهم التخصصات غير الشرعية وغير الفكرية – باستثناء المؤسس وسيد قطب صاحب التأسيس الثاني لها – بينما امتلك أغلبهم الموهبة الحركية والتنظيمية فقط، المهددة الآن مع تصاعد الخلافات الداخلية بين أجنحتها التي تصاعدت أوائل هذا العام، في بيانات متعارضة، واتهامات متبادلة بين قيادات الداخل والخارج.
كذلك يمتلك «الإخوان» هوية منتفخة لا تؤمن بالاستفادة من غيرهم؛ ذلك أنهم حين خاطبهم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان طارحا اعتناق مبدأ فصل الديني عن السياسي (العلمانية) إبان زيارته مصر في أغسطس (آب) 2011، ردت عليه قيادات الجماعة بأنها لا تتعلم من أحد، ولا تحتاج إلى نصائح أحد. وفي المقابل، صرح زعيم «حركة النهضة» راشد الغنوشي (74 سنة)، صاحب التجربة الطويلة في المنفى الأوروبي، بإعجابه بالأنظمة المدنية التي تفصل بين المجالين، وكتب ذلك مرارا، وبخاصة، في كتابه «الحريات العامة في الإسلام».
من هنا تبدو «النهضة» أقرب إلى النموذج التركي بشكل واضح، بينما ظل «الإخوان» في مصر أقرب إلى النموذج الإيراني وآيديولوجيته، في كون «المرشد» هو «الولي الفقيه» وصاحب «البيعة» وصاحب الصلاحيات التي تحكم الرئيس والنظام معه. ولذا؛ كان رفضهم المستميت لـ«وثيقة المبادئ الأساسية للدستور» عام 2012، وولوغهم في الأزمة الدستورية وإقصاء ممثلي الكنائس الثلاث ومختلف القوى المدنية، وهي الأزمة التي تصاعدت في نوفمبر (تشرين الثاني) إلى أن مهدت لسقوطهم المدوّي في يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) من العام نفسه. وعليه، لم يكن مدهشا حين استعان الرئيس المعزول محمد مرسي بمستشارة له كانت أطروحتها تحديدا حول هذا النموذج، وكيف ابتلعت «ولاية الفقيه» الثورة دون كل مشاركيها من الاتجاهات المدنية والسياسية الأخرى.
كذلك يصر «الإخوان» على رفض فكرة الاعتذار أو التصحيح – جزئيا أو كليا – ونقل عن مرشد الجماعة الثاني الراحل الأستاذ حسن الهضيبي قوله: إن «الإخوان لا يعتذرون» مهما كانت الأخطاء، على العكس من شجاعة «النهضة» التي تأكدت في المؤتمر الأخير بغض النظر عن بواعثها أو مآلاتها.
من هنا يبدو الوعي التاريخي مكينا في مسار وتاريخ «حركة النهضة» التونسية منذ تأسيسها عام 1972 مرورا بإعلانها الرسمي سنة 1981، وهي تؤكد أنها من أكثر الحركات الإسلامية وعيا بالسياق التاريخي والسياسي وتحولاتهما. ويمكن رصد معالم دالة على ذلك منذ وقت مبكر، منذ تحولت من هويتها الأولى «الاتجاه الإسلامي» إلى «النهضة» عام 1989... حتى الوصول لتدشين مرحلة جديدة في مؤتمرها العاشر الذي نظمته أخيرا. كذلك، يظل يحسب لها إحجامها عن الانخراط في أعمال عنف ضد نظام زين العابدين بن علي.. قبل الثورة، أو انجرارهم إليها بعدها. وهو ما مهّد لنجاحها في الخروج «الناعم» من السلطة بعد تزايد الاعتراضات والمظاهرات بعد انتهاء آخر أعمال حكومة علي العريّض في 29 يناير (كانون الثاني) 2014، ثم انتهاء أعمال المجلس التأسيسي في 2 ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، وصولا إلى نموذج «العيش التونسي» الذي شاهدناه في المؤتمر الأخير عناقا بين الرئيس الباجي القائد السبسي وزعيم «النهضة» الغنوشي الذي جدد انتخابه في المؤتمر الأخير بأغلبية ساحقة هذا العام بعد تصويت 1200 من المؤتمرين فيه.
