تمثل ملحمة الوحدة الإيطالية في القرن الميلادي التاسع عشر أحد أهم وأعمق الفصول في تاريخ بناء الدولة الوطنية في أوروبا والعالم، فهي ملحمة تاريخية ممتدة لحقب طويلة تغذت على الفكر والرومانسية والوطنية والسياسة الواقعية. وعلى الرغم من أنها نشأت في أذهان مفكرين ونشطاء وثوريين عبر القرون، فإنها لم تتحقق إلا على أيدي رجال دولة من الساسة القادرين على إدارة هذه الملحمة بمساعدة الوطنيين والمفكرين. ولعل أهم ما ميز هذه الملحمة في التاريخ الحديث أنها مثلت تضافر كل هذه العوامل عند مرحلة تاريخية محددة مما سمح للروح القومية الإيطالية بأن تتجسد في دولة إيطاليا الموحدة في عام 1872 بعد فرقة وعناء واختلافات وتدخلات خارجية وتفتت سياسي دام ما يقرب من أربعة عشر قرنًا من الزمان.
إن الروح الصلبة للشعوب لا يقهرها الزمن مهما طال، أو التدخلات الخارجية مهما زادت، أو الفرقة مهما استفحلت، وهذا هو المثال الإيطالي.
في الواقع، لم تشهد شبه الجزيرة الإيطالية وحدة سياسية حقيقية تحت حكم إيطالي منذ انهيار الدولة الرومانية في القرن الخامس الميلادي. بل إن تفتت الولايات وبعثرتها السياسية ظلت السمة الأساسية لشبه الجزيرة الإيطالية، إذ انقسمت إلى ما يقرب من 15 مملكة وولاية. ومع مرور الوقت أصبح لهذه الولايات حكامها، ودخلت في صراعات وتحالفات فيما بينها، ومع القوى الخارجية، خصوصًا في مطلع القرن التاسع عشر عندما خضعت شبه الجزيرة لنفوذ كل من إمبراطوريتي النمسا وفرنسا على حد سواء. وكان لكل من النمسا وفرنسا تحالفاتها، فلقد كانت تسعى فرنسا لضمها، وهو ما نجح فيه نابليون بونابرت بجيوشه، ولكن هزيمته وانعقاد مؤتمر فيينا في 1815 عادا بشبه الجزيرة الإيطالية إلى حالتها السابقة من التفتت تحت النفوذ أو الاحتلال المباشر للنمسا. ثم عادت فرنسا بعد ذلك لزرع نفوذها مرة أخرى إلى أن أصبحت حامية «الدولة البابوية» - داخل إيطاليا - وبات وضع الممالك والدويلات الإيطالية ميئوسًا منه، خصوصًا أن الاختلافات الثقافية والديموغرافية كانت واضحة. ذلك أن دويلات الشمال كالبندقية (فينيتزيا) وبيدمونت (بييمونته) وغيرهما كانت مناطق صناعية وتركيباتها الاجتماعية مختلفة بشكل كبير عن الممالك الجنوبية الزراعية الطابع والأقل تحضرًا. وهو ما بات يعكس صعوبة التوحّد بينهم، لا سيما في ظل التعقيدات الداخلية والتدخلات الخارجية. ولكن المعجزات السياسية تُصنع بمرور الوقت إذا ما توافرت الشخصيات القادرة على ذلك، وحقًا، تمثلت هدية السماء للقومية الإيطالية في شخصية هي جيوزيبي ماتزيني Mazzini، الذي لقب بـ«أبو القومية الإيطالية الحديثة».
لقد تأثر هذا الرجل بالروح الجديدة التي بثتها الحروب ضد نابليون بونابرت، التي وحدت الهدف الإيطالي، ورأى الشاب ماتزيني أن مستقبل بلاده في وحدتها، فبدأ ينشر فكره القومي منذ صباه، لأنه آمن بضرورة انصهار الكيانات السياسية في شبه الجزيرة الإيطالية ضمن دولة موحدة على غرار ما كانت عليه إبان عظمتها التاريخية في العصر الروماني. وشدد ماتزيني على أن التفتت حالة ناتجة عن السياسة والتدخلات الخارجية، وأن الوحدة هي المصير المحتوم لكل إيطاليا. ومن ثم صنف الرجل في كتاباته ومقالاته النارية الأسس التي بنيت عليه القومية الإيطالية من منطلقات أن اللغة واحدة، وتاريخ الأمة واحد، والجغرافيا فرضت هذه الوحدة باعتبار بلاده شبه جزيرة. ثم إن الثقافة الرومانية والفكرية تدفع نحو ذلك. كذلك وضع هذا الرائد القومي النظام الجمهوري أساسًا للنظام السياسي الذي يجب أن تقوم عليه إيطاليا الموحّدة لأنه ارتأى من وجهة نظره أفضل أنواع الحكم.
إلى جانب فكره، أنشأ ماتزيني مؤسسة قومية أصبحت فيما بعد تقليدًا سياسيًا منتشرًا في كل الدول الأوروبية والعالم العثماني والعربي للتحرر والوحدة بعد ذلك، هي منظمة «إيطاليا الفتاة» عام 1832 في مدينة جنوى. وعبر «إيطاليا الفتاة» دعا لتوحيد بلاده على أسس قومية ومحاربة التدخل الأجنبي، وصارت مقالاته أداة لإلهاب الرأي العام، خصوصًا في أوساط الشباب الذين وجهوا جزءًا كبيرًا من جهده نحوه لتثبيت الفكر القومي فيه بعدما يئس من ألاعيب الساسة وجيل الكهول في حمل اللواء المنشود.
