شكسبير.. لماذا لا يزال معاصرًا لنا؟

جامعة أكسفورد تصدر كتابًا بمناسبة ذكرى رحيله

مشهد من مسرحية «ريتشارد الثالث» في عرض سويدي
مشهد من مسرحية «ريتشارد الثالث» في عرض سويدي
TT

شكسبير.. لماذا لا يزال معاصرًا لنا؟

مشهد من مسرحية «ريتشارد الثالث» في عرض سويدي
مشهد من مسرحية «ريتشارد الثالث» في عرض سويدي

كتاب جديد عن شكسبير؟ وهل بقي شيء لم يُقَل عن شاعر المسرح الإنجليزي الذي شغل الدنيا وملأ الناس؟ يبدو أن الآثار الأدبية الخالدة تزداد قيمة كلما مرت عليها السنون. ففي 25 أبريل (نيسان) 2016 احتفلت الأوساط الأدبية بالذكرى المئوية الرابعة لرحيل شكسبير (توفي في 25 أبريل 1616). وبهذه المناسبة أصدرت مطبعة جامعة أكسفورد كتابًا من تأليف ستانلي ويلز عنوانه «وليم شكسبير» في 125 صفحة من القطع الصغير. ولكنه على صغر حجمه كتاب عظيم القيمة بالغ الجاذبية يقدم عصارة عمر كامل من الخبرة والدرس.
Stanley Wells، William Shakespeare، Oxford University Press.
فمؤلف الكتاب ستانلي ويلز واحد من أكبر الثقات في المسرح الشكسبيري في عالم اليوم. إنه أستاذ في جامعة برمنغهام البريطانية، والمدير الشرفي لـ«مسرح شكسبير الملكي». وله عدد من المؤلفات من أحدثها: «شكسبير لكل العصور» (2002) و«شكسبير وشركاه» (2006) و«شكسبير والجنس والحب» (2010) و«ممثلو شكسبير العظماء» (2015).
يتألف الكتاب من ثمانية فصول يسبقها تصدير عنوانه «لماذا شكسبير؟» وينتهي بتعقيب وقائمة بأعمال الشاعر مرتبة تاريخيًا، وببليوغرافيا مختارة تذكر أهم طبعات أعماله والمراجع التي تتناول حياته ومصادر إلهامه والنقد المكتوب عنه وتجلياته على المسرح وشاشة السينما وتحقيق نصوصه ولغته وسياقه الاجتماعي والسياسي والثقافي.
لماذا شكسبير؟ يقول ويلز لأننا إذا أغفلنا أعماله حكمنا على أنفسنا بالحرمان من مصدر لا يضارع للثراء الذهني والروحي، وحددنا من قدرتنا على الاستجابة لكثير من مناطق الخبرة الإنسانية.
وفي الفصل الأول «شكسبير وستراتفورد أبون إبفون» يقدم المؤلف خلاصة لحياة شكسبير منذ مولده في قرية ستراتفورد بمقاطعة وركشير، وهي تقع على نهر إيفون حتى رحيله عن ثلاثة وخمسين عاما. ومن النواحي التي يتناولها هنا: تعليم شكسبير والمؤثرات الأدبية التي دخلت في تكوينه. لقد تعلم في صباه اللغة اللاتينية (وكذلك نتفًا من اليونانية) فغذى ذلك خياله وأمده بمادة خام لمسرحياته وسوناتاته وقصائده القصصية. إنه مثلا في مسرحية «ملهاة الأخطاء» يستوحي إحدى ملاهي الكاتب المسرحي الروماني بلاوتوس. وفي قصيدة «فينوس وأدونيس» يستوحي كتاب «مسخ الكائنات» للشاعر اللاتيني أوفيد. وفي مسرحيته «العاصفة» ينقل بعض كلمات كاتب المقالات الفرنسي مونتيني.
والفصل الثاني «المسرح في عصر شكسبير» يرسم صورة للمشهد المسرحي في عصر الملكة إليزابيث الأولى ثم في عصر الملك جيمز الأول الذي خلفها، ويبين كيف أن معمار المسرح حدد إلى حد كبير نوعية المسرحيات المقدمة عليه (كان المسرح يتكون من ثلاثة طوابق، وهو دائري أو متعدد الجوانب، مفتوح، رسم الدخول إليه لا يتجاوز بنسا واحدا للواقف وبنسين للجالس على مقعد. ليس هناك مناظر بالمعنى الحديث للكلمة ولكن الأزياء والمعدات المسرحية تلعب دورا مهما. كذلك يستخدم آلات موسيقية كالنفير والطبلة والكمان. ولكن أغلب نوتاته الموسيقية لم تصلنا للأسف).
أما الفصل الثالث «شكسبير في لندن» فيعرض لحياة الشاعر كاتبا مسرحيا وممثلا وارتباطاته بالفرق المسرحية في عصره وعلاقته بزملائه من الكتاب والممثلين وصلاته بالبلاط الملكي. ويحدثنا ويلز عن سوناتات شكسبير (السوناتة قصيدة مكونة من أربعة عشر بيتا تتبع نظامًا خاصًا في التقفية). وبعض هذه السوناتات موجه إلى سيدة والبعض الآخر إلى شاب وسيم.
ظهرت أول طبعة لأعمال شكسبير في عام 1623 وقسمت هذه الأعمال إلى ثلاثة أقسام: مسرحيات تاريخية، وملاه، ومآس. وسنتوقف هنا عند نموذج واحد لكل من هذه الأقسام (اخترت أن أتوقف عند مسرحياته الأقل شهرة، إذ لا يوجد شخص متعلم يجهل الروائع الشهيرة مثل «هاملت» و«عطيل» و«ماكبث» و«الملك لير»).