من ثم، يمكن القول: إنه على الرغم من سقوط حكم «الإخوان» في مصر وخروج الجماعة القسري من السلطة عام 2013، فإن خطابها ما زال عاجزا عن المفاصلة والقطيعة مع خطابات الجماعات الإرهابية العنيفة والمتشددة، بل لقد راهن عليه وعلى استنزاف الدولة، كما صرح عدد من قادتها وحلفائها أكثر من مرة. نجحوا في شراء العداء وتأبيده ليس فقط مع النظام والدولة، بل أيضا مع نخب وقوى مدنية طالما تحالفت مع الجماعة أو دافعت عنها. ومع صعود عمليات الإرهاب والعنف في مصر، تصدر بيانات في اتجاه ذرائعي وحيد لتحميل النظام الحالي الحاكم بعد 3 يوليو كل المسؤولية عن كل ما يحدث، دون براءة أو تخطئة لأي من جماعات العنف النشطة، بما فيها عمليات فرع «داعش» النشط «تنظيم بيت المقدس» أو جماعة «المرابطون» في سيناء ضد العسكريين والأمنيين.. حتى صارت عملياته داخل العاصمة القاهرة وعدد من المحافظات، التي يقع ضحاياها من المدنيين، فزاعة لآخريها ومبرّرا الدولة والنظام الذي تعارضه في الآن نفسه.
وفي حين رحبت حركة «النهضة» بمبادرة «لجنة الحوار الرباعي» و«حوار القوى المدنية» عام 2013، رفضت جماعة «الإخوان»، وما زالت ترفض، مختلف المبادرات التي تطرح للمصالحة، سواء من شخصيات محايدة، أو أقرب إليها أو أقرب للنظام ومعارضتها. ورغم مراهنتها على الأزمات الاقتصادية والسياسية في مصر ما زال خطابها مع المعارضة المدنية – فضلا عن النظام – خطابا تهكميا واتهاميا لا يستطيع الوصول للمناطق المشتركة.
ربما من الضروري قراءة مخرجات مؤتمر «النهضة» الأخير، بعيدا عن الإرث الثقيل لتجربة الحركة في الحكم بين عامي 2011 و2014. أو قراءتها عبر ازدواجية خطاب بين ما توجهه للخارج، أو ما توجهه للداخل على لسان زعيمها المؤسس راشد الغنوشي، أو اعتبارها «تراجعات» لا «مراجعات» من الحركة الإسلامية المغاربية الأشهر عربيا. ولكن في ضوء مقارنتها بحالة جماعة «الإخوان» في مصر مثلا، رغم اختلاف المرجعيات والتطور، والمواقف الشبيهة، نجد أنها حركة أصرت على «نموذج العيش التونسي» واستمرت معها مكاسب ثورتها الديمقراطية، بينما مهدت الأخرى – أي «الإخوان» – لصدام لا يتوقف مع المعارضة المدنية ومع النظام الحاكم بعدها.
من الفوارق الكبيرة أيضا أنه كانت لدى الشيخ الغنوشي، زعيم «النهضة» ورئيسها، الشجاعة الكاملة لأن يعلن الاعتذار عن أي أخطاء حدثت أثناء تجربة الحكم أو قبلها، بل شجاعة أن يترحّم على بعض أبرز معارضيه، مثل الشهيدين المعارضين شكري بلعيد ومحمد البراهمي اللذين اغتيلا أثناءها، أما «الإخوان» فمفاصلتهم مع الجميع كانت أثناء الحكم واضحة واستمرت بعده بشكل أكثر وضوحا.
لقد أكد الغنوشي في كلمته الافتتاحية لمؤتمر «حركة النهضة» العاشر هذا الحرص على الاعتذار عن الخطأ حين قال: «إننا جادون، في النهضة، في الاستفادة من أخطائنا قبل الثورة وبعدها، نعترف بها، نحن حركة تتطور ولا تستنكف من أن تسجل على نفسها أخطاء» من دون ذكر هذه «الأخطاء». وتابع: «إننا حريصون على النأي بالدين عن المعارك السياسية٬ وندعو إلى التحييد الكامل للمساجد عن خصومات السياسة وعن التوظيف الحزبي٬ حتى تكون المساجد مجمعة لا مفرّقة. وفي الوقت نفسه نستغرب إصرار البعض على إقصاء الدين من الحياة العامة».
