أربعة نماذج للصيغ الدهرانية عند طه عبد الرحمن

رموز فصل الدين عن الأخلاق في الغرب

أربعة نماذج للصيغ الدهرانية عند طه عبد الرحمن
TT

أربعة نماذج للصيغ الدهرانية عند طه عبد الرحمن

أربعة نماذج للصيغ الدهرانية عند طه عبد الرحمن

من يدقق في مشروع طه عبد الرحمن، يظهر له أن الرجل يتحرك عكس المشروع الحداثي تماما، بل ويسعى إلى قلب المبادئ المستند إليها جذريا، وذلك بالاعتماد على مبادئ البنية الإسلامية. فمنها يمتح وينحت مفاهيمه التي تبدو للقارئ، أول وهلة، غامضة قد تجعله يعرض عن إتمام كتبه، خاصة مع تفريعاته الكثيرة. لكن بشيء من الصبر، يمكنه تفكيك شفرات أطروحته، وذلك يسهل أكثر عندما يستوعب المرء البنية الحداثية في عمقها. لذلك فأي قراءة لطه عبد الرحمن بمعزل عن الفكر الغربي، ضياع وشتات. فإما سيفهم الرجل خطأ أو سيمجده إلى درجة أكبر من حجمه. فهو منخرط حتى النخاع في الإشكالات العالمية التي أفرزتها جروح الحداثة المستأسدة بالعلم الحديث، بدءا من القرن السابع عشر، فمن يريد قراءة طه عبد الرحمن، عليه بداية، أن يحفر في قلب الرؤية الحداثية القائمة على عزل الظواهر وفصلها، قصد التحكم فيها والهيمنة. وهذا يتضح تماما، إذا ما قرأنا كتابا من كتبه الأخيرة وهو بعنوان كبير: «بؤس الدهرانية»، وبعنوان صغير: «النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين»، الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة 1- 2014. والذي كتبه طه عبد الرحمن خصيصا لمعالجة ما يراه عيوبا، أو بتعبيره المفضل، آفات فصل الأخلاق عن الدين في المنظومة الحديثة، حيث نجده يخوض في نقاش نقدي مع أربعة نماذج غربية من المفكرين هم: جان جاك روسو، وإيمانويل كانط، وإميل دوركايم، والمعاصر لوك فيري. وسيعرف المهتمون وخصوصا بالفلسفة، أن هذا الاختيار ليس اعتباطيا، بل هو اختيار جد واع من الرجل. فهو اتجه بالضبط، إلى هؤلاء لأنهم عينات تمثيلية واضحة، تجسد بوضوح، النظرة اللائكية للعالم، أو بتعبير طه عبد الرحمن، النظرة الدنيانية، حيث تأليه الإنسان لنفسه ومركزته المطلقة لذاته. لهذا، ومن خلالهم، سيسعى إلى تقديم فلسفة عكسية ينعتها بالائتمانية، سعيا منه إلى عودة الله بالمعنى الإسلامي إلى الوجود، ويراهن من خلالها على تزويد المسلمين بالحق في الاختلاف في رؤية العالم، ناهيك عما يراه في هذا البديل من خلاص لهموم العصر.
سنسعى في مقالنا هذا إلى الوقوف عند هؤلاء المفكرين الذين سينتقدهم طه عبد الرحمن، وذلك كالآتي:
الأنواع الأربعة للصيغ الدهرانية:
يعلن طه عبد الرحمن بداية، إنه سيقتصر في نقاشه فقط على أمثلة من المفكرين الدهرانيين غير المعادين للدين، وسيحصرهم في أربعة نماذج هي:
* 1 - جان جاك روسو
وهو أول من سيفتتح معه النقاش، وسيعتبره الصيغة الطبيعية للأنموذج الدهراني. وهو أحد من اقترن اسمه بالدين الطبيعي تحريرا وتنظيرا. فروسو كما هو معروف، اتبع طريقا فيه تضاد بين الدين الطبيعي والدين المنزل، بهاجس طرد الخرافة والأسرار، والاتجاه نحو دين من دون وحي، إلى درجة أن روسو جعل من أهداف التربية الدينية، كما جاءت ملامحها في كتابه «إميل أو التربية»، هي بالأساس تحرير الذهن من الأفكار المسبقة والأحكام المتوارثة، سواء الدينية أو حتى التي زرعها الفلاسفة الأنواريون «الملاحدة»، ليجعل المرجع الوحيد في الأمر هو براءة الطبيعة، أي ضمير الفرد ووجدانه المصفى من شوائب الإتباع والتقليد. إنه النقاء الأولي الذي خرج به المرء إلى الوجود.
