المجلات الثقافية العربية.. في الرمق الأخير

تأثرت بالمواقع الإلكترونية والتمويل والتوزيع ومطالبات بدعمها حكوميًا

المجلات الثقافية العربية.. في الرمق الأخير
TT

المجلات الثقافية العربية.. في الرمق الأخير

المجلات الثقافية العربية.. في الرمق الأخير

منذ بدايات القرن العشرين، واجهت المجلات الثقافية العربية فترات ازدهار وفترات اضمحلال، تبدو جلية مع فترات الحراك السياسي والاجتماعي. وطرحت أزمة الإغلاق المفاجئ لمجلة «دبي» الثقافية مؤخرا، تساؤلات عدة حول أزمة المجلات الثقافية هل هي غياب الدور أم الرسالة؟ أم العجز عن مخاطبة جيل الشباب الذي يحلق في فضاءات مواقع «السوشيال ميديا»؟ أم أنها أزمة الصحافة الورقية بشكل عام؟ استطلعت «فضاءات» آراء عدد من رؤساء تحرير المجلات والملاحق والمواقع الثقافية في العالم العربي، في محاولة للوقوف على أسباب الأزمة التي ظهر تشعبها وارتباطها بالأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وارتباط المجلات الثقافية بالدور الإقليمي للدولة وتصدير توجهاتها عبر الثقافة واجهةً لها، وتسليط الضوء على التحديات التي تواجهها في عدد من الدول.
في مصر، تعاني المجلات الثقافية عثرات كثيرة، لكنها تحاول الصمود، فهي تعاني بشكل جلي معضلة التمويل، فضلا عن تراجع الصحافة الورقية المصرية بوجه عام، ما دعا وزارة الثقافة المصرية في أبريل (نيسان) الماضي لتشكيل لجنة عليا لتقييم أوضاع المجلات الثقافية، وبحث غلق بعضها أو دمجها. بدأت أزمة «المجلات الثقافية» منذ بداية سبعينات القرن الماضي، حيث تراجعت الحركة الثقافية مع هجرة المثقفين واستهداف الثقافة من قبل الدولة ممثلة في ملاحقات واعتقالات، فقد توقفت في ذاك الوقت مجلات «الكاتب»، «الطليعة»، «الفكر المعاصر»، «المجلة» والتي كان لها دورها في تقديم جيل جديد من المبدعين والأدباء. أما في التسعينات، فتصدرت وزارة الثقافة المشهد ودفعت بعدد من المجلات منها «فصول»، و«القاهرة» التي تحولت الآن إلى جريدة أسبوعية، ومجلة «إبداع»، و«سطور». وكانت من أبرز المجلات الخاصة «وجهات نظر» التي كان لها طابع مميز، ومجلة «أدب ونقد» التي كانت تصدر عن حزب التجمع منذ عام 1984، ومجلة «الكتابة الأخرى» التي تصدر وتتوقف من آن لآخر، ومجلة «أمكنة» الفصلية للشاعر علاء خالد، وهي أيضا غير ثابتة في الصدور، كذلك توقفت مجلة «تحديات ثقافية» التي كان يصدرها الشاعر مهدي بندق.
يقول رئيس تحرير مجلة «الهلال» الروائي سعد القرش: «أزمة المجلات الثقافية في الوطن العربي تؤكد أن المال لا يصنع الثقافة، لكنه قد يصنع أنشطة صاخبة، ويصنع مجلات عدد قرائها في بلد الصدور أكبر من عدد كتابها، لكنه لا يضمن استمراريتها». ويشير إلى أن «سبب الأزمة غياب المراكز الثقافية الكبرى في العالم العربي، كمصر وبغداد وبيروت ودمشق، والتحولات السياسية الجارفة التي تمر بها؛ ما أدى إلى خلل كبير، فضلا عن افتقار المجلات الثقافية إلى العمق الثقافي والقدرة على الإنجاز وتحدي المواقع الثقافية الإلكترونية». وعن وضع مجلة «الهلال» التي ظلت صامدة منذ صدورها قبل 125 عاما، يقول: «المجلة مدعومة بكتابها العرب الذين يتنازلون عن أجورهم في مقابل رؤيتهم للمجلة التي تربوا عليها».
ويشير إلى أن «مشكلة الهلال كباقي المجلات المصرية تعاني غياب الدولة عن التوزيع، حيث إن الشركة القومية المنوطة بالتوزيع والتي تحتكره لا تقوم بدورها، فلا توزع المجلة في الدول العربية، فالكتاب العرب لا يرون إبداعهم، ورغم ذلك هم مستمرون في دعمنا».
