رسائل الحب الإلكترونية.. عواطف باردة وانتقام في العلن

على عكس السطور الورقية التي أهدتنا روائع الأدب

رسائل الحب الإلكترونية.. عواطف باردة وانتقام في العلن
TT
20

رسائل الحب الإلكترونية.. عواطف باردة وانتقام في العلن

رسائل الحب الإلكترونية.. عواطف باردة وانتقام في العلن

ذاك الصندوق المعدني المعلق على جدران البريد كم كان حريصًا على أسرار الأدباء، وخصوصًا العشاق منهم. وكم جُمعت رسائل مرت من خلاله ثم طبعت في كتب قيمة.
لم يكن حينها ثمة «هكر» يفضح السطور، ولا «فايروس» يضرب الصندوق فيمسح ما تخبئه المغلفات الورقية من مشاعر ولواعج ومكنونات قطعت ربما آلاف الأميال حتى وصلت إلى مقصدها.
حدثني مرة أحد سعاة البريد المتقاعدين بأنه كان يعرف رسائل الحب من سواها من النظرة الأولى للمغلف. قلت له: «إن لم يكن في الأمر سر الصنعة فلتخبرني كيف تميز هذه الرسائل». فضحك عن أسنان داكنة وشاربين ما زالا معقوفين للأعلى وقبعة هي آخر ما تبقى له من أدوات ساعي البريد التقليدية، وأجاب: «الصنعة كلها راحت بأسرارها».. ثم أكمل بعد أن غابت ضحكته وحل مكانها نظرة شجية كأنه ينتزع مسامير المفردات من باب خشبي قديم أغلقه منذ سنوات على الذاكرة: «كانت رسائل العشاق تكتب بخط أنيق وحروف ممتدة بانسياب، وبعضهم كان يدس أوراق ريحان أو نباتات عطرية تفوح رائحتها من وراء الورق».
لوحت له بالوداع، ناظرًا إلى دراجته الهوائية الصدئة التي كان يستخدمها في إيصال الرسائل، وربما لا يدري هذا العجوز حجم الخدمة العظيمة التي قدمها للأدب العربي الذي زخر بكتب تتضمن رسائل الأدباء فيما بينهم.
مسافات زمنية ومكانية بين أدباء جمعتهم سطور ليست مجرد حروف عابرة، إنها مقطوعات أدبية لأشخاص مثل: جبران خليل جبران ومي زيادة في كتاب عنوانه «الشعلة الزرقاء». عباس محمود العقاد ومي زيادة أيضًا. غسان كنفاني وغادة السمان. وليس الحب العاطفي وحده الذي يحرك المشاعر في سطور الرسائل، بل الوطن كان له سطوة أقوى بين الشاعرين محمود درويش وسميح القاسم في كتاب عنوانه «الرسائل».
بكل الأحوال، وبغض النظر عن اختلاف وجهات النظر حول أحقية غادة السمان في نشر رسائل خاصة جدًا أرسلها إليها غسان كنفاني، وبمعزل عن كون جبران خليل جبران الأبرع في اقتناص قلب مي زيادة من بين كل رواد صالونها الثقافي الأدباء، فإن التكنولوجيا آثمة بقدر ما هي مفيدة، لقد حرمتنا من كتب جديدة، كما حرمت شاعرة صديقة أسرت لي بأن رائحة تبغ الكاتب الذي كان يراسلها ورقيًا، كانت تظل عالقة بين طيات الصفحات، وأبلغتني أكثر بأن الكاتب هذا كان فوضويًا لدرجة أن الرسائل تصل أحيانًا وعليها بقع شاي أو قهوة. لكن الأمر بالنسبة إليها كان شاعريًا جدًا.
لكن الجرأة التي تحلت بها غادة السمان بنشرها ما كان يرسله إليها الراحل غسان كنفاني، كانت عصية على الكثير من الأديبات الموجودات على مواقع التواصل الاجتماعي، فاللواتي سألتهن عما إذا كانت تصلهن رسائل حب من أدباء، جاءتني إجاباتهن مختلفة، فبعضهن أكدن ذلك فورًا وبشكل قاطع، وبعضهن الآخر اكتفين بالإجابة: «لا يخلو الأمر من ذلك»، واللائي نفين وصول رسائل كاملة، قلن بأن التي وصلتهن لا تعدو كونها عبارات «غزل». ولكن أيًا منهن لم توافق على نشر اسمها في هذا التقرير لخصوصية الموضوع.
بالمقابل سألت بعض الأدباء إن كانوا عاشوا قصة حب عبر رسائل إلكترونية، فأجابوا بـ«نعم». ولكن ليس لأحد منهم الجرأة بإصدار هذه الرسائل في كتاب، ليس فقط لأسباب اجتماعية، ولكن لأن إثبات صحة الرسائل عبر مواقع التواصل الاجتماعي ضعيفة، غير الرسائل الورقية المكتوبة والموثقة بخط يد صاحبها وعنوانه البريدي.
ولا يخلو الأمر من الانتقام في الرسائل الإلكترونية، وهو ما لا يحصل لدى نظيراتها الورقية، فقد حدث على مواقع التواصل الاجتماعي أن نشر أدباء على العلن رسائل وصلتهم من أديبات بعد أن دب الخلاف بينهم. وهو ما ترفّع عنه أدباء الورق.
يبدو أن الحب ابتردت عواطفه عبر الأسلاك الإلكترونية، فما هو مبذول يصبح أقل قيمة مما هو صعب، فقد كانت الرسائل الورقية غالية بسبب مشقتها، إذ يتوجب على الطرف الآخر الانتظار زمنًا طويلاً يكون أصحاب الرسائل الإلكترونية خلالها قد أمطروا بعضهم بمئات الرسائل.. ما يفرغ الحب من عاطفته ليصبح مملاً.



مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي

مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي
TT
20

مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي

مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدر كتاب «الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني» للفيلسوف وعالم النفس والتربية الأميركي جون ديوي، الذي عاش في الفترة من 1859 حتى 1952، ويعد بمثابة مؤسس الفلسفة البراغماتية التي تنظر لقيمة الأفكار والأشياء من منظور فائدتها العملية على أرض الواقع.

ترجم الكتاب الدكتور محمد لبيب النجيحي الذي يشير في المقدمة إلى أن ديوي ولد بمدينة فيرمونت والتحق بجامعتها في الخامسة عشرة من عمره، بسبب نبوغه المبكر إلى حد العبقرية. وبعد تخرجه عام 1879 نشر أول بحث له في الفلسفة بإحدى المجلات العلمية، وقوبل هذا البحث بالثناء، مما شجعه على احتراف هذا المجال. وفي عام 1884 منحته جامعة «جونز هوبكنز» درجة الدكتوراه في الفلسفة وهو بسن 25 عاماً فقط، وأُلحق بقسم الفلسفة بجامعة ميشيغان.

وفي عام 1894 انتقل ديوي إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسست آنذاك، وعُيِّن فيها رئيساً لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية؛ حيث قام بثورته التربوية المسماة «التربية التقدمية». وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شؤون الجامعة لم يُقرُّوا هذه التجارب، فاضطُّر إلى الاستقالة في عام 1904، منتقلاً إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا؛ حيث بقي بها حتى سن التقاعد في عام 1930.

وقد ظل ديوي يبدي نشاطاً في «اتحاد المعلمين» بنيويورك، إلى أن استطاع اليساريون أن يستحوذوا على السلطة فيه، ما جعله ينتقل إلى الاتحاد البديل الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين، وأسهم في تنظيمه، وكان أيضاً من مؤسسي «اتحاد الحريات المدنية للأميركيين»، وجمعية «أساتذة الجامعات الأميركيين».

وتكمن أهمية كتاب «الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني» في أنه يعد بمنزلة ثورة شاملة في فهم العلاقة بين علوم النفس والتربية من ناحية، وبين الفلسفة من ناحية أخرى؛ حيث يرى المؤلف أن تفسيرنا للسلوك الإنساني تفسيراً سليماً يتوقف على فهمنا للطبيعة الإنسانية، وللعوامل الاجتماعية المختلفة التي تشترك معها في تكوين هذا السلوك. كما يقضي الكتاب على أوجه التناقض والصراع المختلفة بين النظريات القديمة في هذا السياق، من حيث نظرتها للسلوك الإنساني، كما يبشر بعلم نفس تربوي اجتماعي يحرر الفرد من القيود والضغوط والكبت والحرمان، مستغلاً ذكاءه وتفكيره، متغلغلاً في ميادين متنوعة من العلاقات الإنسانية المعقدة.

وترتكز رؤية ديوي على أهمية البيئة المحيطة بالفرد، ودورها الحاسم في تشكيل نوعية سلوكه، فالعادات السلوكية للإنسان تحتاج إلى تعاون بين الكائن الحي وبيئته، فلا نستطيع أن نتصور تكوين عادة من العادات دون أن يكون هناك فرد إنساني من ناحية، وبيئة محيطة من ناحية أخرى. ولعل الفصل بين هذين القطبين أدى إلى فكرة خاطئة في الميدان الأخلاقي، تتمثل في أن المفاهيم الأخلاقية تختص بها الذات دون غيرها، وبذلك تُعزل الذات عن بيئتها الطبيعية والاجتماعية، وتُعزل الشخصية عن السلوك، وتُفصل الدوافع عن الأفعال الحقيقية.

ويؤكد جون أن الفضائل والرذائل ليست من الممتلكات الذاتية للفرد، ولكنها أنواع من «التكيف الواقعي» لقدراته مع القوى البيئية المحيطة به.

وهنا يطرح المؤلف عدة تساؤلات حاسمة، منها: هل يمكن أن تُعزَل الذات عن بيئتها الطبيعية والاجتماعية؟ بمعنى آخر: هل يمكن أن يوجد ما يمكن أن نسميه الحياد الأخلاقي؟ هل نستطيع مقاومة الشر عن طريق إهماله وعدم الاهتمام به؟ هل يستطيع الفرد أن يبقي على ضميره نقياً طاهراً بأن يقف بعيداً عن الشر؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تأتي كلها بالنفي، فالحياد الأخلاقي لا وجود له، ومقاومة الشر عن طريق إهماله هي في حقيقة الأمر طريقة غير مباشرة من طرق الترويج له.