* 2 – إيمانويل كانط
أما الفيلسوف الثاني الذي سينتقده طه عبد الرحمن، وسيعتبره مجسدا للصيغة النقدية للأنموذج الدهراني، فهو الحكيم العالمي «إيمانويل كانط»، صاحب كتاب «الدين في حدود العقل وحده»، أو كما يحلو لمترجم هذا الكتاب إلى العربية، فتحي المسكيني، أن يسميه «الدين في حدود مجرد العقل»، على أساس أن التجريد المقصود في العنوان، هو تعرية الدين من ملابس العقائد السائدة والمختلفة، والكشف عن نواته الصرفة أي العقلي المحض. فكانط حاول في كتابه هذا الذي جاء في ذروة عصر الأنوار، أن يلون الدين بقالب الأخلاق فقط، وأن يحذف منه كل الطقوس والشعائر. بعبارة أخرى عمل كانط على إفراغ الأديان من مضمونها التاريخي، ليملأها بمضمون عقلاني متعال عن الزمان والمكان. فكانط يدعو إلى فصل الدين عن المعتقد. فمن الأنسب أن نقول إن هذا الإنسان على معتقد المسيحية أو اليهودية أو الإسلام. فهذه حسب كانط، ليست دينا، بل معتقدات لأن الدين الحق واحد، وهو لا يرتكز على الوحي القادم من التاريخ، بل هو متعال يقوم على أساس العقل. إن الإنسان العامي، بحسب كانط، تلتبس عليه الأمور، بحيث عندما يسمع كلمة دين، يتجه ذهنه مباشرة إلى الجماعة الخاصة به التي تقع تحت حواسه، في حين أن الدين غير المعتقد المشيد في التاريخ، بل هو الأخلاق العقلية غير مغلفة بالشكليات الشعائرية.
* 3 – إميل دوركايم
أما لماذا اختار طه عبد الرحمن مناقشة إميل دوركايم، فهو بحسبه، ممثل ممتاز للصيغة الاجتماعية للأنموذج الدهراني. إنه من الفرنسيين المؤسسين لعلم الاجتماع الذي سيعمل بجد كي يفصل الظواهر الاجتماعية عن الفرد، ويجعلها مستقلة تماما عنه. كما اجتهد لإبراز القهر والسلطة الاجتماعية المحركة للأفراد. فهو يجعل من المجتمع في مرتبة «الإله» الذي يسير الأفراد ويفرض عليهم الأوامر فينصاعون وهم خانعون. فدوركايم يعلن أن الواجب الذي يؤتيه الفرد، ينشأ في معمل المجتمع الذي يضع حدودا فاصلة بين النافع والضار، بين الفضيلة والرذيلة، بين الخير والشر، وما على الفرد إلا التمسك بالأول وتحاشي الثاني. فالمجتمع هو مصدر قيمنا وعاداتنا وأنماط سلوكنا. فهو من يضع الميزان والمعيار الذي من خلاله نصنف الأعمال ونرتبها. فما يعمل في الفرد من ضمير أخلاقي، ما هو إلا انعكاس وصدى ضميره الاجتماعي الذي تم امتصاصه وإدماجه عن طريق التنشئة الاجتماعية. وهو ما يجعل من المجتمع سلطة متعالية على الفرد ومتجاوزة له. يقول دوركايم: «عندما يتكلم الضمير فينا فليس نحن من نتكلم بل المجتمع». فحين يندفع الفرد نحو إقرار خيرية سلوك معين، فقد يعتقد واهما أنه هو من استطاع القيام بهذا التصنيف، إلا أن الأمر في حقيقته نابع من سلطة خارجية، هي سلطة المجتمع الذي تفوقه. فكل فرد مهما كان، يحمل في داخله ثقافة المجتمع كلها. فالمجتمع يعمل على وضع أفراده في إطارات وقوالب، ومن ثم تكوين شخصيتهم وتذويبهم إلى درجة لا يستطيعون معها الفكاك.
* 4 – لوك فيري