ويسلط القرش الضوء على الأسباب الكامنة وراء الأزمة: «بداية من عهد جمال عبد الناصر أشك أن هناك حاكما مصريا قرأ كتابا، فالدولة في حالة عداء مع المثقفين الذين كان يسميهم السادات «الأراذل»، فلا توجد رؤية لدى أي رئيس أو للدولة ككل تتعلق بالثقافة، قد تكون المجلات الثقافية مجرد واجهة لبعض الدول، لكنها بالنسبة لمصر دور ورسالة وعبء نتحمله».
«الأزمة..أزمة تلقٍ بالأساس» هكذا يكشف الروائي أشرف الخمايسي، الذي يعمل في مجلة «الثقافة الجديدة» التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية، عن واقع بعض المجلات الثقافية المصرية التابعة للدولة، قائلا: «للأسف مجلات مثل (مسرحنا) و(خيال) لا تباع منها سوى 20 نسخة في دولة تعداد سكانها يفوق 90 مليون نسمة، أما مجلة «الثقافة الجديدة» فهي توزع ما بين ألفين إلى 3 آلاف نسخة»، مضيفا: «للأسف المجلات الثقافية تخاطب المثقفين فقط، وهذا خطأ فادح، فالمثقفون يكتبون لنفسهم، يقرأون ما يكتبونه وما يكتبه أصدقاؤهم في أضيق الحدود، بل ويشترون الأعداد التي ينشر بها ما يكتبون فقط».
وعن حل الأزمة من وجهة نظر صاحب رواية «منافي الرب»، يرى أنه «لا بد من التوجه للناس ولعامة الشعب من غير المثقفين؛ فالهدف أن نخاطبهم ونعبر عنهم، هذه المجلات أداة لتوصيل الثقافة ونشرها، ولا يصح أن تظل منغلقة على جماعة بعينها، وإتاحة الفرصة لكل من يرغب في نشر إبداعه دون قيود وتعنت».
ويحاول شباب المبدعين المصريين التغلب على الوضع المظلم في الصحافة الثقافية بوجه عام، بمبادرات فردية وجماعية عدة للبحث عن بدائل ممكنة وقنوات لنشر إبداعاتهم. تحدثنا إلى الكاتب سامح فايز، وهو صحافي يكتب في عدد من المجلات والجرائد الثقافية من بينها جريدة «القاهرة» الأكثر استقرارا نظرا لدعم الدولة لها، والذي كانت له تجربتان في تأسيس موقعين ثقافيين؛ لنشر الأخبار والفعاليات الثقافية والإبداع الشبابي على الإنترنت، هما: «الشباك»، و«كتب وكُتاب»، ومؤخرا أسس مبادرة جديدة أسماها «التيار الثقافي البديل». يقول: «النشر في المجلات الثقافية منغلق على جماعات معينة، وهذه المبادرة رد فعل على حالة الإحباط التي تسود في الوسط الثقافي المصري، في ظل تراجع دور وزارة الثقافة المصرية وحالة التردي السائدة منذ عام 2000 تقريبا». ويرجع الأسباب في أزمة المجلات الثقافية إلى «عدم مجارات التغييرات الاجتماعية والسياسية التي تواجه المجتمعات العربية، وعدم الاستجابة للتطورات التكنولوجية التي أفرزتها الصحافة الإلكترونية، وتطور الـ«سوشيال ميديا» وانجذاب الشباب لها، فهم يتابعون الأخبار والفعاليات عبرها، فما الذي سيجعل الشباب ينتظر مجلة تصدر كل شهر؟
ويضيف فايز: «صحيح أن بعض المجلات التابعة للوزارة شهدت طفرة بعد تغيير إدارتها مثل: (عالم الكتب) و(إبداع)، لكن ذلك لن يدوم لأن ذلك مرهون بتغيير الإدارة وفقا لمدة عمل محددة». ويشير إلى أنه حينما ترأس تحرير موقع «كتب وكتاب» تصفحه 30 ألف مستخدم، وتابعه 20 ألف على «فيسبوك»، وكانت تجربة ناجحة جدا سدت ثغرة في الوسط الثقافي، لمتابعته الفورية للفعاليات الثقافية، إلا أن الأزمة المالية وعدم وجود تمويل أطاحت به بعد أشهر».
وتحاول الهيئة المصرية العامة للكتاب، التابعة لوزارة الثقافة المصرية، اتباع استراتيجية لتطوير المجلات التي تصدر عن الهيئة، كما وقعت الهيئة مؤخرا برئاسة د.هيثم الحاج على بروتوكول لطباعة مجلة «أدب ونقد» الخاصة، ودعمها في إطار دعم النشاط الثقافي للأحزاب، وشكلت لجنة لإعادة تقييم المجلات الثقافية التي تصدر عنها وتقنين أوضاعها.
