عزرا باوند.. العبقرية الشعرية والسقوط السياسي

التقدمية والرجعية لا تنطبق على الشعر

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

عزرا باوند.. العبقرية الشعرية والسقوط السياسي

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يشكل كتاب «عزرا باوند.. البركان الوحيد» مدخلا ممتازا إلى عالم هذا الشاعر، حياته وأعماله الشعرية. ومؤلفه هو البروفسور جون تايتل أستاذ اللغة والآداب الإنجليزية في إحدى جامعات نيويورك.
من المعلوم أن عزرا باوند يعتبر أحد أهم الشعراء الذين أنجبتهم أميركا في تاريخها كله. ورغم السمعة السيئة التي لحقت به بسبب انحيازه إلى موسوليني إبان الحرب العالمية الثانية فإن شاعريته لم تتأثر بذلك كثيرا. والواقع أن مسألة التقدمية والرجعية لا تنطبق على الشعر؛ فكثيرا ما نرى شخصا رجعيا في أفكاره ولكن شعره من أروع ما يكون. وكثيرا ما نجد شخصا تقدميا ولكن شعره تافه لا معنى له. هل كان بدوي الجبل تقدميا يا ترى؟ أو نزار قباني؟ أو شارل بودلير؟ وبالتالي فلنكف عن هذه التصنيفات السطحية.
ورغم كل تقلباته وما حل به فإن عزرا باوند مارس تأثيرا كبيرا على شعراء وكتاب آخرين ليس أقلهم جيمس جويس وت. س. إليوت وإرنست همنغواي وغيرهم.
لكن من هو عزرا باوند؟ على هذا السؤال يجيبنا المؤلف قائلا: «لقد ولد في الولايات المتحدة عام 1885 ومات في البندقية بإيطاليا عام 1972. أي أنه عاش عمرا مديدا يتجاوز السابعة والثمانين عاما. وكان شاعرا وموسيقارا وناقدا أدبيا من الطراز الأول. وقد انضم إلى الحركة الحداثية للشعر الأميركي في العشرينات من القرن الماضي، عندما كان لا يزال في بدايات حياته الأدبية. وغالبا ما صنفه النقاد آنذاك في خانة (الجيل الضائع)، وهي تسمية من أجمل ما يكون. ما معنى شعر من دون تيه أو ضياع؟ وقد التقى به آنذاك الناقد هوف كبينير وخرج بالانطباع التالي: لقد شعرت فجأة بأني في حضرة الحداثة الشعرية والفنية! إنها متجسدة كليا في شخصه تماما كبقية المغامرين الذين يلقون بأنفسهم في متاهات التجريب الخلاق».
بين عامي 1900 - 1905 درس عزرا باوند الأدب المقارن في جامعة بنسلفانيا في نيويورك، ولكنه غادر أميركا إلى أوروبا عام 1908 وعمره لا يتجاوز الثالثة والعشرين؛ لأنه كان عاجزا عن التأقلم مع المجتمع الأميركي.
كان غريب الأطوار؛ أي شخصا لا امتثاليا ولا اجتماعيا. وهنا تكمن إحدى سمات المبدعين الكبار. هل كان بودلير متصالحا مع المجتمع؟ أو رامبو؟ أو هولدرلين؟ لقد جننوه.. وعاش في البندقية أولا، ولكنه لم يبق فيها إلا فترة قصيرة؛ إذ سرعان ما انتقل إلى لندن عاصمة الآداب الإنجليزية ومحجة كل شعراء أميركا وأدبائها في ذلك الزمان. وهناك التقى كبار الكتاب الإنجليز من أمثال: جيمس جويس، فورد مادوكس فورد، ويندهام لويس. وكان لا يزال ينتمي آنذاك إلى الحركة التصويرية، وهي حركة أدبية انخرطت في التجريب الشعري عن طريق استخدام لغة غنائية.
