«الحرب العادلة».. أم «الدفاع المشروع»؟

مراجعة لمفهوم أجّج نيران الحروب الأصولية الغربية حول العالم

«الحرب العادلة».. أم «الدفاع المشروع»؟
TT

«الحرب العادلة».. أم «الدفاع المشروع»؟

«الحرب العادلة».. أم «الدفاع المشروع»؟

يبدو أنه بات على الغرب، وفي المقدمة منه المؤسسات الدينية الكبرى، كالكنيسة الرومانية الكاثوليكية، مراجعة مفاهيم سادت طوال قرون، بلغت خمسة عشر قرنًا، وذهب البعض إلى أنها كانت بشكل أو بآخر وراء إذكاء حالة الأصولية الدينية، تلك التي ترجمت لاحقًا في صوت وصورة حروب ما أنزل الله بها من سلطان، تبدأ من عند حدود الحروب الدينية، أو «حروب الفرنجة» كما أسماها العرب، وصولا إلى غزو أفغانستان والعراق، عطفًا على بقية المخططات التي تجري في الخفاء. في مقدمة تلك المفاهيم، يأتي الحديث عن مفهوم الحرب العادلة (Bellum Iustum). والشاهد أن فكرة «الحرب العادلة» استمدت أصولها وجذورها الفكرية من الطروحات التي ساقها العلامة والفيلسوف أوغسطينوس في موسوعته الخالدة «مدينة الله» (De Civitate Dei) ولاحقا بلورها العلامة الدومينيكاني الأشهر توما الأكويني في خلاصته اللاهوتية الشهيرة (Summa theologica).
فكرة «الحرب العادلة»، بعيدًا عن الإغراق في أعماق التحليلات اللاهوتية، تقوم على تبرير انخراط المسيحيين الغربيين في الحروب، وطالما وجدت أسباب عادلة تدعو إليها، وأن يكون الهدف منها إقامة السلام العادل.
والمؤكد أن أحاديث ونقاشات كثيرة دارت داخل المؤسسة الكاثوليكية، لا سيما بعد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962 - 1965) حول مفهوم «الحرب العادلة» وشروطها، والتمييز الواجب توافره للتفريق بين تلك العادلة وغير العادلة، ولقد تبلورت الرؤية النهائية لهذا المفهوم في كتاب التعليم المسيحي الجديد للكنيسة الرومانية الكاثوليكية الذي صدر عام 1997. والذي لخص مسألة استخدام قوة في البند (2309) وفيه بحسب النص «يجب التبصّر بدقة في الشروط الصارمة للدفاع المشروع بالقوة العسكرية». إن خطورة قرار كهذا تقتضي إخضاعه لشروط صارمة تتطلبها الشرعية الأخلاقية. فيجب في آن واحد «أن يكون الأذى الذي ألحقه المعتدي بالأمة أو بجماعة الأمم ثابتًا وخطيرًا وأكيدًا، وأن يتبين أن جميع الوسائل الأخرى لوضع بدائل مستحيلة أو غير نافعة، وأن تتوافر شروط جدية للنجاح، وألا يؤدي استعمال السلاح إلى شرور واضطرابات أخطر من الشر الذي يجب دفعه».
هل جرى التلاعب غربيًا، لا سيما من قبل الجماعات اليمينية والأصولية في الغرب، بهذا المفهوم لتبرير حروب غير عادلة بالمرة على أساس من «العدالة الأوغسطينية» إن جاز التعبير؟
الشاهد أن هذا بالفعل ما جرت به المقادير في الولايات المتحدة الأميركية على نحو خاص بعد الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر (أيلول) 2001. فقد اختطف «المحافظون الجدد» مفهوم «الحرب العادلة» وجعلوا من أفغانستان والعراق مجالا لتطبيقه. ولاحقا روج البعض لمفهوم «التدمير الخلاق»، الذي اصطلح لاحقا على تسميته «الفوضى الخلاقة» بوصفه تبعات للفكر نفسه، أي للحرب العادلة.
