المكلا.. محرَّرة

الجيش اليمني يسانده التحالف العربي خاض أكبر معركة ضد «القاعدة» في حضرموت

المكلا.. محرَّرة
TT

المكلا.. محرَّرة

المكلا.. محرَّرة

استغلت التنظيمات الإرهابية في اليمن ضعف الدولة خلال العقد الأخير، سواء في شمال الشمال أو في المدن الجنوبية، فعملت على الاستفادة من الأوضاع غير المستقرة في البلاد. ومن ثم بسطت سيطرتها بقوة السلاح، كما فعل الحوثي والرئيس المخلوع علي عبد الله صالح في صنعاء، أو تنظيم «القاعدة» في مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت، وكذلك في محافظتي أبين وشبوة. غير أن التنظيم لجأ إلى تغيير استراتيجيته التي كانت تحت إطار حرب العصابات والهجمات الانتحارية، والكمائن التفجيرية، إلى السيطرة على مدن بكاملها، كما حدث في زنجبار وجعار (في أبين)، وأخيرا المكلا. لكن ذلك لم يدم طويلا؛ إذ أعلنت قوات التحالف العربي مساندتها للحكومة اليمنية لمحاربة التنظيم الإرهابي، وكما طردت ميليشيات الحوثي وصالح من عدن ومدن أخرى بالجنوب، أطلقت أكبر عملية تستهدف تنظيم القاعدة في المكلا بعد أكثر من سنة على سيطرتهم عليها، ومن ثم نجحت في تحريرها بأقل التكاليف والخسائر وخلال وقت قياسي.

بعد وصول ميليشيات المتمردين إلى محافظة شبوة اليمنية الجنوبية المحاذية لمحافظة حضرموت، سارع عشرات المسلحين تحت لافتة تنظيم «القاعدة» إلى مدينة المكلا الساحلية الاستراتيجية، التي تعد ثالث أهم مدينة يمنية من الناحية الاستراتيجية بعد صنعاء وعدن؛ بسبب موقعها على بحر العرب. وساهم غياب الدولة وانقلاب المتمردين على حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي في تسهيل السيطرة على المكلا؛ بسبب الفوضى التي صاحبت عملية الانقلاب وقطع التواصل بين المركز والمدن البعيدة عن صنعاء.
هناك عدة روايات لكيفية سقوط المكلا بيد «القاعدة»؛ إذ تتحدث مصادر عسكرية عن إرسال الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح ضباطا وجنودا موالين له من قوات الحرس الجمهوري والأمن المركزي وجهاز الأمن القومي، بأزياء مدنية بواسطة حافلات نقل عام من صنعاء إلى المكلا. وحدث ذلك قبيل أيام من سقوط المكلا بيد «القاعدة» في أبريل (نيسان) 2015، كذلك كشفت مصادر صحافية آنذاك توقيف عدد من الحافلات في نقاط عسكرية بمحافظة حضرموت وتأكدوا من هوياتهم، لكنهم سمحوا لهم بالمرور بتوجيهات عليا من قيادتي وزارة الدفاع ووزارة الداخلية اللتين كانت تسيطر عليهما الميليشيات الانقلابية. وخلال بضعة أيام أعلن تنظيم «القاعدة» المتطرف سيطرته على المكلا بشكل كامل وفرض ما يسمونه «لجان الحسبة» التي حلت محل أجهزة الدولة، وإدارات المؤسسات العامة والميناء.
* «قوس القاعدة»
يركز تنظيم «القاعدة» في تحركاته على المناطق التي يمكن تسميتها «قوس القاعدة»، وتمتد من الحدود السعودية - اليمنية الغربية، ويمتد شرقا عبر محافظات صعدة والجوف ومأرب وشبوة وأبين وحضرموت والبيضاء. وهذا هو قوس الانتشار القاعدي الأساسي الذي تتحرك داخله عناصر وقيادة التنظيم المتطرف، باعتبار مناطق المحافظات المذكورة مناطق جبلية وعرة، يتمكن قيادة التنظيم من التنقل فيها بحرية وبصورة آمنة.
وبطبيعة الحال، يخشى «القاعدة» كما هي حال التنظيمات الإرهابية، مثل جماعة الحوثية وتنظيم داعش من وجود دولة قوية مستقرة. ولذا سعى قادة «القاعدة» - ومن خلفهم المتمردون الانقلابيون - بكل قوتهم لنشر الفوضى والدمار في كل المدن، وتنفيذ عمليات نوعية تستهدف قيادات عسكرية وأمنية وسياسية بهدف زعزعة الأمن والاستقرار.
* استهداف القبيلة
قبل بضع سنوات كشفت صحف أميركية عن مشروع جديد استهدف القبيلة في اليمن، ومنع «القاعدة» من الاحتماء بها، وسمى «مشروع استراتيجية الارتباط ما بعد القبيلة»، وخصص له مبلغ 3.4 مليون دولار، بالاشتراك مع جهاز الأمن القومي اليمني. ولكن، بعد انقلاب الحوثي ما عاد معروفا بالضبط ما إذا كان المشروع استمر أم توقف.
كما سبقت الإشارة، ساهم الانقلابيون بشكل مباشر في تمدد «القاعدة» بمحافظات الجنوب، ولقد كشفت الحكومة أخيرا عن علاقتهم بما حدث في المكلا بالذات. وأكدت أن تطهير المدينة من العناصر الإرهابية فضح علاقة الانقلابيين ودورهم في دعم الإرهاب والتطرف، وتماهي أجنداتهم والإرهابيين وتعاونهم المشترك عبر تهريب السلاح والمشتقات النفطية، والتقاء مصلحتهم في تبادل الأدوار الهادفة إلى خلط الأوراق ونشر الفوضى والانفلات الأمني، لعرقلة جهود الدولة في مكافحة الإرهاب والتطرف.
* «الحسبة»
عندما سيطر «القاعدة»في أبريل (نيسان) 2015 على المكلا، كان سكان المدينة المسالمة يعتقدون سكانها بأن جميع المنتمين لهذا التنظيم هم من أتباع صالح، الذي وجه القيادات العسكرية والأمنية الموالية له بتسليم معسكرات الجيش والأمن للإرهابيين. ولقد بُذلت جهود كبيرة من قبل أعيان المدينة لسد الفراغ الذي تركته أجهزة الدولة ومؤسساتها عبر إنشاء مجلس أهلي تمكن من تجنيب المدينة المواجهات المسلحة. كذلك عقد أهالي المدينة اتفاقيات مع قيادات التنظيم المتطرف بينهم ناصر الوحيشي، الذي قتل بعدها بغارة لطائرة أميركية من دون طيار (درون). ونص الاتفاق في حينه على تسليم المرافق كافة وإداراتها إلى المجلس الأهلي الحضرمي، وأن من حق المجلس الأهلي أن يُعين من شاء رئيسا له، على أن يتحمل المجلس الأهلي إدارة الأمن العام ومرافقه. غير أن هذا الاتفاق ظل حبرا على ورق. ولم ينسحب المتشددون من المقرات العسكرية والأمنية؛ حيث أدار المسلحون الشؤون الأمنية والقضائية وفرضوا أفكارهم وممارساتهم المتشددة على الجامعات والمدارس في المكلا، التي لا تزال مغلقة بأوامر من قيادتهم. واستغلوا أيضا المرافق الاقتصادية في تمويل أنشطتهم؛ حيث تقول بعض المصادر إن قيادة «القاعدة» كانت تتسلم مبلغ 5 ملايين دولار أميركي يوميا، من عوائد المشتقات النفطية والبضائع التي كانت تصل إلى ميناء المكلا.
ولكن على الرغم من القوة المسلحة التي تمتع بها التنظيم وبفضلها فرض سيطرته على المدينة، فإن السكان لم يخضعوا لسلطة الأمر الواقع، بل عبروا عن رفضهم لممارسات ما يسمى «لجان الحسبة» في احتجاجات ومظاهرات. ورفعت في هذا الاحتجاجات شعارات ترفض الإرهاب و«القاعدة». كذلك شهد السكان استيلاء مسلحي «القاعدة» على أموال البنوك، إضافة إلى أسلحة ثقيلة استولى عليها من المعسكرات، وإطلاقهم سجناء من السجن المركزي بينهم قيادات من التنظيم.
* عملية التحرير
سبق عملية تحرير المكلا غارات جوية مكثفة لقوات التحالف العربي في أعقاب طلب تلقته هذه القوات من الحكومة اليمنية الشرعية لمساعدتها في طرد عناصر التنظيم من المدينة المحتلة. وبالفعل، استهدفت الغارات الجوية التي شنها طيران التحالف العربي مراكز المسلحين في الميناء والمعسكرات التي اقتحموها، حيث سقط خلالها قتلى وجرحى من قيادة العناصر الإرهابية. وكانت هذه الغارات تمهيدا للاجتياح البري للقوات المشتركة التي تضم قوات يمنية أغلبهم من أبناء محافظة حضرموت، إضافة إلى قوات النخبة من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. وأكد العميد عون القرني، مساعد قائد عملية تحرير المكلا، بعد إنجاز تحرير المدينة، أن العملية تعد «رسالة واضحة وقوية إلى من يدعم الإرهاب في اليمن». وأضاف القرني «أن التحالف العربي يقف مع اليمن من أجل الشرعية»، لافتا إلى أن «القاعدة» فقد مصادر تمويله في المكلا. ومن ناحية أخرى، عد العميد مسلم الراشدي، قائد القوات الإماراتية في حضرموت، أن «تحرير مدينة المكلا اليمنية من قبضة تنظيم القاعدة هو نصر استراتيجي ليس لأهل اليمن والخليج فقط، بل للعالم أجمع».
ميدانيا، تمت عملية التحرير بغطاء جوي مكثف لطائرات التحالف، تكللت بتحرير مدينة المكلا ومينائها، وأيضا كامل ساحل حضرموت، بما فيه مدينة الشحر وميناء الضبة النفطي ومنطقة غيل باوزير شرقي المكلا. ولقد أكدت القيادة السياسية اليمنية على مواصلة معركتها مع التنظيمات الإرهابية؛ إذ شددت الحكومة في بيان لها أنها لن تتوانى عن «تقديم أي جهد أمني أو سياسي لإلحاق الهزيمة بالإرهاب وملاحقة عناصره الظلامية أينما وجدوا على أرض الوطن»، ومواصلة الضغط وبكل الوسائل الممكنة والعمل مع شركائها في التحالف العربي والمجتمع الدولي، للقضاء على العوامل المساعدة على تمدد الإرهاب وتوفير البيئة المواتية لانتشاره، والمتمثلة في إنهاء انقلاب ميليشيا الحوثي وصالح على الشرعية الدستورية.
وفي هذا السياق، صرح نائب الرئيس علي محسن الأحمر، عقب إنجاز تحرير المكلا، بأن «موقف الدولة ثابت في مكافحة الإرهاب، وهو موقف يتجاوز ادعاءات من يغذيها بمشاريعه الميليشاوية ويسعى لاستخدامها كمبرر لوجوده اللاشرعي»، في إشارة إلى الرئيس السابق علي عبد الله صالح. وأردف الأحمر: «إن هزيمة الإرهاب والتطرف يعد المسمار قبل الأخير في نعش الانقلابيين الذين طالما سعوا بكل جهدهم إلى إلصاقها باليمنيين كعصا غليظة يلوحون بها نحو مخالفيهم بهدف إجبارهم على إدانة الولاء لهم، كما أنها الورقة الأهم والأكثر خطورة في كواليسهم، التي استجدوا من خلالها الآخرين وحاولوا خلقها للإيمان ببقائهم».
* نكسة الإرهابيين
من ناحية أخرى، يقول سعيد عبيد، المحلل الاستراتيجي اليمني في شؤون التنظيمات الإسلامية: «إن تنظيم القاعدة استفاد من هشاشة الأوضاع، واختار حضرموت، لكن قراره اختيار حضرموت كان اختيارا خاطئا؛ لأن المكلا ليست بيئة حاضنة له. وبالفعل جوبه برفض شعبي عارم من قبل أهالي حضرموت. كذلك كانت سيطرة التنظيم على المكلا خطأ تكتيكيا، وخسر فيها بسبب ذلك الخطأ قياداته وعناصره». واستطرد عبيد قائلا: «التنظيم خسر في المكلا وساحل حضرموت نتيجة عدم امتلاكه أي مشروع سياسي أو اجتماعي، يمكنه من خلاله استمالة المواطن اليمني، بالتالي، كانت خسائره متواصلة، ولم يخسر في فترة واحدة قصيرة».
وعدد المحلل الاستراتيجي اليمني جوانب هذه الأخطاء في الممارسة فقال: «إن تنظيم القاعدة كان يفرض قيودا على حركة السكان ويشدد على حريتهم، كما قام التنظيم بفرض خطباء وموجهين تابعين له، وتعاملت عناصره في مختلف أنحاء حضرموت مع الناس بتعال واستعلاء، اعتقادا منهم بأنهم أكثر فهما للإسلام وتعاليمه من غيرهم».
أما راضي صبيح، وهو صحافي من أبناء حضرموت، فقال: «إن هناك عدة عوامل ساهمت في استعادة مدينة المكلا في وقت وجيز أبرزها: حجم القوة والآليات العسكرية الضخمة والدعم اللامحدود من قوات التحالف العربي، رافق ذلك تغطية إعلامية كبيرة دولية ومحلية، بالإضافة إلى أن أفراد وجنود الجيش هم من أبناء محافظة حضرموت ما شكل قوة ودعما مجتمعيا لهم وعقبة أمام القاعدة في الدخول في صراع مع قبائل المحافظة».
* فرحة السكان
والحقيقة أن تحرير المكلا كانت مناسبة احتفالية للسكان الذين خرجوا للشوارع مهللين فرحين بهذا الانتصار. وتروي نور محمد علي، وهي من سكان المكلا، أن «الاحتفالات لم تتوقف ليلة دخول القوات المشتركة إلى المدينة». مضيفة: «كان مسلحو الحسبة يفرضون علينا كل القيود، ويمنعون عنا الغناء ويعتقلون أي شاب يسمع موسيقى بجواله. لقد استغلوا طيبة أهل المكلا ورفضهم لحمل السلاح ليستبيحوا مدينتهم المسالمة».
وتابعت نور أن يوم دخول الجيش اليمني مع قوات التحالف «كان يوما تاريخيا لكل السكان، فقد علت الزغاريد مع أزيز الرصاص، والشكر لكل من ساهم في تحرير مدينتهم.. لقد انتظر السكان بفارغ الصبر إشراقة الشمس للخروج إلى شوارع مدينتهم ومشاهدتها محررة بعيدا عن رجال الحسبة، وكانت الابتسامة تعلو وجوه السكان الذين ذهبوا إلى خور المكلا للاحتفال بهذا النصر الكبير».
وحقا، بعد يوم واحد من تحرير المدينة، عاود ميناء المكلا عمله، تحت إشراف السلطة المحلية، وباشرت الوكالات الملاحية ودوائر الشؤون البحرية والجمارك والخدمات العامة عملها بطريقة إيجابية، وسارت حركة الشحن والتفريغ بصورة اعتيادية. واستقبل الميناء في اليوم نفسه ناقلتين الأولى محملة بـ5 آلاف و800 طن متري من المازوت، فيما الناقلة الثانية تحمل 9 آلاف و500 طن متري من مادة القمح، إضافة إلى رسو 12 سفينة خشبية تحمل بضائع، ورسو في منطقة البويا العائمة بالميناء ناقلة بترول وعلى متنها 12 ألفا و400 طن متري.
* مدينة المكلا.. في سطور
- المكلا هي عاصمة إقليم حضرموت وعاصمة محافظة حضرموت وثالث أهم مدينة يمنية بعد صنعاء وعدن. تطل المدينة على بحر العرب ويقسمها خور المكلا إلى نصفين، وهي تقع إلى الشرق من عدن وتبعد عنها بنحو (1080 كم).
- بنيت المدينة في منطقة سهلية بين البحر والجبل. وحسب بعض المصادر التاريخية، أسست المدينة في مطلـع القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)؛ إذ بوشر بالاستقرار في موقعها في السنة 1035.
- كانت تسمى قديما بـ«الخيمة» حسب المصادر التاريخية، ولم تعرف باسمها الحالي إلا عند إنشاء الإمارة الكسادية في السنة 1115هـ. وازدادت شهرتها ومكانتها عندما اتخذتها السلطنة القعيطية حاضرة لها في سنة 1915م، وأقام فيها السلطان واتخذها مقرا للحكم.
- يبلغ عدد سكانها أكثر من نصف مليون نسمة حسب إحصاءات عام 2005. أما سكانها الأصليون فمن الحضر وتعد مجتمعا حضريا نسبيا، بالنسبة إلى بقية مدن اليمن ذات العمق الريفي والقبلي.
- تتميز المكلا بطابعها المعماري الخاص، وتشتهر بجمال مآذنها ومبانيها البيضاء التي ترتفع إلى أربعة طوابق. ومن أشهر معالم المدينة المعمارية: قصر السلطان القعيطي، حصن الغويزي، والمكتبة السلطانية.
- تتميز المكلا بطابع سياحي خاص؛ مما جعلها محطة استثمارية كبيرة تجتذب المستثمرين والسياح، كما أن رقي أهلها وتحضرهم كان أهم العوامل التي مكنتها من البروز سياحيا وثقافيا، بالإضافة إلى استقرار الأمن فيها.



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».