من أمثلة مسرحيات شكسبير التاريخية مسرحية «ريتشارد الثالث» (1594). وعموما يمكن القول إن هذه المسرحيات التاريخية تستمد مادتها من كتاب «السجلات التاريخية» للمؤرخ الإنجليزي رفاييل هولينشد. وتنم هذه المسرحيات عن وعي عميق بمشكلات السياسة ومسؤوليات الملك وعلاقته بشعبه والحاجة إلى وحدة قومية والعلاقة بين الصالح العام والمصلحة الفردية والمعاناة الناجمة عن الشقاق بين الأمم وبين الطوائف المختلفة في الأمة الواحدة وهو شقاق ينعكس على العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة سواء كانت من طبقة الملوك أو من الرجال والنساء العاديين.
ومسرحية «ريتشارد الثالث» مؤسسة على كتاب السير توماس مور «تاريخ الملك ريتشارد الثالث» إلى جانب كتابات هولينشد المؤرخ وإدوارد هول صاحب كتاب «اتحاد الأسرتين النبيلتين الشهيرتين: أسرتي لانكاستر ويورك».
إنها تشي بالتأثير القوي لمآسي الكاتب المسرحي الروماني سنيكا (القرن الأول قبل الميلاد) الحافلة بالأشباح والأساليب البلاغية ومشاهد العنف. فشكسبير يقدم مثلا طعن كلارنس (الفصل الأول، المشهد الرابع) على خشبة المسرح. والمشاهد الختامية من المسرحية تموج بالعنف. إن ريتشارد - الذي يوفر فرصًا هائلة لإبراز قدرات أي ممثل عظيم - يهيمن على خشبة المسرح. ويستبيح شكسبير لنفسه بعض الحريات في تناول مادته التاريخية. وتمتاز لغة المسرحية بوحدتها البلاغية وأنساق تعبيرها المؤسلبة.
ومن ملاهي شكسبير «خاب سعي العشاق» (1594 - 1595) وحبكتها من نسج خياله تماما إذ لم يعمد إلى استيحائها من أي مصادر سابقة. إنها ملهاة أفكار: فملك نافار يتعاهد مع ثلاثة من رجال بلاطه بايرون ولونجفيل ودومين - على أن ينبذوا مباهج الدنيا وأن يمتنعوا عن لقاء أي نساء وأن يكرسوا أنفسهم للدراسة في عزلة لمدة ثلاثة أعوام. اتخذوا قرارهم هذا دون أن يحسبوا حسابا لمقدم أميرة فرنسا إلى بلاطهم في بعثة دبلوماسية ومعها ثلاث سيدات من حاشيتها: روزالين وماريا وكاثرين. وينبع جزء كبير من الملهاة من محاولة كل رجل أن يخفي عن سائر الباقين وقوعه في حب إحدى السيدات ومن تنكر الرجال في زي روس يقدمون مسرحية لتسلية السيدات.
ومن مآسي شكسبير الباكرة مسرحية «تيتوس أندرونيكوس» (1592) التي يحتمل أن يكون قد كتبها بالاشتراك مع كاتب آخر من معاصريه هو جورج بيل. وتقع أحداث المسرحية في القرن الرابع قبل الميلاد وتروي قصة خيالية أغلب الظن أنها من بنات أفكار شكسبير وبيل. والمسرحية متأثرة بكتاب الشاعر الروماني أوفيد «مسخ الكائنات» من حيث الروح والأسلوب وبعض تفاصيل الحبكة. لاقت المسرحية نجاحا كبيرا في عصرها ولكنها عدت في العصر الحديث من أسوأ أعمال شكسبير، وذلك لجنوحها إلى البربرية الفظة وتوسلها إلى أدنى غرائز النظارة.
والمسرحية تروي قصة انتقام مزدوج. فتامورا، ملكة القوط، تسعى إلى الانتقام من تيتوس الذي أخذها أسيرة، وذلك لأنه سبق أن قتل ابنها. وتبلغ هدفها من الانتقام حين يعمد ابنان آخران لها إلى اغتصاب ابنة تيتوس وتشويهها بدنيا على نحو مريع. وفيما بعد يسعى تيتوس إلى الانتقام من تامورا ومن زوجها. وينتهي الأمر بتيتوس إلى الوقوع في هوة الجنون ولكنه يتمكن - بمعاونة أخيه وآخر من بقي حيا من أبنائه من ذبح حلوق أبناء تامورا وتقديمهم طعاما في وعاء لأمهم وقتل ابنته من لحمه ودمه تخلصًا من عارها وطعن تامورا حتى الموت. ولا يلبث تيتوس بدوره أن يلقى مصرعه قتلا. ويتولى الحكم إمبراطور جديد. ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين بدأت المسرحية - على ما تحفل به من فظائع ميلودرامية - تنال مزيدًا من التقدير إذ رأى فيها النقاد والمشاهدون انعكاسًا لبربرية العصر الحديث وما حفل به القرن الماضي من حروب وقسوة.
ويختم ويلز كتابه بقوله إن كتابات شكسبير قد اخترقت وعي الإنسانية عبر القرون. إنها قادرة على أن تبسط من آفاق خيالنا وتعيننا على فهم أنفسنا وأن تمس قلوبنا. إنها تتحدث عن الغرائز الإنسانية الأساسية من طموح ورغبة وحسد وكراهية وصداقة وتعاطف وحب. وهي قادرة على أن تسلينا وأن تدفع بالدموع إلى مآقينا في آن واحد. إن شكسبير - بكلمة واحدة - قد جاء ليبقى.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.