وكانت متأثرة بآداب الشرق الأقصى والشعر الياباني على وجه الخصوص. وكانت الجماعة التي تنتمي إلى هذه الحركة تنشر أعمالها في مجلة تدعى «الأناني». لاحظ هذا الاسم الاستفزازي ما أجمله! هل يمكن للمبدع أن يكون إلا أنانيا متقوقعا على ذاته؟ هل يمكن أن يكون إلا نرجسيا؟ وبعد أن التقى عزرا باوند النحات هنري غودييه برزيسكا، تشكلت الحركة «الدوامية» في الشعر الإنجليزي، وهي حركة تجريبية أيضا وقريبة من التيار المستقبلي في الشعر وتشكل آخر صرعة. وعموما فهي تركز على الكثافات الشعرية إلى أقصى حد ممكن.
ثم التقى عزرا باوند أثناء الحرب العالمية الأولى بالشاعر الكبير ويليام بتلر ييتس في آيرلندا، وأصبح سكرتيرا له، مثلما أن صموئيل بيكيت سيصبح سكرتيرا لجيمس جويس لاحقا. وفي عام 1914 تزوج باوند بالفنانة دورثي شكسبير. لاحظوا الاسم! وبعدئذ تعلم اللغة اليابانية وراح يهتم بالشعر الغنائي السائد في الشرق الأقصى. وفي عام 1915 ابتدأ بكتابة رائعته الأدبية «كانتوس»، أي أناشيد. وقد اشتغل عليها طيلة حياته كلها.
وبعدئذ جاءت المرحلة الباريسية من حياة عزرا باوند. وهل يمكن لأي مبدع في العالم ألا يمر بباريس يوما ما؟ ما معنى الشعر بلا بوهيمية أو تسكع في شوارع باريس إلى ما لا نهاية؟ ما معناه من دون مغازلات حرة ومناوشات؟ نعم في عام 1920 وصل عزرا باوند إلى باريس وانضم بسرعة إلى جماعة الأدباء والفنانين الباريسيين التي ولدت الحركة الدادائية أولا، فالسريالية ثانيا. وراح يستقبل في شقته الباريسية المتواضعة أهم الكتاب الفرنسيين من أمثال جان كوكتو، وأندريه بريتون، وبقية المجانين والمبدعين. وكان كريما جدا. ما معنى شاعر بخيل؟ كل الناس يمكن أن يكونوا بخلاء ما عدا الشاعر أو المجنون.
وقد شاءت الصدفة أن يكون همنغواي في باريس أيضا. وقد زاره في شقته التي كانت مفتوحة للجميع. وقد أثر عزرا باوند على إرنست همنغواي من الناحية الأدبية، فتحسن أسلوبه بفضل النصائح التي أسداها له، وهي نصائح لم يكن يلتزم بها هو دائما!
ويرى المؤلف أنه بفضل عزرا باوند اكتشف همنغواي أعمال الكتاب الجدد من أمثال ت. س. إليوت وجيمس جويس، هذا بالإضافة إلى الكلاسيكيين الكبار من أمثال فلوبير، وستندال، وهنري جيمس، إلخ. ومقابل هذه الخدمات الأدبية راح همنغواي يعطي عزرا باوند دروسا في المصارعة لتقوية عضلاته! وكان عزرا باوند يقول: الكتاب الجيدون هم أولئك الذين يستخدمون لغة فعالة، أي واضحة ودقيقة.
وكان يعتقد أن الأموال الضخمة التي جمعتها الكنائس المسيحية ينبغي أن توزع على الفنانين والشعراء والفلاسفة والعلماء الذين يكتشفون قوانين العالم ويقدمون خدمات جلى للبشرية. فهم أحق بها من المطارنة والكرادلة والباباوات والباشاوات العاطلين عن العمل.. ويمكن القول بأن عزرا باوند كان من أتباع الفيلسوف الصيني كونفوشيوس الذي علمنا مبادئ الدين المدني الذي حدد جيدا الواجبات الاجتماعية لكل شخص، بدءا من الإمبراطور وانتهاء بأصغر فلاح أو كناس في البلاد.