يقول الكاتب الصحافي مصطفى عبد الله، رئيس تحرير جريدة «أخبار الأدب» السابق، وعضو لجنة التقييم بالهيئة المصرية العامة للكتاب: «شكّل وزير الثقافة لجنة عليا لبحث آليات النشر بالمجلات التي زاد عددها عن 20 مجلة ولا تحقق مبيعات منذ عشرات السنين ومستمرة في الصدور برغم ضعف عدد القراء، واللجنة التي تضم الدكتور جابر عصفور وعددا من كبار المثقفين في مصر، تحاول النظر في استمرار هذه المجلات أو دمجها وإغلاق بعضها».
ويعزي عبد الله السبب الرئيسي لأزمة أغلب المجلات الثقافية في مصر إلى «نمطيتها وجمودها، ووجود هيئة تحرير ثابتة أدى بها إلى هذا الوضع المتردي، حيث تحرص هيئة التحرير على صدورها بغض النظر عن محتواها ومضمونها، فلا سياسة توزيع ولا سعي للقارئ، وتتجسد المأساة في تراكم الأعداد المرتجعة في المخازن». ويرى عبد الله أن «للصحافة الإلكترونية تأثيرا مباشرا في المجلات الثقافية، وكان لها أيضا أثر كبير على حركة الإبداع ذاته، فخلقت فضاء واسعا لأدباء الصعيد، وقلصت معاناتهم لنشر إبداعاتهم، وكشفت زيف الأدباء المُدعين»
وعن أزمة مجلة «دبي» الثقافية التي كان يكتب بها عمودا ثابتا، قال: «أصبح المسؤولون عن المجلات الثقافية في وضع حرج بعد الإغلاق المفاجئ لـمجلة «دبي»، التي كانت تنعم بالاستقرار، وكان توزيعها يتخطى 70 ألف نسخة شهريا، وكذلك أزمة مجلة «العربي» التي كانت توزع أكثر من 100 ألف نسخة، وهي أرقام قياسية للمجلات الثقافية، وتعرض تلك المجلات الناجحة للإغلاق أمر ينبئ بخطورة حجم المشكلة أمام المجلات الخليجية التي قامت بدور كبير في مد الجسور الثقافية بناء على رؤية ثقافية، لكنها للأسف لم تعكس الواقع الخليجي؛ لذا أعتقد أن هذا سبب رئيسي في اختلالها».
التخلي عن المشروع الثقافي أيضا سبب رئيسي وراء أزمة المجلات الثقافية، وهو ما لفت إليه الروائي إبراهيم فرغلي، عضو هيئة تحرير مجلة «العربي» الكويتية، الذي يقول: «أغلب المجلات العربية تصدر بدعم حكومي من الدول التي تصدرها، ولكن الاختلاف ربما يكمن في المناخ الذي تأسست فيه هذه المجلات على يد رواد من المثقفين ومن أصحاب الرؤية السياسية الذين كانوا يرون في تطور العقل العربي ضرورة للتنمية، أما الآن ففي ظل الاستقطابات السياسية دخلت الحكومات طرفا يريد أن يراقب كل شيء، إما خوفا من الفتن الطائفية، أو خوفا من الحسابات السياسية الدقيقة، وبالتالي لم يعد للمشروع الثقافي الآن الأولوية كما كان الأمر في الماضي». ويضيف: «أي دولة قد تفرض حالا من التقشف فسيصيب الثقافة قبل غيرها. طبعا هذه مفارقة مؤلمة؛ لأن الواقع الراهن بكل ما نراه فيه من تغيرات واضطرابات وتنام للعنف وانتشار الإرهاب يكاد يؤكد أن الثقافة التي كانت حكرا على الدوريات والمؤسسات الثقافية تحتاج إلى أن تدخل في نسيج التعليم العام لكل الدول العربية وليس التخلي عن المشروع الثقافي».
ويسلط فرغلي الضوء على أسباب أخرى «طبعا هذا كله يأتي مع وجود جيل جديد يتعاطى ثقافة جديدة ويتابع ما يحدث في العالم ويفقد الثقة بسرعة في أي مطبوعة تبدو له جامدة أو بعيدة عن روح العصر وثقافته. ويلفت إلى أن الحل يكمن في «ضرورة أن يدخل العلم والاهتمام بالعلوم مع الثقافة والفكر اليوم في شكل مطبوعات شابة تناسب روح العصر وتقدم الأسئلة العميقة في أشكال صحافية تناسب الشباب. الثقافة ليست ترفا وليست أولوية مؤجلة كما قد يتصور البعض».
