ألمانيا: «صحافة بناءة» نحو مجتمع سعيد

3 إعلاميين ألمان شباب من مدينة مونستر أثاروا اهتمام الصحافة المكتوبة والمقروءة بمشروع جديد

ألمانيا: «صحافة بناءة» نحو مجتمع سعيد
TT

ألمانيا: «صحافة بناءة» نحو مجتمع سعيد

ألمانيا: «صحافة بناءة» نحو مجتمع سعيد

شقت الصحافة الإلكترونية طريقها بوضوح في عالم إعلام اليوم الرقمي، ويبقى على هذا النوع من الصحافة أن يختار الطريق الصحيح نحو القراء. 3 إعلاميين ألمان شباب من مدينة مونستر أثاروا اهتمام الصحافة، المكتوبة والمقروءة، بمشروع جديد من نوعه.
ومشروع صحيفة «بيرسبيكتيف ديلي» للإعلاميين الشباب، هانز لانغلانغز، ومارين أورنر، وبيرنهاريد إيكنبيرغ، يختلف في الأساس من ناحية التأسيس؛ لأن المشروع كسب عقول الألمان قبل أن يكسب قناعاتهم، واستطاع أن يبدأ نشر صفحاته الرقمية الأولى من خلال ألف و500 مشترك، قدموا اشتراكاتهم مقدمًا كي يتيحوا لفكرة «الحقيقة» أن تشق طريقها في عالم إعلام اليوم. كما صار الثلاثة يبيعون بطاقات بريدية تحمل صورتهم وهم يرفعون شعار «بيرسبيكتيف ديلي»، بهدف تمويل الصحيفة.
ويقول الإعلاميون الثلاثة، إنهم يريدون بمبادرتهم تعميم «الصحافة البناءة» لتمييزها عن الصحافة الألمانية السائدة. ويفترض أن تنقل «الصحافة البناءة» إلى القراء الواقع كما هو، وبأقل ما يمكن من الأخبار السيئة التي تقلق بال الناس وتشوشهم بدلاً من أن تطمئنهم. ويقول هانز لانغلانغز، إنهم يريدون بث السعادة في المجتمع الألماني، الذي تنتشر فيه المخاوف والاكتئاب، بسبب الأخبار المقلقة التي يسمعونها يوميا. ويرى الثلاثة أن الدراسات العالمية وضعت الشعوب الاسكندنافية، وخصوصا الدنمارك في مقدمة الشعوب المرتاحة والسعيدة والراضية عن حياتها، وأن ذلك ليس بعيدا عن شكل «الصحافة البناءة» السائدة هناك. وعلى هذا الأساس، فإن الهدف الرئيسي هو رفع رضا الألمان عن حياتهم، إلى مستوى الدنمارك من خلال صحيفة «بيرسبيكتيف ديلي»، التي زاد عدد المشاركين رسميا فيها عن 12 ألفا و500، يدفع كل مشارك 42 يورو مقدما، كاشتراك سنوي. كما ساهمت شخصيات فنية، مثل الممثلة المعروفة نورا تشيرنر، مجانا في الدعاية ودعوة الناس للتبرع، وهو ما وفر للثلاثة رأس مال قدره 520 ألف يورو، للشروع في تحرير صحيفتهم.
وكتب راديو «في دي آر» (القناة الثالثة)، على صفحته الإلكترونية، ممتدحا المشروع: «(بيرسبيكتيف ديلي) جريدة تثير الفضول في الأحوال كافة».
لا يريد طاقم التحرير، المؤلف من 6 أفراد، أن يعرف شيئا عن عبارة «الأخبار التعيسة أكثر رواجا من السعيدة في عالم صحافة اليوم»؛ لأنهم يريدون جعل الأخبار السعيدة أكثر إثارة، كما يودون الابتعاد عن توسيع النشر على حساب مخاوف القراء. وبعض مواضيعهم المفضلة، كما تقول مارين الورنر، هي كشف طرق فرض الأفكار على الناس، وكسر العادات المتأصلة، والتعمق في دراسة أوضاع البيئة.
مجلة «دير شبيغل» الواسعة الانتشار، عبرت عن إعجابها بفكرة «كراود فندنغ»، التي مول بها فريق العمل صحيفة «بيرسبيكتيف ديلي». وجاء في مقال «دير شبيغل» أن بيرنهار إيكنبيرغ، صاحب الفكرة الأساسي، يتحدث عن الصحافة البناءة، ويفهم الفكرة على أنها ليست نقل المشكلات إلى القراء فقط، إنما إيجاد ومناقشة الحلول الممكنة لها. وطبيعي لا يستطيع التعليق والمناقشة في إيجاد الحلول إلا المشتركون في الجريدة الرقمية.
يكون العدد الأول من الصحيفة الرقمية أمام أعين القراء على شاشة الكومبيوتر، في مطلع شهر مايو (أيار) المقبل، حيث سينشر يوميا مقال واحد يخص قضية معينة، ويجري النقاش عليه بما يخدم إغناءها وإيجاد الحلول لها.
وكتبت صحيفة «دي فيلت» أن «بيرسبيكتيف ديلي» تريد لصحافتنا أن تكون أكثر فرحًا، ويرى محرروها أن إيجاد الحلول هو البديل للدوران حول الموضوع في الصحافة التقليدية، ولكن من دون الادعاء أن الصحافة تريد إنقاذ العالم. وتسأل الصحيفة المعروفة قراءها ساخرة: «هل أنت متعب؟ مكتئب؟ و(محروق) في العمل، عليك إذن الابتعاد عن نشرة أخبار الثامنة مساء في القناة التلفزيونية الأولى، وأن تكف عن قراءة (دير شبيغل) وغيرها، وعليك بالصحافة البناءة». وتواصل «دي فيلت»: «كتب محررو (بيرسبيكتيف ديلي) أنهم على قناعة بأن على الإعلام أن يفعل أكثر من مجرد نشر الفضائح، والتركيز على أحداث معينة دون غيرها، وكتابة العناوين الرنانة». وتتساءل الصحيفة: «هل الصحافة البناءة تعني كيل الاتهامات للصحافة التقليدية؟».
ذكرت مارين أورنر في مقابلة معها: «نريد أن تكون إثارة الأسئلة في مركز إعلامنا، وأن نطرح كيفية الخروج من الأزمات». وأضافت: «هذا لا يعني أن الصحافة البناءة تغض النظر عما يجري في العالم».
وترى صحيفة «راينشه بوست» أن فكرة «الإعلام البناء» ليست جديدة، وقد برز بها الدنماركيون قبل غيرهم منذ بضع سنوات. أحدهم هي الصحافية كاترين غليندستيد، التي تسعى لتأسيس صحيفة مماثلة في هولندا. وتقول الصحافية الدنماركية إن بث الفرح في الإعلام لا يعني نشر قصص من أمثال «رجل يساعد قطة على الهبوط من شجرة»، فالصحافة البناءة تعني مسؤولية اجتماعية. ويؤيدها في موقفها زميلها أولريك هاغيروب، الذي نشر كتابا بعنوان «الأخبار البناءة» (عن دار أوبراور) في الدنمارك. ويقول هاغيروب، في فصل الكتاب المعنون «لماذا الأخبار السيئة»، إن هذه الأخبار تدمر الميديا. ويدعو الصحافي إلى ميديا من طراز جديد، تمس الوتر الحساس من اهتمامات الناس.



كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».