وبالفعل انتشرت «إيطاليا الفتاة» في كل المدن الإيطالية، وبدأت شبه الجزيرة الإيطالية تموج بالقومية والروح الوطنية في كل ربوعها، ما ساعدها بشكل كبير لاستقبال «الربيع الأوروبي» في عام 1848 بقلوب منفتحة وروح تصبو للوحدة والاستقلال. غير أن المشكلة الحقيقية ظلت تكمن في كون ماتزيني مفكرًا أكثر منه سياسيًا، إذ إنه لم يكن قد وضع الآلية التي من خلالها يمكن أن تتوحد إيطاليا. فقط كانت هناك الفكرة وأسُسها، بينما اختلفت وسائل تنفيذها بين الفرق المختلفة.
في ظل هذه الحقيقة، سعى البابا بيوس التاسع للعب دور الموحّد الإيطالي تحت راية البابوية، فسعى إلى الانخراط مع الحركة الثورية التي اجتاحت أوروبا وإيطاليا بوعود ليبرالية. إلا أنه سرعان ما أدرك خطورة اللعب بأوراق الثورة، وأنه لم يكن بمقدوره السيطرة عليها، فتحول ضدها واتخذ مواقف متشددة من الفكر الليبرالي الذي بات يهدد بابويته ووضعيتها. ولكن الحركات الثورية المختلفة لم يكتب لها النجاح بسبب عدم وجود القيادة الموحدة لتنفيذ الفكرة القومية، فانفرط عقد الثوريين وعادت النمسا للسيطرة على إيطاليا ومحاربة الفكر الثوري رغم سقوط حكم الزعيم الكبير مترنيخ «مهندس» الفكر المحافظ فيها وفي أوروبا. وبما أن للسياسة الخارجية ضوابطها ونواميسها المختلفة عن العقيدة في مناسبات كثيرة، تمكنت الدويلات في إيطاليا من اعتناق فكرة غير قابلة للتنفيذ لغياب الأداة التي يمكن أن تجسد فكر ماتزيني و«إيطاليا الفتاة»، ومن قبلها حركة «الكاربونيري»، وبات كما لو أن الحلم سيتبدد أمام صخور الواقع.
في أي حال كان القدر رحيمًا بإيطاليا، إذ بدأت مملكة بييدمونت بشمال البلاد حمل لواء القومية الإيطالية تحت حكم الملك المستنير فيكتور عمانوئيل (فيتوريو إيمانويله) الثاني الذي تبنى الأفكار الإصلاحية بعد والده، وعيّن شخصية مهمة للغاية بدأت «هندسة» الوحدة الإيطالية. تلك الشخصية كانت الكونت كاميليو كافور، ذلك الرجل الوطني الذي رأى أن تحقيق الوحدة يحتاج إلى السياسة والدهاء والقوة العسكرية والاقتصادية مجتمعين، وهو ما بدأ في تنفيذه بعد استقالته عن منصبه كمهندس في جيش بييدمونت ثم كمؤسس لحركة «إل ريسورجيمنتو» Il Risorgimento (أي البعث أو النهضة) التي جسدت فكرة القومية الإيطالية. ثم بدأ التطبيق العملي لرؤيته أولاً كعضو في البرلمان، ثم بعد ذلك رئيسًا للوزراء، وهو الموقع الذي احتله حتى مماته، باستثناء فترة زمنية قصيرة استقال فيها احتجاجًا على بعض الأمور.
على الفور بدأ كافور وضع الأسس الاقتصادية لقوة بييدمونت من خلال الإصلاحات الواسعة وبناء البنية الأساسية وعقد الاتفاقيات الدولية لتحقيق هدفه، كما بدأ ينظم الجيش ويُدخل الصناعات العسكرية اللازمة لتقويته استعدادًا للمواجهات الحتمية مع النمسا في الوقت المناسب. كذلك سن سلسلة القوانين أهمها «قانون سيكاردي» الذي خلص البلاد من السلطة الروحية للبابا من خلال تقليم أظافر الكنيسة في المملكة وفرض الضرائب عليها وإلغاء امتيازات رجالها، وهو ما وضعه في صراع مباشر مع البابا. إلا أنه لم يأبه لمعرفته بأن الوحدة لن تتم إلا على جثة النفوذ البابوي، خصوصًا أن البابا كان له أجندته وتحالفاتها الخارجية. وواصل الرجل خطته من أجل توحيد شبه الجزيرة الإيطالية تحت حكم بييدمونت (عاصمتها مدينة تورينو) تدريجيًا دون إثارة القلاقل، ومن خلال إدارة سياسة خارجية منطقية وسليمة. وهكذا استعدت إيطاليا من أجل التوحد خلال فترة زمنية قصيرة بتوافر عناصر الفكرة والقيادة والروح الجديدة التي دبت في شبه الجزيرة، كما سنرى في الأسبوع المقبل.
من التاريخ: بداية الوحدة الإيطالية
من التاريخ: بداية الوحدة الإيطالية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة