في الوقت الذي تحاصر فيه المخاوف منطقة اليورو من زيادة التحديات الاقتصادية والسياسية على حد سواء، تتسارع وتيرة النمو الاقتصادي في المنطقة في الربع الأول من العام الحالي، الأمر الذي يجعل هذه القفزة تأتي في وقتها المناسب، نظرا لتصاعد وتيرة مخاوف الاستفتاء البريطاني وعدم اليقين السياسي في إسبانيا وتجدد التوترات في اليونان.
وحققت منطقة اليورو تقدما بنحو 0.6 في المائة خلال الفصل الأول من العام الحالي، وهو أسرع معدل نمو في الناتج المحلي منذ الربع الأول من عام 2015 على أساس ربع سنوي، مقارنة بنسبة 0.3 في المائة في الربع الأخير من العام الماضي، وحققت منطقة العملة الموحدة نموا بنحو 1.6 في المائة على أساس سنوي.
ووفقا لمكتب الإحصاء الأوروبي (يوروستات) في بيانه أول من أمس، فإن هذه النسبة المُعبرة عن الفترة الممتدة بين يناير (كانون الثاني) حتى مارس (آذار)، أفضل مما كان يتوقعه المحللون الذين كانوا يتوقعون نموا بنحو 0.4 في المائة فقط. ويرى توماس هولكن، المحلل الاقتصادي المختص بشؤون منطقة اليورو، أن اقتصاد المنطقة في وضع أفضل هذا العام مما كان متوقعا، خصوصا بعد مخاوف تدفق اللاجئين.
وقال في تعليقه لـ«الشرق الأوسط» إن سوق العمل ستشهد زخما قويا هذا العام، مؤكدا أن الارتفاع في النمو الفرنسي سيساعد الرئيس فرنسوا هولاند في مسيرته الانتخابية المقبلة. واحتوى تقرير «يوروستات» على بيانات أقل من المعتاد، واعتاد المكتب الإحصائي تقديم توقعاته خلال الـ30 يوما الأخيرة في كل فصل، وليس من المعتاد أن يقدم تقريره بعد 45 يوما من نهاية الربع.
وقال المكتب الإحصائي إنه اعتبارا من الجمعة ستكون فترات تقدير النمو أقل، وسيبدأ المكتب بنشر تقديرات أولية سريعة لإجمالي الناتج الداخلي خلال 30 يوما قبل انتهاء الفصل المرجعي، على أن يُنشر تقدير ثان سريع لإجمالي الناتج الداخلي في غضون 45 يومًا بعد انتهاء الفصل المرجعي، وسينشر المكتب المعلومات المعهودة عن كل دولة عضو في منطقة العملة الموحدة (اليورو).
من ناحية أخرى، ساد التفاؤل في أوساط أسواق المال، نتيجة لبيانات النمو التي رجحت من نجاح خطط رئيس المركزي الأوروبي التي طالما شكك فيها الكثيرون. ورفع سويس بنك من توقعاته لنمو منطقة اليورو هذا العام إلى 1.6 في المائة من 1.4 في المائة سابقا، وقال البنك في بيانه أمس، إن بيانات النمو جاءت مفاجأة إيجابية عند النظر إلى البيئة الخارجية الصعبة منذ بداية العام.
ويتزامن هذا الارتفاع في النمو مع انخفاضات كبيرة في سوق الأسهم ومخاوف بشأن النمو في الولايات المتحدة والصين وكثير من الأسواق الناشئة، وتراجع ثقة المستهلكين والخروج المحتمل لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في حين تعاني الولايات المتحدة من قوة الدولار، بينما شهد اليورو أمس تسارعا ملحوظا. ومن بين المؤشرات الإيجابية التي تخفف من حدة المخاوف والقلق، كان تراجع معدلات البطالة في منطقة العملة الأوروبية الموحدة إلى 10.2 في المائة في مارس الماضي، وهو أدنى معدل منذ قرابة الخمسة أعوام، مما خالف التوقعات بثبات المعدل عند 10.4 في الربع الأول. ويأتي هذا التحسن في نسب البطالة الأوروبية عاملا مطمئنا (إلى حد ما) وسط توترات كبرى تتصل بالركود العالمي، وترقب استفتاء بريطانيا في الشهر المقبل حول الانفصال من أوروبا، إلى جانب «المشهد اليوناني» المضطرب.
ولعل المقارنة مع نسب البطالة في الولايات المتحدة عن الفترة ذاتها تعد مؤشرا جيدا لأوروبا، حيث أظهرت الإحصاءات الأخيرة ارتفاع معدل البطالة إلى 5 في المائة في مارس، من 4.9 في المائة في فبراير (شباط)، على عكس التحسن الذي ظهر بقوة في منطقة اليورو.
وحققت منطقة اليورو بعض النجاح في خفض معدلات البطالة، بعدما شهدت ارتفاعا بشكل غير مسبوق عام 2013، حين بلغت معدلا قياسيا وصل إلى 12.1 في المائة.
وعلى الرغم من الانخفاض الذي شهدته معدلات البطالة، فإن كثيرًا من المراقبين ما زالوا يعتقدون أن المعدلات الحالية ما زالت مرتفعة على نحو غير مقبول. وفي الوقت ذاته، ذكر «يوروستات» أن عدد العاطلين عن العمل في منطقة اليورو، التي تضم 19 دولة، تراجع بواقع 226 ألف شخص في مارس، حيث انخفض إجمالي عدد العاطلين إلى 16.4 مليون شخص.
وسجلت جمهورية التشيك أقل معدل بطالة بنحو 4.1 في المائة، ثم ألمانيا بنحو 2.4 في المائة، بينما سجلت اليونان أعلى معدل بطالة في يناير بنحو 24.4 في المائة. ولا تتوافر أرقام حاليا وفقا لمكتب الإحصاء لشهري فبراير ومارس، بينما سجلت فرنسا، ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، معدل بطالة 10 في المائة في مارس، وعلى مستوى البلدان الـ28 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بلغت نسبة البطالة 8.8 في المائة في مارس لتتراجع من 9.8 في المائة في فبراير.
وفي سياق ذي صلة، تراجعت أسعار السلع والخدمات في منطقة العملة الأوروبية الموحدة في أبريل (نيسان) الحالي بنسبة 0.2 في المائة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي لتصبح أقل من صفر في المائة للمرة الثانية هذا العام، في ظل تراجع أسعار الطاقة.
وتأتي هذه البيانات في الوقت الذي يسعى فيه البنك المركزي الأوروبي لزيادة أسعار المستهلك ورفع معدلات التضخم إلى المعدل السنوي المستهدف، الذي يبلغ أدنى من 2 في المائة بفارق طفيف.
وأظهر بيان «يوروستات» أن تراجع معدلات التضخم في أبريل الماضي، جاء مدفوعا بانخفاض أسعار الطاقة.
وكان رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي قد أثار في وقت سابق الشهر الماضي احتمال طرح حزمة جديدة من إجراءات التحفيز النقدي من أجل دعم التضخم والنمو الاقتصادي. وكانت معدلات التضخم في منطقة اليورو قد تراجعت إلى أدنى من صفر في المائة في فبراير الماضي.
في غضون ذلك، أعرب المفاوضون الأميركيون والأوروبيون بعد محادثاتهم في نيويورك مساء الجمعة عن أملهم في التوصل إلى اتفاقية «الشراكة التجارية والاستثمارية عبر الأطلسي» بين الجانبين خلال العام الحالي، رغم الصعوبات القائمة، مثل المعارضة الشعبية للاتفاقية والاستعدادات للانتخابات الأميركية الرئاسية والنيابية والاستفتاء البريطاني على البقاء في الاتحاد الأوروبي.
ويضاف إلى تلك العقبات ضغوط أخرى تتعلق بـ«عدالة الاتفاقية»، حيث تتصاعد أصوات في الإدارات الأوروبية، لعل أعلاها صدى يصدر من فرنسا، التي ترى على المستوى الرسمي أنه «لا يوجد أي داع للتعجل في إبرام اتفاقية قد تضر بالمصالح الأوروبية».
وبحسب المحللين، فإن المعارضة الفرنسية تنصب على كون باريس ترى أنها ستكون الجانب الأضعف في حال إتمام الشراكة الأورو - أميركية، إذ إن الصناعة الفرنسية تعتمد بشكل كبير على التصدير إلى الأسواق الأوروبية، وهو ما سيجد تحديًا بالغًا، وقد تراجع كبير إذا فتحت أوروبا أبوابها للواردات الأميركية «مخصومة من الضرائب والرسوم الجمركية»، وهي العوامل التي قد تقضي على القدرة التنافسية للصناعة الفرنسية في عقر دارها.
على الجانب الآخر، تبدو ألمانيا في طليعة الدول التي تدعم المضي قدما في الاتفاقية، ويرى المحللون أن الموقف الألماني مختلف عن نظيره الفرنسي، نظرا لطبيعة الصناعة والمنتجات الألمانية، التي لن تجد منافسة قوية «إلى هذا الحد» من نظيرتها عبر المتوسط، بل الأكثر أن الصناعات الألمانية قد توسع أسواقها بداخل الولايات المتحدة بعد تطبيق اتفاقية للإعفاءات، وهو الأمر الذي لا توجد له أي «نافذة» أمل من الجانب الفرنسي.
ومساء الجمعة، قال إغناسيو غارسيا بيرسيرو، رئيس فريق التفاوض الممثل للاتحاد الأوروبي للصحافيين: «مستعدون للعمل بجد لإتمام هذه المفاوضات خلال عام 2016، لكن بشرط أن يكون جوهر الاتفاق صحيحا». كما أوضح دان مولاني، المفاوض الأميركي، أمله في التوصل إلى اتفاق إذا تواصلت المفاوضات المكثفة وتوافرت إرادة سياسية كافية.
تواجه اتفاقية «الشراكة التجارية والاستثمارية عبر الأطلسي» معارضة شعبية قوية من جانب الأميركيين والأوروبيين، حيث أصبح الحديث المناوئ لاتفاقيات التجارة الحرة يحتل مساحة كبيرة بين مرشحي الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الانتخابات التمهيدية لانتخابات الرئاسة الأميركية المقررة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
ويشكك المراقبون في إمكانية التوصل إلى الاتفاقية خلال عام الانتخابات الأميركية، لكن الرئيس الأميركي باراك أوباما جعل التجارة عنصرا أساسيا في جدول أعماله خلال الشهور المتبقية من حكمه. وقد دفع من أجل التوصل إلى الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي خلال وجوده في ألمانيا قبل أيام لحضور معرض تجاري دولي برفقة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
ويقول معارضو الاتفاقية إنها ستؤدي إلى تقليص إجراءات حماية المستهلك وتتيح للشركات وقف العمل بالقواعد التي لا تناسبها. لكن مؤيدي الاتفاقية يقولون إنها ستؤدي إلى قيام أكبر منطقة تجارة حرة في العالم، تضم 800 مليون نسمة، وإنها ستؤدي إلى تعزيز النمو الاقتصادي والوظائف.
يذكر أن الاتفاقية الأميركية الأوروبية تتعثر بسبب مخاوف من أنه قد يسمح للشركات بالتهرب من القوانين الوطنية في دول الاتحاد الأوروبي. ومن النقاط المثيرة للخلاف ما يُسمى ببند تسوية النزاع بين المستثمر والدولة، الذي يوجد في الكثير من اتفاقيات التجارة الحرة ويوضح كيفية التعامل في النزاعات بين الشركات والحكومات الوطنية.
كما يذكر أن اتفاقية الشراكة التجارية والاستثمارية عبر المحيط الأطلسي تحتاج إلى موافقة أعضاء البرلمان الأوروبي والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي قبل أن يتم تقديمها إلى واشنطن، في إطار عمل المفاوضات المستمرة.
أوروبا تبدد جانبًا من مخاوفها عبر «نمو غير متوقع»
البطالة تنخفض أوروبيًا وترتفع أميركيًا بالتزامن مع محاولات إنعاش «الشراكة الأطلسية»
أوروبا تبدد جانبًا من مخاوفها عبر «نمو غير متوقع»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة