إبراهيم عبد المجيد يختزل تجربته الإبداعية في «ما وراء الكتابة»

يتسلم اليوم جائزة الشيخ زايد للآداب

إبراهيم عبد المجيد   -   غلاف الكتاب
إبراهيم عبد المجيد - غلاف الكتاب
TT

إبراهيم عبد المجيد يختزل تجربته الإبداعية في «ما وراء الكتابة»

إبراهيم عبد المجيد   -   غلاف الكتاب
إبراهيم عبد المجيد - غلاف الكتاب

قليلة هي الكتابات التي يكشف فيها الروائيون عن ملابسات كتاباتهم للروايات وصراعهم مع الأفكار أو انطباعاتهم عنها، ولعل أشهر الكتب في هذا المجال ما كتبه الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو عن تجربته الإبداعية في كتابيه «آليات الكتابة السردية»، و«اعترافات روائي ناشئ»، إلا أن كتاب الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد «ما وراء الكتابة: تجربتي مع الإبداع»، وهو من إصدارات الدار المصرية اللبنانية لعام 2014، يُعتبر من التجارب القليلة التي يبوح فيها كاتب عربي بخبايا وطقوس وملابسات كتابته لأعماله الروائية كاملة، وهو الكتاب الذي فاز عنه عبد المجيد بجائزة الشيخ زايد للآداب، التي يتسلمها اليوم (الأحد).
وجاء في حيثيات الجائزة: «سيرة تتناول بالعرض التحليلي الملابسات التي شكلت أعمال إبراهيم عبد المجيد الروائية، والكتاب يعرض لهذه الأبعاد التي تبيّن الجذور الواقعية الأولى لهذه الأعمال الروائية، وتكشف العلاقة بين الواقع والمتخيّل، وهو شهادة إبداعية موسَّعة عابرة للأجناس الأدبية، تعبر عن الحوارية والتعددية التي تستمد جماليتها من مختلف الأجناس».
وكانت في مصر تجربة مماثلة في سبعينات القرن الماضي للروائي فتحي أبو الفضل، في كتابه «رحلتي مع الرواية» الصادر ضمن سلسلة «كتابك» عن دار المعارف، وضع فيها حصاد تجربته مع الإبداع منذ عام 1938.
«ما وراء الكتابة» الواقع في 334 ورقة من القطع المتوسط، يجسد لنا بالتفصيل الحالات الروحية التي مر بها الكاتب من مرحلة تخيل الرواية إلى المجهود العقلي الذي يبذله، وهو يعيش حالة انفصال عن عالمنا الواقعي، منهمكًا في حالته الروائية. وهو يوضح كيف تنعكس فترة كتابة الرواية على معاني النص وطبيعة اللغة، ويتطرق لقراءاته الأدبية في تلك الفترة وكيف تفاعل وجدانيا وأدبيا مع ما عاشه من أحداث سياسية أو موجات أدبية، وبهذا يضعنا عبد المجيد في حالة توحد مع نصوصه، وكأنها رواية داخل الرواية، أو توثيق لذاكرة رواياته.
يناقش عبد تجربته الروائية، بعد أن وصل إلى مرحلة الرضا عن ماضيه الأدبي، كما يستعرض ذاكرته الروائية والتقنيات التي استعان بها في رواياته، فهي تارة استحضار الزمن، وتارة الاستعانة بالوثائق وأرشيف الصحف، ويقص كيف خاض تجربة جديدة بالكتابة عن الواقع الافتراضي «في كل أسبوع يوم جمعة». نقرأ أيضًا صفحات عن مصارعته نفسه أثناء عملية خلق الشخصيات والأبطال، وأثر ذلك على الكاتب نفسه.. كيف يتألم ويدمن على مسكنات الألم. ويعرفنا في رحلته على كيفية استلهام أسماء قصصه ورواياته، وعلى عالمه المغموس بروح الإسكندرية على مدى 35 سنة.
وبطريقة مبسطة كما هي كتاباته، تحدث المؤلف عن المغزى من تأليفه هذا الكتاب: «كنت كتبت هذا الكتاب أول مرة بعد أن صدرت روايتي (طيور العنبر) عام 2000، وكنت أشعر أنه بروفة لكتاب أكثر تفصيلا، ولم أكن أيضًا أصدرت الروايات التالية لطيور العنبر. كما لم أكتب أيضًا عن كل الروايات الصادرة قبلها.. أردت فقط وقتها أن أقدم للحياة الأدبية فكرة جديدة، ليست هي بالمذكرات ولا السيرة الشخصية للكاتب، أكثر مما هي سيرة للكتابة نفسها وللكاتب معها».
قُسم الكتاب إلى أربعة أقسام، القسم الأول عن الروايات الأربع الأولى في مسيرة عبد المجيد السردية، وهي: «المسافات»، «الصياد واليمام»، «ليلة العشق والدم»، «بيت الياسمين».. نتعرف هنا على تكوين عبد المجيد الثقافي وميوله السياسية ومشاركته في المظاهرات الطلابية، بل ونلمس كيف تبدلت قراءاته وجمعت بين الفلسفة والتصوف والماركسية والشعر والأدب الغربي والعربي «كنت انتهيت من قراءة رواية (ليس في رصيف الأزهار من يجيب) للكاتب الجزائري مالك حداد. وظللت لأيام لا أرى العالم من حولي. ظللت غائبا في سحرها. رواية صغيرة لكنها عظيمة تركت في نفسي رغبة عارمة في الكتابة وإعادة صياغة العالم» (ص73). ويستكمل كواليس رواية «بيت الياسمين»: «وبينما أجلس في مقهى ريش جاءتني فكرة أن أقدم لكل فصل بحكاية خرافية أو عجائبية، ليس مهما أن يكون لها علاقة بالفصل نفسه. لكنها تثير أسئلة القارئ عن العلاقة وتتسع الرؤية لأكثر من تفسير».
في القسم الثاني «الكتابة عن الإسكندرية»، يأخذنا عبد المجيد لأسرار كتابته عن معشوقته الإسكندرية، فجاءت كواليس ما وراء ثلاثيته الشهيرة: «لا أحد ينام في الإسكندرية»، و«طيور العنبر»، «الإسكندرية في غيمة»، وكأنها قصيدة نثرية من فرط ما تثيره من حنين الكاتب لمدينته، وما يفعله عشق المكان بالعاشق.. «ليست الكتابة عن الإسكندرية بالأمر السهل، فهي ليست مجرد مدينة ممتدة تتحرك فيها الشخصيات، بقدر ما هي حالة وجودية ليس أولها الحزن وليس آخرها الثورة! إنها بلورة سحرية تعطيك من كل ناحية عشرات الصور» (ص86 - 87).
ويفسر عبد المجيد أثر الإسكندرية في أدب نجيب محفوظ وكيف دفعته للتجديد، ويمد الحديث عن إدوارد الخراط وروبير سوليه وهاري تزالاس وتسيركاس من بعد حديثه عن داريل وكفافيس وفورستر، قائلا: «أن تكون حرا وتعيد بناء العالم على هواك.. سمة أخرى مما نسميه السكندرية» (ص88).
وعن أجواء «لا أحد ينام في الإسكندرية»: «كنت أعرف أنني سأكتب رواية مختلفة. وسأجد نفسي في قلب التسامح الذي شكل حياة البشر في المدينة عبر التاريخ. وتحت الموت والدمار أيضا. لكن هذه المعرفة بتاريخ المدينة التي كانت باعثا على الكتابة كما كانت الذكريات لا تغني عن محاولة الذهاب إلى هناك إلى زمان الرواية نفسه ومكانها إلى عام 1939 حين بدأت الحرب العالمية وحتى نهاية 1942، حين انهزمت جيوش المحور في العلمين وانسحبت من أفريقيا كلها.. الحياة اليومية هي حياة الرواية.. وبدأت رحلتي مع الصحف وبالذات صحيفة (الأهرام).. قرأتها يوما بيوم منذ 1939 حتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) 1942.. كان انشغالي بالأحداث الكبرى أجل، وبالأشياء الصغرى والعادية بل والغريبة. وهكذا رحت أدون ما أراه مناسبا للرواية من وقائع سياسية وحربية والأهم هو الحياة اليومية للمصريين عامة والإسكندريين خاصة» (ص110 - 111).
ويأتي القسم الثالث ليتناول روايات «ما وراء برج العذراء»، «عتبات البهجة»، «في كل أسبوع يوم جمعة»، وعن رواية عتبات البهجة التي دارت أحداثها في القاهرة، يقول: «أعجب ما في هذه الرواية أنني بعد أن تقدمت في كتابتها في المرة الثانية وجدت نفسي أقفز على فصلين لا أكتبهما، وأنتقل للفصل التالي لكل منهما. إذن صرت على يقين أنني سأكتبها وتكتبني» (ص259).
«كانت الرواية كلها تقريبا مواقف لا يصل البطل إلى نهايتها. تنتهي على عكس ما أراد وبسرعة.كل شيء. الحب والجنس. وغيرها» (ص263). وعن اختيار عنوان «في كل أسبوع يوم جمعة}، يقول: «لأن يوم الجمعة في التراث العربي يوم صعب. هو يوم قتل المسيح. ويقال إنه يوم قتل الحسين ويوم خلق آدم، يوم خروج آدم من الجنة، وفيه تقوم الساعة.. هو يوم النهايات والبدايات ويقال في الأدب الشعبي المصري إن به ساعة نحس!» (ص275).
وتحت عنوان «هنا القاهرة.. أخيرا أحببتها»، تحدث فيه صاحب «البلدة الأخرى» عن مدينة القاهرة التي تركها تنجرف بين وجدانه بصخبها وكان يتناسى أنه كتب عنها، ويقول عن أجواء رواية «هنا القاهرة» التي تأثر خلالها بثورة يناير (كانون الثاني) 2011: «لم أجد مشكلة أن تكون الرواية بضمير المتكلم. بل ربما جعلها ضمير المتكلم أكثر حميمية لي أثناء الكتابة. لكن كعادتي وحبي الكبير صارت الغرائب هي الحقائق. كنت أبحث عن غرائب تفوق ما عشناه، ومن ثم تسللت مع شخصيات الرواية أحداث لم نعشها ومواقف لم تحدث لنا» (ص287).
أما القسم الرابع والأخير، فيجيب فيه عن تساؤل ربما قفز إلى ذهن القارئ على مر صفحات الكتاب: هل يختلف ما وراء القصص القصيرة عن الرواية؟ فيجيب: «من المؤكد أنه يختلف فهو من البداية يحدد نفسه في قالب القصة القصيرة. إحساس عميق حقًا، وقد يكون أعمق في إلحاحه على الروح، لكنه كما يأتي يخرج بنفس السرعة. المسافة الزمنية بين ميلاده في الروح وبعثه على الورق أقل مما يحدث في الرواية طبعا. هذه تمشي معك حلما وكتابة لسنوات وسنوات» (ص309). تنوعت قصص عبد المجيد منذ أن كان عضوا في الحزب الشيوعي فكتب «الرغبة في الاختفاء»، و«حامل كتاب السحر» و«الطريق والنهر»، وفي باريس كتب «ليلة أنجيلا»، و«حكاية تيري»، ثم «الضربة القوية» وغيرها. وهو يعترف أيضًا بأنه كان على وشك كتابة أحلامه لكن سبقه إلى الفكرة نجيب محفوظ، وكان قد نشر ثلاثة منها فقط.
* ولد إبراهيم عبد المجيد في 2 ديسمبر (كانون الأول) سنة 1946م بمدينة الإسكندرية، وحصل على ليسانس الفلسفة من كلية الآداب جامعة الإسكندرية عام 1973، ورحل في العام نفسه إلى القاهرة ليعمل في وزارة الثقافة، حيث تولى عددًا من المناصب الثقافية.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!