وما بقي لنا إلا المثال الأخير الذي قرر طه عبد الرحمن مناقشته، إنه الفيلسوف المعاصر: «لوك فيري»، الذي يسمي صيغته في الدهرانية، بالناسوتية. وهو يختارها كترجمة للفظ: Humanisme عوضا عن الترجمة الشائعة وهي: النزعة الإنسانية. ويمكن إجمال تصور لوك فيري كالآتي: إذا كان من المعتاد القول إن الفلسفة تحسن طرح السؤال: فـ«لوك فيري» يؤكد على أن الفلسفة تحسن طرح حتى الأجوبة التي لها علاقة حتى بالخلاص الإنساني، الذي يبدو للوهلة الأولى، متعلقا فقط بالدين. لكن لوك فيري يراهن أيضا على الفلسفة، فهي تنافس الدين حول سؤال الخلاص الإنساني، وتنطلق من مسلمته نفسها وهي: «محدودية الإنسان». فوقتنا ومدة وجدنا نحن البشر، محسوب. وأكثر من ذلك، نحن على دراية ووعي كامل بالأمر، عكس بقية الحيوانات. بعبارة أخرى، نحن سنموت ونفكر في موتنا، ما يخلق القلق والعذاب. وإذا كان الدين يقدم الجواب باللجوء إلى الكائن الأسمى، الذي بيده زمام الأمر والذي يعدنا بالخلاص، فالفلسفة من وجهة نظر لوك فيري، تجيب عن سؤال الخلاص بطريقة مختلفة، بطريقة أرضية، متمثلة في البحث عن السبل الممكنة للحد من الخوف من الموت، والعيش بأمان وهناء، لكن بحرية تفكير مطلقة. بمعنى آخر، يراهن لوك فيري على الإمكانات الخاصة للإنسان وتفكيره، وفق ما لديه من مؤهلات، للخروج من مأزق الموت. أي على الإنسان أن يدبر آمره لوحده وبجرأة عالية. فإذا كانت الأديان توفر الهناء والطمأنينة لكن تغامر بالتفكير وحريته، فإن الفلسفة تريد الهناء والتفكير معا. فهما معا مطلبان بشريان يجب عدم المغامرة بهما في هذه الحياة البشرية المحدودة.
يبدو بوضوح، إذن أن اختيار طه عبد الرحمن لهذا الرباعي من المفكرين الغربيين، يخدم مشروعه النقدي بشكل جيد. فهم يشتركون في الباراديغم، أو الأنموذج بتعبيره، أي الخلفية الذهنية الموجهة للرؤية الحداثية، التي عرفت طغيانا لنزعة إنسانية مفرطة إلى حد إبعاد الله عن مشهد الوجود. فالحداثة بكل تلاوينها، تعتبر أن شأن الإنسان وقضاياه هي منه وإليه. فهو عليه تحمل مسؤوليته الكاملة في الوجود بإمكاناته الخاصة. ولا ينبغي له أبدا الاستناد على أي قوى مفارقة تتجاوزه. فطه يعتبر أن الحداثة قامت بأخطر عملية انتزاع لقطاعات الحياة من الدين، وأبرزها الأخلاق. وهو العزل الذي اختار له اسم الدهرانية، وهي النظر للأخلاق بمعزل عن الله، أي نزع الأخلاق عن لباسها الروحي وجعلها بلباس زمني. إذن فالدهرانية هي أخت للعلمانية (بفتح العين)، بما هي فصل للسياسة عن الدين. وهي أخت للعلمانية (بكسر العين)، بما هي فصل للعلم عن الدين، إذ كلها بنات للدنيانية، التي يراها تصورا بائسا لرؤية العالم، حيث تؤدي إلى ضياع الإنسان والزج به في آفات تحرمه آدميته. لهذا سيتدخل طه وكأنه المنقذ لإعطاء مخرج لما يراه معضلة الدهرانية. فيقترح مسلمات ينبغي العودة إليها، ولعل أبرزها هي مسلمة الآمرية الإلهية: التي تعني عنده باختصار، أن ما أمر به الله فهو خير وعدل، سواء فهم المؤمن علل ومقاصد ذلك أم لا. وفي الوقت نفسه، ما نهى الله عنه فهو شر وظلم، سواء فهم المؤمن علل ومقاصد ذلك أم لم يفهم.
نخلص بسؤال ربما يهم كل منجزات طه عبد الرحمن، هو: لماذا عندما ينتقد طه عبد الرحمن الحداثة، يحاول أن يظهر للقارئ وكأن الحداثة اختيار؟ أو بعبارة أخرى، وكأن المفكرين في الغرب الحديث، قد جعلوا الذات مركزا، بحيث منها المنطلق وإليها الرجع، بقرار حر منهم؟ هذا من جهة. ومن جهة أخرى، هل الدهرانية بما هي فصل بين الأخلاق والدين، قد أوجدها المفكرون، أم هي إملاءات فرضت بقوة النسق العلمي الذي أكد على إنسانية المعرفة، وضرورة الفصل بين الظواهر قصد توضيحها والتحكم بها. وهو ما تعمم على كل مجالات الحياة. فيصبح الفصل المذموم عند طه عبد الرحمن نعمة كبرى؟



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.