تي إس إليوت.. صورة الشاعر شابًا

كتاب جديد عن الشاعر بمناسبة مرور 50 سنة على رحيله

تي إس إليوت.. صورة الشاعر شابًا
TT

تي إس إليوت.. صورة الشاعر شابًا

تي إس إليوت.. صورة الشاعر شابًا

يقول الشاعر الرومانتيكي الإنجليزي وليم وردزورث: «الطفل أبو الرجل». ويقول مؤسس التحليل النفسي سيجموند فرويد: «إن السنوات الخمس الأولى من عمر أي إنسان هي التي تحدد مسار شخصيته في المستقبل». ويكاد يجمع الرأي على أن السنوات العشرين الأولى من حياة أي فنان (أديبا كان أم موسيقيا أم رساما أم نحاتا) هي سنوات التكوين التي تصوغ رؤيته للحياة والناس والأشياء، بحيث إن كل ما يجيء بعدها ليس إلا امتدادا لخبرات هذه السنوات الباكرة.
واليوم يصدر كتاب جديد عنوانه «إليوت في شبابه: من مدينة سانت لويس إلى قصيدة الأرض الخراب» (الناشر: جوناثان كيب، لندن 2015)؛ وذلك بمناسبة مرور خمسين عاما على وفاة ت.إس.إليوت في 1965. والكتاب من تأليف روبرت كروفورد، وهو شاعر وناقد وأستاذ بجامعة سانت أندروز في اسكتلندا، وقد سبق أن أصدر في 1987 كتابا عنوانه «الهمجي والمدينة في أعمال ت.إس.إليوت».
Robert Crawford، Young Eliot: From St Louis to The Waste Land، Jonathan Cape، London، 2015.
وكتاب كروفورد، كما يقول روبرت ماكرام في صحيفة «ذا أوبزرفر» البريطانية 25 يناير (كانون الثاني) 2015، «علامة طريق» و«نقطة تحول» في آن واحد. فهو، أولا، يصدر بعد نصف قرن من رحيل إليوت بما يتيح لنا أن نلقي نظرة هادئة متروية على إنجازه الشعري والنقدي والمسرحي. وهو، ثانيا، إيذان بكشف الغطاء عما ظل طويلا مخبوءا من حياة إليوت بعد أن فرضت زوجته الثانية فاليري إليوت، توفيت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، نطاقا من السرية عليها زمنا طويلا، ومنعت نشر رسائله وأوراقه الخاصة إلا في حالات قليلة، وذلك استجابة لرغبة الشاعر الذي أوصى ألا يكتب أحد سيرته. وهي رغبة لم تتحقق بطبيعة الحال؛ إذ صدرت عنه، في أواخر حياته وبعد مماته، سبعة كتب على الأقل بأقلام مختلفة ترصد تفاصيل هذه الحياة، هذا إلى جانب عشرات، بل مئات، الكتب والفصول والمقالات والأطروحات الجامعية عن شعره ونقده ومسرحياته وترجمات أعماله إلى اللغات الأجنبية.
وعلى امتداد قرابة خمسمائة صفحة يتتبع المؤلف حياة إليوت منذ مولده عام 1888 في مدينة سان لويس بولاية ميزوري الأميركية، حتى صدور قصيدته، التي ربما كانت أشهر قصيدة في القرن العشرين وأعمقها أثرا في مختلف الآداب (بما فيها الأدب العربي الحديث، كما تشهد قصائد بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور ولويس عوض وغيرهم) وقد صدرت في 1922. هكذا يغطي الكتاب السنوات الأربع والثلاثين الأولى من عمر إليوت، وهي التي شهدت طفولته، ودراسته للفلسفة في جامعات هارفارد وأكسفورد والسوربون وألمانيا، ووقوعه في حب فتاة أميركية تدعى إيميلي هيل (وهو حب لم يكلل بالارتباط)، وقد كتب لها أكثر من ألف رسالة سيكشف عنها الستار في عام 2020. وإعداده رسالة دكتوراه عن الفيلسوف المثالي الإنجليزي ف.هـ.براولي (لم يتم إجراءات الحصول على الدكتوراه، وإن أغدقت عليه فيما بعد شهادات دكتوراه فخرية عدة من مختلف الجامعات الغربية).
كذلك يتوقف الكتاب عند قرار إليوت المصيري أن يهجر الولايات المتحدة، ويتخذ من إنجلترا وطنا له، حيث عمل في بنك لويدز في لندن وفي الصحافة الأوروبية وفي التدريس، ثم تزوج في 1915 من فتاة إنجليزية تدعى فيفيان هي وود. وينتهي هذا الكتاب (الذي ينتظر أن يصدر له جزء ثان عن باقي حياة إليوت) بصدور قصيدة «الأرض الخراب» وإصدار إليوت مجلة أدبية فصلية (كانت شهرية لشهور قليلة) بعنوان «ذا كرايتريون» (المعيار) استمرت في الصدور ما بين 1922 – 1939، وحوى عددها الأول قصيدته المشهورة.
