مشاهد من 68 عامًا.. قصص الشتات الفلسطيني على المسرح في لندن

الكاتبة هنا خليلي: «لا أكتب من وجهة نظر أحادية وأحاول أن أفهم كيف يفكر الناس»

من مسرحية هنا خليلي «مشاهد من 68 عامًا» التي عرضت في لندن
من مسرحية هنا خليلي «مشاهد من 68 عامًا» التي عرضت في لندن
TT

مشاهد من 68 عامًا.. قصص الشتات الفلسطيني على المسرح في لندن

من مسرحية هنا خليلي «مشاهد من 68 عامًا» التي عرضت في لندن
من مسرحية هنا خليلي «مشاهد من 68 عامًا» التي عرضت في لندن

تفتح سيدة يهودية تحمل الجنسيتين البولندية والفرنسية باب منزلها لموسيقي فلسطيني شاب، حضر بصحبة مترجم ليزور دار أمه القديمة في القدس، ليرى المكان الذي نشأت وترعرعت فيه. ترحب السيدة بهما، وتقودهما إلى المطبخ، حيث يأسره سحر حائط لم يتبق به سوى أربع قطع من القرميد، وتفتنه التجربة بأسرها. إلا أنه يظل صامتًا بينما كانت السيدة الإسرائيلية، القاطن الجديد للدار، تخبره بأنها كانت تنتظر ذلك اليوم الذي سيقرع فيه الشاب باب منزلها. وتوضح قائلة: «الآن تستطيع أن ترى أن المنزل قد بُني من أجلنا. هربت جدتي من كراكوف من أجل المجيء إلى هنا، لكنها لم تتمكن من الذهاب لأبعد من باريس». وتضيف: «لذا، فأنا وزوجي مستقران هنا، وجدتي تخلد بسلام في الدار الآخرة. وكما استأنفنا حياتنا، عليك أيضًا أن تستكمل حياتك الخاصة». يجلس الشاب الفلسطيني صامتًا، فهو لا يفهم العبرية، ولا يترجم له المترجم هذا الكلام.
كان هذا مشهدًا من أحدث مسرحيات هنا خليلي «مشاهد من 68 عامًا»، التي عُرضت أخيرًا على مسرح «أركولا» الصغير بشرق لندن. وخلال عرض المسرحية، أعلن عن ترشيحها لثلاث جوائز «أوف ويست إند» للتميز في المسرح المستقل. والمسرحية عبارة عن حكايات قصيرة لمدة ساعة وخمس وأربعين دقيقة. ويقوم بالتمثيل فريق من 6 ممثلين يؤدون أدوارًا لعدة شخصيات في مختلف السيناريوهات التي تتمحور حول: ثلاث سيدات في نزهة، وعائلة من الطبقة الوسطى في الضفة الغربية، وعائلة يتيمة الأب في غزة، وصاحب متجر فلسطيني يصادق جنديًا إسرائيليًا مثيرًا لاستياء جيرانه، وصبي توصيل طلبات فلسطيني لا يتمكن من تسليم الكوكاكولا بسبب نقطة تفتيش، وغيرها من السيناريوهات.
جمعت خليلي تلك الحكايات أثناء قيامها بتأليف مسرحية أخرى بعنوان «الخطة د»، المستوحاة من شهادة تجربة حية لعائلة عايشت حرب عام 1948. وتقول: «حضر إلي الكثيرون بعد ذلك ليشاركوا بحكاياتهم. وقد جمعت حكايات في غاية الإثارة، وبدلاً من كتابة مسرحية عن كل حكاية، آثرت أن أجمعها في مسرحية واحدة».
وقد ولدت خليلي لأب فلسطيني الجنسية وأم آيرلندية، ونشأت في دبي. وهي تعيش الآن مع زوجها وابنتها في لندن، حيث تعمل هناك. وتتناول في معظم مسرحياتها تاريخ الهجرة من فلسطين. وتقول: «أنا من أولئك الأشخاص الذين يعيشون في الشتات، لذا فهذا هو واقع خبرتي».