ولكن عزرا باوند ارتكب أكبر خطيئة في حياته عندما اعتقد أن الدولة الفاشية التي أسسها موسوليني في إيطاليا هي تجسيد لهذه الدولة المدنية التي حلم بها كونفوشيوس. ودفع ثمن هذه الخطيئة باهظا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. فقد حاكموه عام 1945 واعتبروه مريضا من الناحية العقلية. فسجنوه في مستشفى المجانين لمدة عشر سنوات أو أكثر. ورغم هذه السقطة الأخلاقية الكبرى فإن بعض النقاد يجدون فيه واحدا من أهم شعراء الغرب في القرن العشرين إن لم يكن أهمهم. فالكثيرون يضعونه من حيث المرتبة الشعرية فوق ت. س. إليوت. وقليلون هم شعراء الحداثة الذين كانوا يمتلكون طاقته الشعرية الخلاقة. فمن شعره تفوح رائحة الحرية كأقوى ما يكون.
هل نعلم أن عزرا باوند ترجم كل أنواع الشعر من الشرق الأقصى إلى أوروبا؟ وكان يبحث من خلال ذلك عن لغة شعرية كونية. ولذلك تعلم عدة لغات، وكان يعتقد أن شعر اليابان والصين والهند أقرب إلى البراءة والطبيعة ويعبر عنهما بشكل أفضل، ولذلك اهتم به كل الاهتمام. كان يبحث عما هو بدائي، عفوي، صادق في شعر هذه الأمم التي لم تفسدها الحداثة الصناعية بعد كما حصل لمجتمعات أوروبا وأميركا. كان يبحث عن البراءات المطلقة في الشعر. وما نفع الشعر إن لم يكن بحثا مضنيا عن البراءات الأولى؟ ما معناه إن لم يكن حفرا أركيولوجيا عن أعماق الذات، أي عن البراءات الضائعة، البراءات المطمورة في أعماق لا قرار لها؟ انظروا كتاب «الشعر والعمق» للناقد الفرنسي جان بيير ريشار حيث يستكشف «دهاليز» بودلير والطبقات السفلية التي نزل إليها، وهي مناطق مرعبة لم تطأها قدم قط.
والفكرة الأساسية لدى عزرا باوند هي أن العلاقات الكائنة بين الأشياء أهم من هذه الأشياء بالذات. ولكن ليس كل الناس يرونها. وحده الشاعر الكبير يراها.
وأخيرا يقول المؤلف بأن عزرا باوند هو شخص ولد في أعماق أميركا عام 1885، ولكنه طرد من الجامعات الأميركية بسبب رفضه للنزعة الامتثالية وميله إلى التفرد والتمرد كما ذكرنا. فذهب إلى إنجلترا حيث احتل مكانة مرموقة في عالم لندن الأدبي. وهناك راح يلبس القناع لكي يكتب أولى قصائده الشعرية ويخترع ما يدعى بالمدرسة التصويرية. وهي مذهب شعري حديث يدعو إلى التخلص من الأوزان والقوافي والتعبير عن الأفكار والانفعالات بواسطة الصور الواضحة الخالية من الغموض والرمزية. ومعلوم أنه كتب في شبابه الأول يقول: «سوف أكتب أعظم القصائد التي أتيح لمخلوق على وجه الأرض أن يكتبها». وهذا يذكرنا بكلام المعري:
«وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل»
وهذا ما حصل في الواقع. فقد كان من أوائل من استخدموا الشعر الحر وخرجوا على الأوزان والقوافي. وقد لعب دورا عظيما في اندلاع الثورة الشعرية الحديثة التي أثرت على الأدب الإنجليزي كله في القرن العشرين. وتمرده الشعري كان متوازيا مع تمرده النفسي والشخصي. فقد اشتهر باحتقاره للعادات والتقاليد السائدة في المجتمع وميله إلى الاستفزاز والخروج على المألوف. وهذا ما حبب السرياليين فيه. كان عاشقا للوثنية وكارها لأميركا التي تعبد الكتاب المقدس والدولار في آن معا!
وأخيرا، كان باوند، كما يقول، «مخطئا، مخطئا بنسبة تسعين في المائة، فقدت صوابي في الإعصار» (اعتذار متأخر عن تجربته الفاشية مع موسوليني).
لكنه لخص تجربة حياته بعبارة اعتزازية ولا أروع: «فشل يساوي كل نجاحات العصر»!
جون تايتل: «عزرا باوند.. البركان الوحيد»
ترجمه إلى الفرنسية فيليب ميكرياموس