المملكة العربية السعودية، تواجه المجلات الثقافية أزمات أيضا وتحديدا المجلات الخاصة، وفقا للمثقف السعودي محمد السيف، رئيس تحرير «المجلة العربية»، الذي يقول: «هناك عزوف كبير من الشباب وجمهور القراء في الوطن العربي عن المواد الدسمة والموضوعات الأدبية الكلاسيكية، التي كانت تطرحها المجلات الثقافية في القرن الماضي، وهناك تأثير كبير ومباشر من مواقع (السوشيال ميديا) على كل من المجلات والمواقع الثقافية». ويشير «تعرضت (الفيصل) منذ عامين لأزمة تمويل وتوقفت وعادت لتصدر كل شهرين، كذلك تستمر معاناة مجلات أخرى مثل «المنهل»، و«القافلة»، لكن المجلة العربية لا تواجه تلك الأزمة؛ لأنها «مدعومة من الدولة ولها ميزانية مستقلة تكفل لها الاستقرار، فضلا عن حرصها على التواصل مع الأدباء والمبدعين الشباب من مختلف أنحاء الوطن العربي، ومد جسور التواصل معهم عبر نشر موضوعات متنوعة وتهمهم ومقابلات معهم ونشر إبداعاتهم، والحرص على التوزيع الجيد لها».
وحول تأثر المجلات الثقافية بوجود المواقع الثقافية الإلكترونية، يقول: «لم تؤثر تلك المواقع في المجلات، بل إنها أيضا تتعرض لأزمات أكبر ومشكلات مادية تؤدي لإغلاقها، فضلا عن عدم التفاعل معها أيضا».
ويرى السيف أنه «على الصحافة الثقافية بوجه عام أن تتقبل قدرها الحتمي بالإغلاق أو التواري؛ لأن الأزمة ليست فقط تمويل أو توزيع؛ مؤكدا «مفتاح الأزمة هو المضمون الذي تقدمه الصحافة الثقافية للجمهور».
وفي لبنان، أغلقت عدة مجلات ثقافية خلال القرن العشرين منها: «الأديب» الشهرية التي استمرت في الصحافة الأدبية من سنة 1942 إلى سنة 1983. وفي عام 2013 صدر العدد الورقي الأخير من مجلة الآداب البيروتية التي كانت واحدة من أهم المجلات الثقافية والأدبية في العالم العربي. أما في الوقت الحالي، فقد انعكست حالة الترهل والتشظي السياسي على الصحافة الثقافية، ورغم أن وزارة الثقافة اللبنانية أطلقت العام الماضي مجلة فصلية هي «شؤون ثقافية»، في محاولة لإنعاش المقاومة الثقافية، إلا أن أزمة الملحق الثقافي في جريدتي «النهار» و«السفير» كانت بمثابة طامة كبرى في الوسط الثقافي العربي لما لهما من ثقل. يقول الشاعر عباس بيضون، رئيس الملحق الثقافي بجريدة السفير، في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط»: «توقفت المجلات الثقافية منذ زمن بعيد، وهنالك أسباب عدة لتدهور الصحافة الثقافية في لبنان؛ أولها: بالطبع الوضع السياسي الذي يفرض على الجمهور أن يستقي الثقافة والمعلومات والأخبار من مصادر تتفق مع مواقفه وانتماءاته السياسية، ثانيها: انتشار المواقع الإلكترونية الثقافية التي أصبحت أسرع وأقرب للجمهور، ثالثها: مشاكل التمويل التي أصبحت تطيح ليس بالصحافة فقط، بل بصناعة النشر ككل، بسبب تكلفة الورق وانخفاض العائد». ويرى بيضون أن قدر الصحافة الثقافية هو الاضمحلال والتواري في ظل كل هذه الظروف، أما عن المثقف اللبناني وأين ينشر إبداعه، فقال: «يتجهون للمواقع الإلكترونية». وبصوت يحدوه تشاؤم كبير: «لا أجد حلولا للأزمة، وعلى ما يبدو أنها مستمرة ولن تجد المجلات الثقافية مخرجا؛ لأن الأسباب عميقة ومتجذرة ومتشابكة؛ لكن ربما يمكن للدولة والمؤسسات الاقتصادية الخاصة أن تقوم بدور في التمويل والدعم، ولا بد للمجتمع أن يتحمل المسؤولية تجاه الصحافة الثقافية وإلا فلا مفر من الإغلاق».



ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.