وتضيف: «على الرغم من أن معظم أفراد عائلتي يعيشون في الضفة الغربية، فبصفتي شخصًا يعيش بالخارج وينحدر من عرق مختلط، أعتقد أن الهوية ترتبط بالمكان الذي تحيا فيه واللغة التي تتحدث بها، فضلاً عن الطعام الذي تتناوله والشخص الذي تتزوجه، وما إلى غير ذلك. وهذا الأمر يثير اهتمامي».
اللافت أن هذه المسرحية تحديدًا لا تدور حول النزوح، إذ تصور مشاهدها تجارب الحياة في فلسطين، كما تتناول بعض مشاهدها الحاجة إلى البقاء. ويصور أحد مشاهدها صراعًا بين أرملة وابنها الذي يطمح إلى استكمال تعليمه في لندن. وتصرخ فيه الأم قائلة: «لماذا تريد أن تغادر؟ هل تريد أن تحقق لهم مناهم»؟
وجميع مشاهد المسرحية مستوحاة من أحداث واقعية، بما في ذلك مشهد الموسيقي الشاب ومالكة المنزل في القدس، لكن هذا هو المكان الذي تنصهر فيه الحقائق والخيال معًا من أجل خلق واقع جديد. وتقول خليلي: «لست متأكدة تمامًا عما آل إليه الحوار. الموسيقي هو من روى لي القصة، وهي دعته يدخل ليرى المنزل من الداخل». ومع ذلك، فالمشهد مكتوب بقناعة نفسية تصور وجهة نظر السيدة الإسرائيلية.
توضح خليلي: «لم أكن لأكتب قط من وجهة نظر أحادية بغض النظر عما إذا كانت الشخصية إسرائيلية أو فلسطينية أو تحمل أي جنسية أخرى. أرغب في الكتابة عن شخصيات معقدة، لكي أفهم كيف يفكر الناس. وما من جدوى وراء كتابة رسوم كاريكاتير عن الإسرائيليين، لذا فقد عملت ما في وسعي لكي أتوصل إلى طريقة تفكير هذه السيدة. وبخصوص النزوح، فقد سبق أن خبر اليهود نفس الشيء أثناء محرقة الهولوكوست، فالمشكلة تكمن في عدم التعاطف. ومن ثم، فقد حاولت الكتابة من وجهة نظر شخص غير قادر على التعاطف مع ذلك الشاب اليافع». وقد برعت في أداء ذلك المشهد المؤثر الممثلة اللبنانية الأميركية جنين هاروني.
وتقول خليلي: «أود لو أرى (مشاهد من 68 عامًا) تعرض وتترجم عبر أنحاء العالم، لكن دائمًا ما تبطئ التكاليف المادية حركة الانتشار. كل شيء يكلف كثيرًا، والترجمة باهظة التكلفة». ومع ذلك، يبدو المستقبل مفتوحًا أمام خليلي وحكاياتها التي تمزج بين الذاكرة والواقع والخيال، لتنتشر قصص الشتات الفلسطيني عبر جميع اللغات، فهم قوم ينتشرون في كل ركن من أركان العالم يشاركون بأفكارهم عما يبدو عليه النزوح وإمكانية العودة.
ينتهي مشهد المنزل في القدس بأن تعطي السيدة قطعة من القرميد للشاب الفلسطيني كتذكار من دار أمه القديمة، وهنا، تشرح خليلي: «نسجت تلك النهاية (الرمزية) من خيالي، ففي حقيقة الأمر لم تعطه السيدة قطع قرميد، هي فقط سمحت له بالدخول. لقد صدمني ذلك كثيرًا، لكن لكم أن تتخيلوا ما يعنيه أن تراعي السيدة مشاعر تعلقه بالمكان وتسمح له بأخذ قطعة منه».
جدير بالذكر أن الإعلان عن الفائز بجوائز «أوف ويست إند» لعام 2016، سيصدر يناير (كانون الثاني) 2017.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».