هذا هو المنطق الذي تفتقر إليه جماعة «الإخوان المسلمون»، الحركة الأم للإسلام السياسي، بشكل شبه كامل، فيعادي التطور عندها بقاء تقديس لأدبياتها الأولى التي كتبت قبل نيف وثمانين سنة منذ تأسيسها الأول على يد حسن البنا، أو تأسيسها الثاني على يد سيد قطب. كما يعادي تطورها سيطرة «التنظيميين» – أو «الصقور» – على تنظيمها وهياكلها بشكل شبه كامل، ويلفظ أي محاولة تجدد أو تجديد خارجها، منذ أزمتها الأولى عام 1954، بعد بضع سنوات من اغتيال مؤسسها عام 1949، إلى أزمتها الأخيرة وخروجها من الحكم في 3 يوليو 2013.
وهذا ما أكد عليه الغنوشي خلال مؤتمر حركته، واصفا الحركة بأنها «تكرس بذلك التمايز الواضح بين المسلمين الديمقراطيين الذين هم نحن وبين تيارات التشدّد والعنف التي تنسب نفسها ظلما وزورا إلى الإسلام». وأردف «إن التخصص الوظيفي بين السياسي وبقية المجالات المجتمعية، ليس قرارا مسقطا أو رضوخا لإكراهات ظرفية٬ بل تتويج لمسار تاريخي». وأكد الغنوشي هذا الوعي التاريخي الذي تتمتع به الحركة «من السبعينات إلى اليوم، من حركة عقدية تخوض معركة من أجل الهوية عندما كانت الهوية مهددة، إلى حركة احتجاجية شاملة تدعو إلى الديمقراطية في مواجهة نظام شمولي، إلى حزب ديمقراطي وطني مسلم متفرغ للعمل السياسي بمرجعية وطنية تنهل من قيم الإسلام، ملتزمة بمقتضيات الدستور وروح العصر».
كذلك جاء البيان الختامي لمؤتمر حركة «النهضة» مؤكدا هذا الوعي بأهمية التطوّر، والمفاصلة بينها وبين حركات التشدد العنيف الأخرى، حين ذكر أن حزبها السياسي (حزب «حركة النهضة») «تجاوز عمليا كل المبررات التي تجعل البعض يعدّه جزءا مما يسمى الإسلام السياسي». ومشددا على أن هذه التسمية الشائعة «لا تعبّر عن حقيقة هويته الراهنة، ولا تعكس مضمون المشروع المستقبلي الذي يحمله»، وفق ما صرح به رضا إدريس، النائب الأول لرئيس المؤتمر. ومن ثم أوضح إدريس أن الحركة «تعتبر أن عملها يندرج ضمن اجتهاد يعمل على تكوين تيار واسع من المسلمين الديمقراطيين الذين يرفضون التعارض بين قيم الإسلام وقيم المعاصرة».
إن نتائج المؤتمر العاشر لحركة «لنهضة» تعبر عن تطور فكري ووعي تاريخي واضح، أكثر من كونه مراجعة. وهو تأكيد على منطق «المدنية» للحركة والتنظيم، وبراءة غير معلنة من خطابات بعض ممثليها في السابق عن الخلافة الثالثة عام 2013، أو التقاربات التي تمت بينها وبين بعض المتشددين أثناء فترة حكمها. أو قل هي في أحسن الأحوال انتصار للاتجاه المعتدل على الاتجاه المحافظ في صفوفها، كما تمخض عن استقرار لبنيتها التنظيمية، ببقاء الغنوشي وتفويض مجلس شوراها إليه.
ولكن يبقى القول: إن هذا التطور الأخير لحركة «النهضة» في تونس، مسبوق عربيا بتجربة حركة «التوحيد والإصلاح» المغربية، وبالتالي حزبها «العدالة والتنمية»، التي أقرت وفصلت مبكرا – وبشكل واضح – بين الحركة الدعوية والحزب السياسي بشكل واسع، قبل سنوات. وحقا، سعى «العدالة والتنمية» لوضع تصور واسع لهويته ومرجعيته في اتساعها المدني والديمقراطي والإنساني، بعيدا عن تحفظات البعض - هنا أو هناك - على تحفظات حكومته الحالية برئاسة عبد الإله بن كيران، وما سوى ذلك ظل نظريا سواء عند جماعة «الإخوان» نفسها أو عند حزب النور في مصر.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».