وأبرز علامات الطريق التي يتوقف عندها كتاب كروفورد هي زيجة إليوت الأولى؛ ففي سن السادسة والعشرين وقع إليوت، الذي كان شابا خجولا، بلا تجارب جنسية، ومفتقرا إلى النضج الوجداني رغم نضجه العقلي، في حب شابة إنجليزية تتمتع بالحيوية، ولكنها تفتقر إلى الاتزان العاطفي والعقلي. وتلت ذلك ثلاثون سنة من الشقاء، هي الفترة التي نظم فيها أغلب شعره. والواقع أن التعاسة البالغة التي سادت زواجه (ولا ينبغي أن ننسى تعاسة زوجته هي الأخرى) كانت راجعة إلى حد كبير، إلى زواجه المتسرع، الذي أصبح في النهاية تجربة لا تطاق، من فتاة وصفها البعض بأنها ملهمته، ووصفها آخرون بأنها معذبته. ومن المحتمل أنها كانت كلا الأمرين معا. ومما زاد الطين بلة أن فيفيان خانت إليوت في السنوات الأولى من زواجهما، وذلك بأن انزلقت إلى علاقة جنسية مع الفيلسوف برتراند رسل، أستاذ إليوت السابق في جامعة أكسفورد، وذلك بعد أن نجح رسل، على نحو لا أخلاقي تماما، في إغوائها واستغلال هشاشتها النفسية والعصبية والبدنية.
ويوضح الكتاب كيف سارت سفينة الحياة بهذين الزوجين اللذين أوقعهما القدر في شباكه، ومضت بهما الأعوام نحو مصيرين مختلفين: فيفيان نحو التعاسة، ثم الجنون (قضت سنواتها الأخيرة في مصحة للأمراض النفسية والعقلية) قبل أن تتوفى في 1947، وإليوت نحو التعاسة، ثم النبوغ في عالم الأدب. ويستطيع الدارس المدقق لشعره أن يسمع أصداء مستخفية لهذه الخبرة الأليمة - اللاذة معا تتخايل من وراء قصائده التي تلوح موضوعية لا شخصية في ظاهرها، ولكنها في أعماقها صادرة عن خبرة ذاتية، حارة ومعيشة.
والعلامة الثانية التي يتوقف عندها الكتاب هي قصيدة «الأرض الخراب». لقد كتب إليوت مسودتها وهو مريض بانهيار عصبي يقضي فترة النقاهة في مارجيت بإنجلترا، ولوزان بسويسرا خلال خريف 1921. هكذا صدرت القصيدة عن شاعر يحس إحساسا قويا بأن موارد الحضارة الأوروبية بعد عشرين قرنا من الزمان قد أشرفت على النضوب، وأن أوروبا تدهورت بعد الحرب، كما يعاني من ظروفه الصحية الخاصة، وضيق موارده المالية، ومرض زوجته الدائم بأمراض بدنية وعصبية مختلفة، وعبوديته لوظيفته بصفته موظفا في أحد بنوك لندن. وقد وضع إليوت في صدر قصيدته، في مسودتها الأولى، عبارة من رواية جوزيف كونراد المسماة «قلب الظلمات» نصها «البشاعة! البشاعة!». حتى إذا ذهب إلى باريس عرض القصيدة على صديقه وأستاذه الشاعر الأميركي إزرا باوند، الذي أجرى للمخطوط جراحة كبرى اختزلتها إلى أقل من نصف حجمها الأصلي، ولكنها أفادت من هذا الاختصار مزيدا من التركيز والتكثيف والفاعلية.
والكتاب محلى بأكثر من ثلاثين صورة فوتوغرافية (إلى جانب صورة الغلاف التي تبين إليوت في سن السادسة عشرة). إننا نراه هنا طفلا في سن الرابعة، وسن السادسة، وسن السابعة، وسن العاشرة، وما أعقب ذلك من سنوات. ونرى صورة لأبيه وأمه وأخواته وأقاربه وأصدقائه، والبيت الذي نشأ فيه، مع صور له وهو يتعلم الملاحة، وفناء جامعة هارفارد في مطلع القرن العشرين، وصورة إميلي هيل حبه في شبابه (لم تتزوج قط وجرحت جرحا عميقا حين تزوج غيرها بعد موت زوجته الأولى)، فضلا عن صور عدة لزوجته الأولى، وصور للفيلسوف برتراند رسل، والأديب والرسام وندام لويس، وصورة غلاف الطبعة الأولى من قصيدة «الأرض الخراب» حين صدرت عن دار «بوني وليفرايت» للنشر بنيويورك في 1922.
ومن المنتظر أن يغطي الجزء الثاني من الكتاب (لدى صدوره) سنوات رجولة إليوت وشيخوخته، وهي التي شهدت صدور أعماله الشعرية «الرجال الجوف» و«أربعاء الرماد» و«أربع رباعيات»، وكتبه النقدية، واتجاهه إلى كتابة المسرحية الشعرية («جريمة قتل في الكاتدرائية» و«اجتماع شمل الأسرة» وغيرهما)، وتسنمه قمة المجد الأدبي بحصوله على جائزة نوبل للآداب في 1948. وتنتهي مسيرته الحياتية بزواجه من سكرتيرته في دار النشر «فيبر وفيبر» فاليري إليوت في 1957. ورغم فارق السن الكبير بين الزوجين، فقد كانت زيجة سعيدة منحته الإشباع العاطفي الذي حرم منه طويلا ومسحت أكدار زواجه الأول وعواقبه المأسوية.
هكذا كانت حياته، بمعنى من المعاني، أشبه برحلة شاعره المفضل دانتي: رحلة من الجحيم إلى الفردوس مرورا بالمطهر. وبحق قال إليوت ذات مرة قرب نهاية حياته إنه لم يعرف السعادة طوال عمره إلا في فترتين: في طفولته، وفي زواجه الثاني. أما ما بينهما فكان رحلة مؤلمة، ولكنها منحتنا روائعه الشعرية التي جعلت منه - كما قال الشاعر الإنجليزي ستيفن سبندر خلال القرن الماضي «أقوى قوة شعرية في عالم اليوم».



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.