لم يتوقف الأمر هنا على القيادات السياسية أو العسكرية الأميركية من البيت الأبيض مرورا بالخارجية، وصولا إلى وزارة الدفاع (البنتاغون)، بل امتد المشهد ليشمل قطاعا واسعا ومؤثرا من المثقفين والإعلاميين وكبار الكتاب والفنانين الأميركيين. هؤلاء الذين أداروا بقوة «رأس الرئيس بوش»، عطفا على بقية الرأي العام الأميركي إلى جهة استخدام القوة، وإعلان «الحرب العادلة» ضد الدول التي جاء منها صنّاع الهجمات في ذلك الثلاثاء الحزين. ولقد كانت دعواهم تتصل في الشكل والمضمون بالتقسيم «المانوي» الخطير الذي أعاد «بوش الابن» التذكير به، أي «من معنا ومن علينا».. «محور الخير ومحور الشر». وكان لهذا الخطاب دوره الممتد حتى الساعة في إشعال العالم بحروب ذات مسحة أصولية، ظالمة بالمطلق، إذ لا تنطبق عليها الشروط المؤكدة سواء عند أوغسطينوس أو توما الأكويني، التي يمكن لنا أن نجملها في سطور قليلة، وإن كانت في الأصل تحتاج إلى مباحث واسعة وعريضة للتحليل والتفكيك، وفي المقدمة منها أن يكون الدفاع المسلح - لاحظ هنا أنه مفهوم دفاعي وليس حربا هجومية - شرعيا في بعض الحالات التالية:
* عندما تتعرض الكيانات السياسية والدولية لظلم واضح وبين يكون بمثابة حافز صريح وصارخ للدفاع المشروع.
* أن تكون كل الآليات السلمية قد استنفدت ووصل الأمر إلى طريق مسدود، وبات الأمل مفقودا في وقف الظلم المسلح من جانب المعتدي.
* أن تكون الخسائر التي تسببها عملية الدفاع المشروع أقل ظلما من الاعتداءات المسلحة التي يتوجب القضاء عليها.
* إن كان من المؤكد أن الدفاع سيؤدي لاحقًا إلى احترام قدسية حق الشعب المظلوم.
هل كانت الشروط السابقة متوافرة في الحروب الأميركية على أفغانستان والعراق وما بعدهما؟ المقطوع به أن «حروب بوش» العلنية، ومن بعدها «حروب أوباما» شبه السرية، لم يكن لها مبرر أو شرعية البتة مستمدة من طرح الحرب العادلة، فقد كانت ظالمة بالمطلق. وما الفورات والثورات الأصولية اللاحقة، لا سيما «داعش» وأخواته إلا ارتدادات يتحمل دعاة الحروب الظالمة وزرها. ولأن بوش وصحبه من «المحافظين الجدد» لم تكن لهم دلالة علي عملية التنقيب والحفر في المتن والأصول الفكرية، غاب عنهم على سبيل المثال، نص رسالة «أوغسطينوس» إلى الكونت بونيفاس، أمير مقاطعة نوميديا (الجزائر الحالية) في زمن الإمبراطورية الرومانية وفيه قوله:«عندما تجهز نفسك بالسلاح لخوض معركة عليك في المقام الأول أن تعلم أن شجاعتك المادية نفسها هي هبة من الله إليك. لهذا يتعين عليك ألا تستخدم هبة الله إياها بشكل خاطئ».. ويكمل: «يجب أن يكون السلام مرماك ومبتغاك، أما الحرب فما هي أمر اقتضته الضرورة إذا علمت هذا وعلمت به، أمكن لله آنذاك أن يخلصك من الضرورة ويشملك بالسلام... كن صانعا للسلام حتى وأنت في معمعان الحرب، فإنك بهذا ستكون في غزوك جالبا للسلام حتى لأولئك الذين انتصرت عليهم... وكما استعملت القوة لقهر المتمرد أو المعارض، عليك الآن أن تجنح إلى الرفق بالمهزوم، أو الأسير، خصوصا بعد أن استتبت الأمور، ولم يعد هناك خوف على تعكير صفو السلام». (الرسالة 189).
ولعل ما أشعل أوار «الحروب الأصولية» في الحال وما يشعلها في الاستقبال، يتصل اتصالاً وثيقًا بالحروب الأخيرة في المنطقة العربية، ناهيك عن نقل المعركة لا إلى قلب أوروبا فقط، بل إلى قلب المؤسسة الرومانية الكاثوليكية ذاتها. ولقد رأينا حتى وقت قريب جدًا بعض المواقف من قبلها، التي تتسق ومفهوم «الحروب العادلة». وقد كانت المواجهة مع «داعش» بنوع خاص هي السبب والمنطلق.