من يكشف عن الغامض وراء قصة الستينيات الأدبية؟

جمعة اللامي
جمعة اللامي
TT

من يكشف عن الغامض وراء قصة الستينيات الأدبية؟

جمعة اللامي
جمعة اللامي

كان هناك جيلان متزامنان في العراق الحديث، تشكلا بعد عام 1958، الأول سياسي، جاء في سياق بواكير تشكيل الدولة الهجين، أحزاباً وزمراً عسكريةً، وتوّج أخيراً بأعتى ديكتاتورية في المنطقة، والثاني ثقافي وأدبي قصصي، خاض صراعاً تقنياً وفنياً في النفق الديكتاتوري نفسه، وجاء ضمن تدرّج وتطور الريادة القصصية في سبيل ترسيخ النوع الأدبي، وكلاهما في الغالب يشتركان معاً في قاعدة الحلم الثوري، وينطلقان منها في التعبير عن سلوكهما السياسي والأدبي.

من المفارقات شديدة اللبس والتعقيد أن النزاعات الشرسة للأحزاب والتنظيمات السياسية وألويتها الأدبية في ما بينها التي أعقبت العهد الجمهوري من 1958 وحتى عام 2003، ارتبطت عضوياً بصيغة الحلم الثوري الزائف بوصفه منهجاً آيديولوجياً صارماً، يمزج بين السعي إلى تسلم إدارة الحكم وتطبيق التصورات القومية والوطنية وإغواء حركة التحرر الدولية والأممية وما سمّي بالمعسكر الاشتراكي آنذاك، الحلم الذي يفرض على الأدباء أو نصوصهم، ولا يأبه من الجانب السياسي بالعنف أبداً مهما بلغ من تنكيل وقتل وإبادات ما دام الوصول للهدف وسدة الحكم هو الأول.

محمد خضير

بعد عقود من خوض التجربة المرّة، وصل العنف إلى ذراه في الصراع داخل الحلم الثوري نفسه في الغالب بين الأحزاب الثورية على وجه التحديد، سواء كانت في السلطة والمعارضة، أو قريبة منهما إلى الحد الذي شطر الأحلام الثورية في معادلة متوازنة ومتضادة ومنعكسة من العنف بينهما، بين سدة الحكم وأبواب السجون، فالاثنان الجلاد والضحية، ثوريان، يشتركان في تقمص الحلم نفسه وتبني فراديسه المنشودة وتبادل الأدوار بين السلطة والسجن، وكلاهما صادق في التعبير والسلوك، وربما كلاهما متواطئ مع الآخر في لعب الأدوار حتى أن السلوك العنفي والميليشياوي الذي تمارسه السلطة من وقت لآخر في تصفية خصومها الثوريين المعارضين على شاكلتها هو نفسه ما تمارسه الفئات المهيمنة للسجناء أنفسهم ضد بعضهم داخل أسوار السجن.

والواقع كان للجلاد أسماؤه الأدبية والثقافية المنظمّة معه مثلما كان للضحية أسماؤها التي لا تخفى، ومنهم من غادر دور الضحية وأصبح جلاداً، والعكس صحيح، وتظل قاعدة الحلم الثوري مشتركة بينهما.

في ظل هذه المفارقة الشرسة، ولد هذان الجيلان المتزامنان في الستينيات من القرن الماضي، أحدهما تمثل في ارتقاء الديكتاتورية، وثانيهما أدبي وثقافي لم يخرج عن الإجهاز الكلي على الأدب والثقافة من قبل السلطة قبل وأثناء ارتقاء الديكتاتورية، الأول، لم يتخط مخاضات القتل والتنكيل فقط إنما أوصلها إلى ذراها في الحروب والهجرة والحصارات الاقتصادية، والثاني، الجيل الأدبي الذي نشأ بين السلطة والمعارضة والسجن والمهجر وما بينهم، وشهد اصطفافاً واستقطاباً ضمنياً هنا وهناك.

في غضون ذلك، استطاع الجيل الستيني الأدبي أن يحيا ربيع النشر والانتشار في بداية السبعينات إذ كان عدد يسير من الأحزاب الثورية متحالفة بهشاشة مع السلطة، وتيسر لها عن طريق دور النشر الخاصة بها أن تصدر عدداً من المجاميع القصصية لأدباء يحسبون منها وسط احتراز ومراقبة السلطة.

