أهمية الوجود العسكري السعودي في جيبوتي

نادرا ما يتصدر اسم جيبوتي- البلد فقير الموارد الذي تبلغ مساحته 14,300 ميل مربع ويبلغ تعداد سكانه 875 ألف نسمة في القرن الأفريقي-عناوين الأخبار العالمية. ولكن فيما بين استقرارها النسبي وموقعها الاستراتيجي، حيث تبعد عن اليمن الذي استنزفته الحرب بمسافة 20 ميلا كما تقع على مقربة من الطرف الغربي من المحيط الهندي والذي يكثر فيه وجود القراصنة - تعد جيبوتي حاليا من أهم المرابط الساحلية في العالم النامي.
يمثل موقع جيبوتي أهمية كبيرة للتجارة والطاقة العالمية بفضل قربها من مضيق باب المندب وطريق قناة السويس - عدن التي يمر عبرها 10 في المائة من صادرات النفط العالمية و20 في المائة من الصادرات التجارية سنويا. منذ نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2002، أصبحت الدولة مقرا لقاعدة كامب ليمونييه العسكرية الأميركية، وهي القاعدة الأميركية الوحيدة في القارة الأفريقية، بالإضافة إلى قواعد أخرى تابعة لحلفائها الفرنسيين والإيطاليين والإسبان واليابانيين. (تحتفظ الولايات المتحدة بعدة مواقع ومطارات صغيرة في أفريقيا ولكنها تعد ليمونييه رسميا القاعدة العسكرية الوحيدة الكاملة لها في القارة).
ولكن في الوقت الحالي وصل وافدان عسكريان جديدان إلى البلاد: ففي 21 يناير (كانون الثاني)، أعلنت وزارة الخارجية الصينية عن عقد اتفاق مع جيبوتي لاستضافة أول قاعدة لها على الإطلاق خارج بحر الصين الجنوبي، وقد بدأت عمليات الإنشاء بعد ذلك بأيام. وعلى الرغم من أن بكين وصفت المنشأة بأنها «قاعدة لوجيستية وإجلاء سريع»، فإن خصوم الدولة الآسيوية القوية في «الخارج القريب»، مثل تايوان، يرون أن تلك القاعدة على الأرجح تمثل بداية صعود عسكري عدواني جديد لمنافسة الولايات المتحدة. وبعد ستة أسابيع، أعلنت السعودية أنها أيضًاسوف تنشئ قاعدة في جيبوتي، فيما يبدو أنه جزء من سياستها الجازمة الجديدة لمواجهة وكلاء إيران سياسيا وعسكريا في جميع أنحاء المنطقة. وأصبح كل من الطرفين الجديدين يمتلكان استثمارات اقتصادية وقوى ناعمة كبيرة سوف تبدأ في جيبوتي. منذ عام 2015، ضخت بكين ما يزيد على 14 مليار دولار في مشروعات تنمية بنية تحتية.
تنفق السعودية، وهي جهة مانحة بارزة للأشغال العامة في جيبوتي، على مشروعات الرخاء الاجتماعي للفقراء هناك، عن طريق إنشاء المساكن والمدارس والمساجد للاجئين اليمنيين المتزايد عددهم، بالإضافة إلى ذلك، عززت من حجم المساعدات السعودية نفقات إضافية قدمها بعض حلفائها العسكريين من العرب. فقد ضخت كل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين الملايين في مشروعات خيرية على مدار الشهور القليلة الماضية، وتعمل الإمارات تحديدا على تحفيز التنمية الاقتصادية على غرار «نموذج دبي». وحتى السودان الذي يفتقر إلى الأموال السائلة، بدأ في تشييد مستشفى في جيبوتي في مطلع شهر فبراير (شباط).
لا يعد توقيت ومكان التقاء تلك المشروعات محض مصادفة. لقد بدأ الوجود العسكري الأميركي المتضائل حول العالم في التأثير على حسابات الحلفاء والخصوم على حد سواء، ويأتي الدور غير المعتاد الذي تستعد جيبوتي لتأديته في الجوار كمثال في ما يتعلق بالنتائج. تعطي دراسة الدور المتغير للدولة في السياسة الأمنية الأميركية والصينية والعربية لمحة عن الصراعات بالإضافة إلى الفرص المحتمل أن يسفر عنها ذلك التحول.
* الوضع الأميركي
تؤدي كامب ليمونييه، بصفتها القاعدة الأميركية الوحيدة في أفريقيا، وظيفة مهمة للقيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا. تضم القاعدة 4000 فرد عسكري ومدني، وهي المركز الرئيسي لست محطات لإطلاق الطائرات دون طيار في جميع أنحاء القارة، والتي شنت هجمات على أهداف مترامية مثل تنظيم الشباب في الصومال وبوكو حرام في نيجيريا والقاعدة في شبه الجزيرة العربية في اليمن. يجتمع أفراد القوات الخاصة الأميركية و«سي آي إيه» ومراقبة السلاح الجوي من أجل جمع ومعالجة المعلومات الاستخباراتية في القاعدة العسكرية. كما أنها أيضًا مقر لوحدة عمل 48 - 4 لمكافحة الإرهاب والتي تستهدف المسلحين في شرق أفريقيا واليمن. تعتمد القوات الخاصة عليها أيضا: ففي عام 2012، عندما أنقذ أفراد فرقة سيل البحرية الأميركية رهائن أميركيين ودنماركيين من الصومال، أحضروهم إلى كامب ليمونييه حيث وجدوا الأمان.
وساعدت القاعدة العسكرية، التي تعد منصة انطلاق عمليات مكافحة القرصنة بقيادة أميركية، على الحفاظ على دور الولايات المتحدة كضامن أساسي للأمن التجاري في خليج عدن والقرن الأفريقي والمحيط الهندي. بيد أن أهمية القاعدة تزداد وسط الوضع الإقليمي المحتدم: حيث تستخدمها الولايات المتحدة للوفاء بتعهدها بتقديم المساعدة التقنية وربما الاستخباراتية للتحالف العربي في حربه ضد ميليشيات الحوثيين التي تدعمها إيران في اليمن.
في عام 2014، وقعت الولايات المتحدة على عقد جديد لتأجير القاعدة لمدة 20 عاما مع حكومة جيبوتي، وخصصت أكثر من 1,4 مليار دولار لتحديثها في الأعوام المقبلة. يعارض هذا الإنفاق الكبير الاتجاه العام بتخفيض الالتزامات العسكرية الأميركية في الخارج. على سبيل المثال، أعلن الرئيس أوباما عن خطط لتخفيض عدد السفن الحربية النشطة إلى 1917، ومن الممكن أن يكون من بينها حاملات الطائرات.
كما يتضح لاحقا، من المتوقع أن تتأثر مكانة الولايات المتحدة في البلاد إثر الأنشطة التي تقوم بها القاعدتان الصينية والسعودية. وربما أيضًا تتأثر بعمليات القوة الناعمة التي تقوم بها الدولتان.
ويشار إلى أن التزامات الولايات المتحدة الخاصة بالقوة الناعمة وصلت إلى حدها الأدنى: حيث تورد الولايات المتحدة مساعدات غذائية قيمتها 3 ملايين دولار سنويا عن طريق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في إطار برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، وتدير مشروعات صحية وتعليمية متواضعة، وحققت صفقات تجارية بقيمة 152 مليون دولار فقط في عام 2015. كذلك لا توجد أي جهود منظمة للدخول في النقاش العام في جيبوتي لخدمة الأهداف أو القيم الأميركية.
* الوضع الصيني
على عكس الولايات المتحدة، لم تنشئ الصين أي قواعد لها في السابق بعيدا عن «الخارج القريب». لذلك يعطي مشروع جيبوتي، على الرغم من تواضعه، فكرة عن أن النفوذ العسكري الصيني في حالة نمو. وقد يكون توضيح تلك الرسالة ذاتها من بين أهداف بكين. صرح ديفيد شيد مدير وكالة الاستخبارات العسكرية السابق لـ«المجلة» بأن «(الصينيين) يرغبون في إرسال إشارة إلى العالم بأن لهم حضورا عالميا. وجزء من تلك المهمة ببساطة هو الظهور. ويتم تعريف ذلك في حد ذاته بأحد المصالح».
وفي ما يتعلق بأهميتها العملية المحتملة، صرحت وزارة الخارجية الصينية بأن «المنشآت سوف تستخدم في الأساس للدعم اللوجيستي واستراحة أفراد القوات المسلحة الصينية التي تقوم بمهام مثل حماية الملاحة في خليج عدن والمياه المقابلة للساحل الصومالي، وحفظ السلام، والمساعدات الإنسانية». وسوف تُمَكِن أيضًا عمليات الإجلاء السريع لأي من المواطنين الصينيين البالغ عددهم مليون شخص والذين يقيمون في الشرق الأوسط وأفريقيا إذا تطلب الأمر. ظهرت الحاجة إلى الإعداد لمثل تلك الاحتمالات أمام الصين في أعقاب الأحداث الدموية التي تلت الربيع العربي: حيث قامت بإجلاء 35,680 مواطنا صينيا كانوا يعملون في صناعة البترول في ليبيا، و629 آخرين من اليمن بعد ذلك بفترة وجيزة. وفي أثناء عملية الإجلاء من ليبيا، كانت الصين تملك فرقاطة واحدة فقط قريبة، لذلك كان يجب على الرعايا الذين يتم إجلاؤهم السفر خارج الدولة على طائرات تجارية مؤجرة.
ولكن من واشنطن إلى تايبيه، يشك المراقبون في أن المشروع يحمل طموحا أكبر مما يفصح عنه الصينيون. وفي حوار على شبكة الأخبار المحلية «تايوان توداي» صرح المحلل السياسي لاي يوتشيان بالتالي: «قدمت الحرب الأهلية التي اندلعت في ليبيا عام 2011 درسا مهما للصين. رأت الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا الحرب الأهلية في ليبيا واقترحت قرارا أمميا بفرض حظر جوي على ليبيا. وبدافع المنطق دعمت الصين القرار. ودعا القرار إلى إعادة السلام إلى ليبيا. ولم تتبع الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا الأمم المتحدة وأرسلوا قواتهم العسكرية إلى ليبيا. كان هدف تلك العمليات العسكرية هو الحاكم الليبي معمر القذافي. استهدفت الولايات المتحدة البنية التحتية العسكرية للقذافي وسعت إلى تدمير القوة الجوية والدبابات والمدفعية الليبية. أتاح ذلك الفرصة للمعارضة في ليبيا لكي تقاوم. نتيجة لتلك الأفعال تمت الإطاحة بالقذافي في النهاية. كشف ذلك عن أن الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا تجاوزوا التفويض الممنوح لهم. لذلك كان على الصين إجلاء 35 ألف مواطن من ليبيا. وفي دفعة واحدة، تعرضت استثمارات صينية تتجاوز قيمتها مليار دولار للتدمير على يد البريطانيين والأميركيين والفرنسيين. أصابت تلك الخسارة الصين بألم بالغ، ولكنها لم تملك حاملات الطائرات ولا المجالات الجوية لكي تتمكن الطائرات المقاتلة من منع تدخل الآخرين عسكريا في المصالح الصينية. وكان ذلك درسا مهما للغاية للصين. إذا أرادت الصين حماية مصالحها ومواطنيها في أفريقيا بالإضافة إلى منع دول أخرى من مهاجمة تلك المصالح والإضرار بها، يجب أن تصبح الصين قادرة على إظهار القوة العسكرية في الخارج. دون هذه القاعدة البحرية، أو القاعدة اللوجيستية، في جيبوتي، لن تتمكن الصين من إظهار قوتها العسكرية خارج حدودها بسبب مسائل تتعلق بالإمداد ونشر القوات. بالنسبة لتلك القاعدة العسكرية، أو ميناء الدعم اللوجيتسي والإمداد، يمكن أن نرى بسهولة إمكانية استخدامها لإيقاف الولايات المتحدة والمنظمات الأميركية. فإذا أرادوا التعدي على مصالح الصين، سوف يكون عليهم التفكير بحذر، حيث تملك الصين الآن تلك القوة العسكرية لتحمي مواطنيها وممتلكاتها في الخارج. سوف تجبر تلك الخطوة الولايات المتحدة على التفكير مرتين قبل التحرك. وهذا قرار استراتيجي مهم للغاية وهو إنجاز كبير جدا للصين».
إن تحليل يوتشيان، الذي يشترك فيه أغلب حلفاء الولايات المتحدة في «الخارج القريب» من الصين، هو أيضًا وجهة نظر أعضاء بارزين في الدوائر السياسية في واشنطن. في جلسة استماع عقدتها في شهر ديسمبر (كانون الأول) لجنة العلاقات الخارجية الفرعية الخاصة بالشؤون الأفريقية في مجلس الشيوخ، والتي ناقشت الشائعات المتعلقة بالقاعدة، صرح السيناتور كريس كونز (الجمهوري من ديلاور) في ما يتعلق بقاعدة جيبوتي: «(يجب أن تكون الولايات المتحدة) يقظة في مواجهة مطامع الصين المتنامية».
* بكين وسوريا
تختلف رؤية بكين لمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط المجاورة عن السياسات الأميركية. وكما وصف لي يوتشيان من تايوان في الفيديو المذكور سابقا، أثار التدخل العسكري في ليبيا بقيادة الولايات المتحدة والناتو غضب الصين. وفي مجلس الأمن، عرقلت بكين بالتالي محاولات التخطيط لتدخل عسكري غربي في سوريا. وفي ما يتعلق بالصراع على مستوى المنطقة بين الخليج وإيران، قد يتعارض الاتجاه الأميركي التقليدي بالوقوف إلى جانب الخليج – أو من وجهة نظر أخرى اتجاه أميركا أخيرا نحو إيران – مع السياسات الصينية: تسعى الصين في الغالب، بدافع الحاجة إلى تلبية احتياجاتها الكبيرة للنفط، إلى تجنب مضايقة أي من البلدين الثريين بالنفط. ويبشر وجود قاعدة عسكرية جديدة على مسافة قريبة من شمال أفريقيا بالإضافة إلى شبه الجزيرة العربية بتعزيز أي موقف سياسي صيني بقدر من القوة، وإن كانت بسيطة. تبعد القاعدة، التي من المقرر إقامتها بالقرب من مدينة أوبوك الساحلية الصغيرة على ساحل جيبوتي الشمالي، عن اليمن بمسافة أقصر بـ20 ميلا من قاعدة ليمونييه، والتي خصصت لها الولايات المتحدة موارد لدعم الحرب التي يخوضها التحالف مع الحوثيين.
ولكن الأهداف الاستراتيجية للصين لا يمكن تفسيرها فقط في إطار ردود الفعل المفترضة على السياسات الغربية. فوفقا لأحدث دراسات الدفاع الصادرة عن بكين في مايو (أيار) 2015.. «سوف تعمل القوات المسلحة الصينية بجدية أكبر لتحقيق وضع استراتيجي أفضل، مع زيادة التركيز على نشر القوات المسلحة وأدواتها». وهناك اعتقاد سائد بأن هذه الصيغة تشير إلى مبادرتي «سلسلة اللؤلؤ»، و«حزام واحد وطريق واحد». جدير بالذكر أن اسم مبادرة «سلسلة اللؤلؤ» يعود لاستعارة تشير إلى شبكة مفترضة من الموانئ البحرية على ساحل المحيط الهندي لتأمين الممرات البحرية للنقل والتجارة والاتصالات من الصين وحتى السودان.
* مبادرة «حزام واحد وطريق واحد»
ومن جهة أخرى، تسعى مبادرة «حزام واحد، وطريق واحد» لتعزيز الصادرات الصينية من خلال الطرق التجارية والبحرية بالاعتماد إلى حد كبير على «طريق الحرير» التاريخي الذي يربط بين أوروبا والشرق الأوسط. ومن ثم سوف تصبح جيبوتي جزءا مهما في تحقيق الهدف الأخير نظرا لأن معظم صادرات الصين اليومية إلى أوروبا والتي تبلغ مليار دولار تمر عبر خليج عدن وقناة السويس. وفي ما يتعلق بالخطة السابقة، كان توشي سوشيهارا، رئيس مركز دراسات آسيا والمحيط الهادي بكلية الحرب البحرية الأميركية يدرس تقاطع المشروعات التجارية والبحرية الصينية في منطقة المحيط الهادي. وأخبرنا سوشيهارا أنه بالنظر إلى تلك الموانئ معا تبدو حقا «كسلسلة من اللؤلؤ». ومما لا شك فيه أن جيبوتي، التي تعد موطنا لكل من القاعدة الجديدة والاستثمارات الاقتصادية الصينية، سوف تصبح اللؤلؤة الجديدة في هذه السلسلة.
هل السباق الأميركي الصيني في الوصول إلى جيبوتي هو بالضرورة لعبة لا رابح فيها؟ هناك بعض الأهداف الصينية المعلنة التي لا تتعارض مع التطلعات الأميركية بل وقد تفيد كلتا القوتين العظميين وحلفاءهما: حيث يصب تزايد القدرة الصينية على إجلاء المواطنين من المناطق الرازحة تحت وطأة الحرب بالإضافة لتعزيز عمليات مقاومة القرصنة في «الصالح العام». ومن جهة أخرى، ظهر مصطلح جديد في القاموس السياسي لبكين يثير المزيد من الاحتمالات المقلقة. ففي حوارنا مع جون تيفيل درير، زميل معهد أبحاث السياسة الخارجية وأستاذ العلوم السياسية بجامعة ميامي، أكدت على مبدأ «كل ما تحت السماء» – المنغرس في الثقافة الإمبريالية الصينية - وهو ما يضع السلطة المركزية الصينية على قمة نظام يستهدف الهيمنة على القوى الأضعف. ومن ثم ينظر بعض المحللين إلى نصب الصين لصواريخ أرض جو ووضعها لطائرات مقاتلة على جزيرة «وودي» في بحر جنوب الصين كدليل على هذا النزوع للهيمنة. وربما نتساءل هنا عما إذا كان إنشاء قاعدة جيبوتي يعكس امتداد مبدأ «كل ما تحت السماء» إلى ما وراء المجال التقليدي للصين.
وفي الوقت الذي يتسارع فيه تشييد الصين للطائرات ولحاملات الطائرات، وتتزايد فيه المنافسة الشرسة مع الصناعات العسكرية الأميركية، يمكن للقاعدة في جيبوتي أن تعكس تطلع الصين لأن تلحق بالولايات المتحدة وقد تتجاوزها في النهاية كقوة عسكرية واقتصادية في المنطقة. ففي يناير 2016، بدأ «جيش التحرير الشعبي» تدريبا لمدة 72 ساعة يتضمن الآلاف من قوات البحرية وقوات العمليات الخاصة بالبحرية في صحراء غوبي بمنطقة شينغيانغ ذاتية الحكم لقومية الأويغور.
جدير بالذكر أن طوبوغرافية المنطقة ومناخها يشبهان إلى حد كبير طوبوغرافيا ومناخ شمال أفريقيا والساحل. وبين «كل ما تحت السماء» والأهداف المعلنة للصين التي تتعلق بإيواء نحو عشرة آلاف عامل صيني في جيبوتي، تمثل مثل تلك الممارسات أساسا واضحا للمخاوف الأميركية.
وفي الوقت نفسه، جاءت مبادرة القوة الصلبة لبكين في جيبوتي مقترنة بمبادرات القوة الناعمة لبناء الروابط مع الدولة والمجتمع على حد سواء. كما أنتج الدعم الذي يقدر بنحو 14 مليار دولار والذي منحته الصين لتطوير البنية التحتية بجيبوتي قدرا كبيرا من حسن النيات لدى الشعب هناك. ويعد هذا الإنفاق الذي يفوق إنفاق الولايات المتحدة استثمارا في حكومة الرئيس إسماعيل عمر جيلة. بالإضافة إلى أن الصين قدمت مشروعات ثقافية مثل «معهد كونفوشيوس» الجديد في مدينة جيبوتي الذي تستخدمه بكين لتأسيس روابط شخصية و«أصول» داخل المجتمع. أضف إلى كل هذا استثمارات الصين التي تقدر بنحو 1.1 مليار في التجارة في 2014 – وهو ما يزيد بنحو عشرة أضعاف على استثمارات الولايات المتحدة هناك. وكلما تزايد نفوذ الصين في جيبوتي، تزايدت قدرتها على التأثير على السياسة الخارجية للحكومة والاستراتيجيات الأمنية.
* الوضع العربي
من وجهة نظر المملكة العربية السعودية، و«التحالف الإسلامي» ضد الإرهاب، تمثل القوات المتمركزة في جيبوتي إجراء دفاعيا وربما هجوميا أيضًا في منطقة النزاع مع إيران خاصة في ظل الحرب الدائرة في اليمن. وكان المنحى الدفاعي جليا في منتصف فبراير، عندما اكتشف ضباط الأمن السعوديون الذين يرصدون تدفق الذخيرة من إيران إلى الحوثيين التابعين لها في اليمن أن «الجمهورية الإسلامية» تستخدم جيبوتي كمحطة وسيطة، وذلك حيث رصدوا سفينة متجهة إلى اليمن تحمل أدوات اتصال عسكرية مشفرة وغيرها من المعدات كانت قد بدأت رحلتها من ميناء «بندر عباس» في جنوب إيران. وتمكنت المملكة من رصدها خلال الطريق واكتشفت أهمية تعزيز قدرتها على التحرك داخل جيبوتي وحولها. وفي ما يتعلق بالهجوم، يتكهن بين هو وان بينغ، المحلل العسكري بسنغافورة أنه أخذا في الاعتبار الوجود الحوثي في الجزء الغربي من اليمن، يمكن أن تستخدم الرياض القاعدة لكي «تفتح جبهة جديدة ضد الحوثيين مما يجعلهم يواجهون هجوما من أكثر من محور في نفس الوقت».
وعلى نقيض الولايات المتحدة وحلفائها في اليابان والغرب الذين يمثل إنشاء قاعدة في جيبوتي، بالنسبة لهم استئجار منطقة منعزلة من الأرض، يشعر السعوديين وشركاءهم العرب والإسلاميين بصلة أكثر عمقا معها، إذ إن جيبوتي إحدى الدول الأعضاء في الجامعة العربية كما أنها ترتبط مع الدول الشقيقة بروابط الدم والثقافة والإيمان. كما أنها انضمت إلى «تحالف إسلامي» تقوده السعودية يضم 34 عضوا في مواجهة الإرهاب الذي ترعاه إيران وذلك وفقا لما قاله ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في ديسمبر. وربما لم يكن من قبيل المصادفة أن ترفض حكومة جيبوتي عرضا روسيا لتأسيس قاعدتها الخاصة في البلاد، إذ إن موسكو هي أحد الحلفاء الأقوياء لنظام الأسد الذي تدعمه إيران والتي أحجمت في أفضل الأحوال عن مساعدة التحالف الإسلامي في حرب اليمن.
وأخذا في الاعتبار وجود نحو 30 ألف لاجئ يمني في جيبوتي حتى الآن، توجد مخاوف إنسانية وفرصة استراتيجية هناك. ففي أي عدد من النزاعات على مستوى العالم، كانت معسكرات اللاجئين تعمل كمركز استماع للاستخبارات – دائما ما يتم استجواب الساعين للجوء عن الأوضاع داخل بلدانهم – بالإضافة إلى كونهم منصة لتأسيس «أصول» بشرية بعد عودتهم إلى مواطنهم.
كما أن وجود هذا العدد الكبير من النازحين الجدد من المدنيين اليمنيين في بيئة آمنة بعيدة عن أرض المعركة يمثل فرصة لجمع المعلومات وتأسيس شبكات بشرية.
ولكي تعمل على تعزيز وجودها الأمني والاستخباراتي في جيبوتي في وقت يشهد توترا بين الرياض وواشنطن، قد تصبح المملكة السعودية أكثر ميلا لاستكشاف الشراكة الأمنية المحتملة مع الصين.