في أغسطس (آب) 2014 كان مراقب الكرسي الرسولي (الفاتيكان) لدى الأمم المتحدة، المونسنيور سالفاتوري توماسي، يعلن تأييد حاضرة الفاتيكان، بشكل جلي للضربات التي قررها الرئيس الأميركي باراك أوباما، ضد تنظيم داعش المتطرف في العراق وسوريا على نحو خاص. وعد أنه «ينبغي التدخل الآن قبل أن يفوت الأوان، فالمساعدة الإنسانية ضرورة، لكنها ليست كافية وحدها». وتابع: «قد يكون العمل العسكري ضروريًا» دون مزيد من الإيضاحات.
نحن هنا، ربما، إزاء تغير لموقف الفاتيكان بين 2003 و2013 - 2014... ولعل المرء يتذكر كيف أن البابا الراحل يوحنا بولس الثاني كان من أشد المناوئين لغزو العراق في 2003. حتى أنه أرسل إلى واشنطن مبعوثًا خاصًا، هو الكاردينال روجيه إيتشيغاراي، محاولا إقناع بوش بالعدول عن هذه الحرب، التي استشرف البابا الراحل مدى كارثيتها. وهو ما أثبتت الأيام صدقه. غير أن تزييف الحقائق، والأحادية الأصولية «البوشية» التي توهّمت امتلاك الحقيقة المطلقة، رفضت السماع وصُمّت آذانها وتعامت عيونها.
على أن الوضع في 2013 وحتى الساعة اختلف بشكل جذري، لا سيما في ضوء المذابح التي ارتكبها «الدواعش» ضد الأقليات الدينية في تلك الرقعة الجغرافية التعيسة من العالم العربي. وهذا ما تمثل في الكلمة التي ألقاها الكاردينال بيترو بارولين، أمين سر دولة الفاتيكان (رئيس الوزراء في حكومة الكوريا الرومانية)، أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة في أكتوبر (تشرين الأول) 2014. ففي كلمته تحدث عن «الاستخدام المناسب للقوة»، بوصفه إحدى الوسائل الممكنة «لإيقاف العدوان، الذي يمارسه مسلحو (داعش)»، وعليه، بدأ المراقبون في التساؤل عن هذا النهج الفاتيكاني، وهل يعني إحياء لمفهوم «الحرب العادلة، من جديد أو أن الأمر لا بد أن يقرأ بعين مغايرة لما جرت به المقادير التاريخية من قبل؟
الذي لاشك فيه أن الكاردينال بارولين - الرجل الثاني في الفاتيكان بعد البابا - كان قد ألقى نصف مداخلته التي تناول فيها عرضا للأشكال الجديدة، التي يكتسبها الإرهاب وطبيعته التي أضحت «عابرة للشعوب» والدول. ولقد حاول أن يوضح جذور هذا الإرهاب، والخطر الذي يشكله اليوم، حتى على النظم القانونية الدولية، مؤكدا أهمية حل هذه المشكلات من جذورها، ومذكرا بأن «هناك أولا سبيل تعزيز الحوار والتفاهم المتبادل بين الثقافات، الذي تتضمنه بصورة ضمنية مقدمة ميثاق الأمم المتحدة ومادتها الأولى».
لم تكن مداخلة بارولين إحياء لفكر «الحرب العادلة» بقدر ما هو إحياء مبدأ «الدفاع الشرعي». فالفاتيكان يرجو بشكل كبير أن يتوصل المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤوليته في دراسة جميع الآليات التي ستسمح بوقف العدوان، وتفادي ظهور أشكال جديدة من العنف قد تكون أكثر خطرًا. ولتأكيد نبذ الفاتيكان للعنف، شدد على أنه «حتى وإن كان مصطلح مسؤولية (تأمين الحماية) موجودًا في صورة ضمنية ضمن ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي الإنساني، فإنه لا يشجع بصورة خاصة على اللجوء إلى الأسلحة». وعليه فإنه يمكن فهم رؤية المؤسسة الكاثوليكية الرومانية في إطار واحد، وهو أن «الهدف من مقاومة العدوان هو دائما البحث عن السلام».
غير أن المتابع لمجريات الأحداث في حاضرة الفاتيكان في الأسابيع القليلة الماضية، يستطيع أن يرصد حالة من حالات القلق والتساؤلات الإيجابية لجهة مستقبل العالم ما بين «الحرب العادلة»، و«الدفاع المشروع». ومردّ ذلك الخوف من تنامي دعوات الأصولية والكراهية غربا أو شرقًا، التي تترجم في صورة حروب مسلحة ونزاعات دموية تفقد البشرية سلامها. في الداخل الفاتيكاني، اجتمع في الفترة من الحادي عشر إلى الثالث عشر من أبريل (نيسان) الماضي ثمانون خبيرًا في «النضال السلمي»، والهدف من لقائهم البحث في طرق معالجة الأزمات العالمية الحديثة، وإعادة النظر بشكل خاص في مفهوم وعقيدة «الحرب العادلة».
هذا اللقاء، كما تشير مصادر مقربة من الدوائر القائمة على الأمر في قلب الكنيسة الكاثوليكية، يهدف للمرة الأولى في التاريخ إلى رفض أي مبررات أخلاقية تشرّع الحروب، الأمر الذي يعد في حد ذاته شكلا من أشكال «الثورة اللاهوتية التصحيحية» داخل هذه المؤسسة الكبيرة، وعملا امتداديا لرؤية التصحيح والتجديد التي أطلق شرارتها المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، ما جعل كثيرين يعتقدون أن هناك الآن حالة جديدة وجدية من المراجعة العصرانية للمفاهيم الكنسية، تعود إلى الماضي، لتقفز منه إلى الحاضر.
شهدت جلسات اللقاءات تجاذبات واسعة للمشتركين من بلدان مختلفة، جلها تعيش أزمات الصراع المسلح الداخلي والأهلي، منها تشيلي وسريلانكا وجنوب السودان وفلسطين. ولقد طرحت في أربع جلسات موضوعات «تجارب اللاعنف» و«أسلوب السيد المسيح اللاعنفي» و«إشكالية اللاعنف والسلام العادل»، وأخيرا «تجاوز الحروب التي لا تنتهي».
يعني هذا اللقاء المهم، بغير اختصار مخل، أننا أمام مؤسسة دينية غربية عالمية، تحاول إحياء عملية المراجعة والتصحيح من الداخل، لوقف التصاعد الأصولي المرير، الذي يمكن أن يشعل الأرض من جديد بحروب كونية. وهذا اتجاه يعززه وجود بابا فقير آتٍ من دول أميركا اللاتينية، التي عاشت، ولا تزال، خبرات أليمة للحروب الداخلية والخارجية، لا سيما أنه في مقدمة الداعين لنزع فتيل الحرب الكونية المجزأة التي يعيشها العالم في حاضرات أيامنا.
البابا فرنسيس الأول، بابا روما، وجه رسالة للمشاركين في اللقاء الذي نحن بصدده، الذي جاء عنوانه «لا يجتمع العنف مع السلام العادل... عزروا التفاهم الكاثوليكي والالتزام باللاعنف»، أشار فيها إلى طروحات ثلاث، ربما يقدر لها أن تقطع الطريق علي الحرب الماضية قدما لجهة الانفجار العالمي، ويمكن أن نطلق عليها مسارات ثلاثة لعالم خال من الأصوليات المتصادمة، والنزاعات المدمرة.
أما المسار الأول فمراده تعزيز اللقاء والالتقاء بين البشر من مشارق الأرض إلى مغاربها، والمسار الثاني قوامه مصالحة الشعوب بين بعضها بعضا، وطرح الخصامات والعداوات إلى الوراء، أما المسار الثالث فيسعى إلى تعزيز العدالة.
ومن هنا، فإن «اللقاء والمصالحة والعدالة» حكما سيكون أداة مولدة لقوى إيجابية، تباعد بين البشر ومفاهيم الحرب. وهذه ثورة روحية في واقع الأمر تتجاوز فكرة «الحرب العادلة» وتقفز على مبدأ «الدفاع المشروع، ثورة تدعو لمصالحة الشعوب من مختلف الثقافات، ثورة تواكبها حركة من حركات النضالات المجتمعية الإيجابية من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في زمن العولمة المتوحشة والرأسمالية التي سلعت الإنسان».
وباختصار القول، فإن الاتجاه، الذي ستتبلور معالمه عما قريب في شكل رؤية ومفهوم رسمي للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، أجمله البابا فرانسيس في أمرين، في غاية كبيرة من الأهمية، الأول: هو أن إلغاء الحرب هو الهدف الأسمى الذي يعيد للفرد كرامته وللجماعة كلها كيانها.
والثاني: هو أن رفض أو إخفاء الصراعات أمر غير مجدٍ، وعلينا إذًا أن ننتبه إلى ضرورة عدم الوقوع في الشرك وفقدان الرؤية العامة للوقائع، إنه السبيل الوحيد لإيجاد الحلول.



«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».