وفي ظل هذه المعادلة السياسية للأدب، استفحلت أزمة هذا الجيل الأدبي والقصصي بالتعبير عن نفسه داخل المنظومة الحزبية، سواء في السلطة أو المعارضة، وشعر البعض من القاصين بأنهم سوف يفقدون النسق الإنساني كلياً في قصصهم طالما كان التعبير جارياً ومتعسفاً على وفق الحلم الثوري المنشود الذي هو مجرد تلقين لفكرة استشراف مستقبلي للناس والمجتمع، وشرعة أمل زائفة، وكان العمال والكادحون والفقراء هم إشارات سياسية ملقّنة أكثر منها مصائر واقعية في ظل مجتمع شبه تحولي بين الريف والمدينة.

جهاد مجيد

وللخروج من هذا المأزق، طفق القاصون والروائيون محمود جنداري وجمعة اللامي ومحمد خضير وجهاد مجيد وعبد الإله عبد الرزاق وآخرون، يستخدمون التشفير والتجريد والترميز والأسطرة والمكابدة الصوفية ومحاولة استيقاف الحاضر والمستقبل الزائفين والعودة إلى الماضي بوصفه منطقة تقنية آمنة لبناء قصصهم ورواياتهم.

وعبر تلك المناورة الأسلوبية البارعة، تمكن القاصون والروائيون من التسامي والتعالي على أزمتهم السياسية والفنية، واستطاعوا على نحو معين من تضليل الرقيب المؤسساتي ونشر نتاجهم وتلقيه على مستوى عام ومقبول داخل النفق الديكتاتوري نفسه.

ولعل هذه المناورة الأسلوبية، لم تكن نابعة عبر شكلها الطبيعي ضمن سياقات نشأة ونمو القص والروي في البلاد، وحسب قدر ما كانت تخفي خلفها كواليس وندوب تعرض هؤلاء الأدباء للتنكيل والاحتواء السياسي التي كانت تمارسه المؤسسات المتسلطة بمعنى أن التقنية التي نشرت فيها مجاميع مثل «المملكة السوداء» و«لأوفيليا جسد الأرض» و«الثلاثيات» و«حكايات دومة الجندل» وغيرها كثير، تتضمن مضمراً مستتراً من حجم صراعها الفني مع الرقيب السلطوي، وبحاجة إلى الكشف والتحليل بعد سقوط الرقيب، ولا يعني ذلك الاعتراف بل وضع المعادلة الأدبية في مواقعها الصحيحة بين المجتمع والثقافة وليس قاعدة الحلم الثوري واحتكار السلطة للأدب.

بعد عام 2003 الذي يمثل نهاية الجيل الستيني السياسي، وخروج الجيل الستيني الأدبي من نفقه المعتم، لم يستعد أحد من الأدباء الستينيين إلا في حدود ضئيلة المعادلة الواقعية للأدب الحقيقي بين المجتمع والسلطة، لم يلق أحد منهم أردية النفق الآيديولوجي الخانق ويعيد وصفها على نحو جديد، يتصل بالمرجع والمحيط الأدبي الاجتماعي والإنساني حين كانت السلطات تصادره باسم الحلم الثوري السائر في رسم هزيل للانعطافات المجتمعية الموهومة المقبلة، وما كانت المرحلة التي أسدلت الستار على هذا الجيل مجرد طور زمني عابر، يمكّن الأدباء الستينيين من التواصل والإنتاج بنفس القدرة السابقة.

وإذا كان الجيل السياسي على نحو عام قد تمخض عن دنس التجربة، فإن مخاض الطهر الأدبي لدى الأدباء على نحو عام أيضاً، يساويه في نتائج الخيبة والفشل العميقين لكل التجربة اليسارية عربياً ومحلياً طالما أصيب الحلم الثوري بالإخفاق المريع، وهذا ما جعل القاص والروائي إبراهيم أحمد «وبالرغم من أنه يحسب على جيل ما بعد الستينيين»، ينظر بنفور إلى سنين الدنس، ويصب جام غضبه على الفاعلين السياسيين، فيما كشف جمعة اللامي الكبير في كتابه «مذكرات السومري» التمزقات السياسية وممارسة العنف والتنكيل داخل السجون من قبل السجناء أنفسهم.

إنها دعوة إذن لكتابة المذكرات على نحو يزيح العتمات عن الغامض وراء قصة الستينيات العراقية. بعد 2003 لم يستعد أحد من الأدباء الستينيين إلا في حدود ضئيلة المعادلة الواقعية للأدب الحقيقي بين المجتمع والسلطة