وأخيرا، اتخذت بكين موقفا مغايرا تماما لسياسة الحياد المعتادة بين إيران والمملكة العربية السعودية وأعربت عن تأييدها لموقف السعودية في اليمن. وفي يناير 2016، استضاف الملك سلمان بن عبد العزيز زيارة تاريخية للرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الرياض بالإضافة إلى اجتماعات رفيعة المستوى بين كبار المسؤولين الأمنيين لكلا البلدين. وقد يعمل تعزيز هذه الروابط على تقليل الاعتماد السعودي على التأييد الأميركي.
لقد أصبحت أهمية جيبوتي موضوعا رئيسيا للمناقشات بين حلفاء السعودية في العالم العربي، حيث اقترحت بعض الأصوات الإعلامية في مصر بناء قاعدة هناك، فيما تحشد بعض دول الخليج الأخرى قواها الناعمة لإنشاء مشروعات في البلاد – بما في ذلك قطر بالإضافة إلى الإمارات والبحرين.
إشارة إلى عصر جيوسياسي؟
في رسالة أرسلت في فبراير إلى وزير الخارجية الأميركي جون كيري ووزير الدفاع آشتون كارتر، أعرب النواب دانا روخراباشر (جمهوري عن ولاية كاليفورنيا)، وكريس سميث (جمهوري عن نيوجيرسي)، ودونكان هنتر (جمهوري عن كاليفورنيا) عن مخاوفهم من تزايد النفوذ الصيني في جيبوتي: «نحن قلقون بشأن مصالحنا الاستراتيجية في القرن الأفريقي خاصة عملياتنا الحيوية في مكافحة الإرهاب إثر تنامي النفوذ الاستراتيجي الصيني في المنطقة».
وفي إطار إدراكهم للمكاسب التي حققتها القوى الناعمة للصين، انتقد النواب قيادة جيبوتي، نظرا «لعلاقتها الطيبة مع الصين».
وكان الانتقاد الذي طرحه النواب يتردد خلال الشهور الأخيرة في البيت الأبيض. ولكن ذلك لم يعمل بأي حال من الأحوال على تحسين العلاقة بين واشنطن عمر جيلة؛ فبالنظر إلى رد الفعل الغاضب في وسائل الإعلام بجيبوتي، يبدو أن رئيس جيبوتي نظر للانتقادات الأميركية كتأييد لخصومه السياسيين الذين خسروا انتخابات أبريل (نيسان). وبالتالي، فإن فوز معسكره في الانتخابات دفع بالحكومة خطوة أخرى إلى الأمام في علاقتها بالصين وخطوة أخرى بعيدا عن الولايات المتحدة.
يعد تغير الموقف الأميركي تجاه جيبوتي – ومن ثم في القرن الأفريقي وجنوب شبة الجزيرة – مجرد عرض لانسحابها السياسي والعسكري من النزاعات التي تورط فيها حلفاؤها العرب والآسيويون.
كما يعكس أيضًا ضعف التزام واشنطن وقدرتها على استخدام قواها الناعمة في البيئات الأجنبية التي ترزح تحت وطأة النزاعات السياسية. وسيصبح من الصعب على واشنطن أن تعالج المخاوف التي أثارها المشرعون الأميركيون والمحلل التايواني، لاي يوكيان، بشأن جيبوتي دون أن تعود لتأييد حلفائها في الشرق الأوسط والشرق الأقصى ونشر كلتا القوتين الناعمة والعسكرية.
وعلى الرغم من أنه يجب على الولايات المتحدة أن ترحب بجهود الصين في مساعدة المدنيين بمناطق النزاع في المنطقة وتأمين خطوط بحرية للتجارة الدولية، فإنها يجب أن تستعد أيضًا إلى ذلك الحضور القوي لتلك القوة مما قد يجعلها تقف كحجر عثرة أمام الأهداف الأميركية سواء سياسيا أو عسكريا. وفي الوقت نفسه، يعد تزايد وجود المملكة العربية السعودية بالإضافة إلى الصين في البلاد إرهاصا على تعزيز الروابط الأمنية بين الرياض وبكين ربما على حساب واشنطن.
وهذا ليس سوى مثال واحد على تزايد العلاقة بين الصين والعالم العربي وليس واضحا ما إذا كان صناع السياسة الأميركيون يعون تماما أهمية ذلك التوجه الجيوسياسي الجديد والمهم.