«العيون السود».. متلازمة الخوف والانكسار

مجموعة قصصية للعراقي كريم عبد

غلاف العيون السود
غلاف العيون السود
TT

«العيون السود».. متلازمة الخوف والانكسار

غلاف العيون السود
غلاف العيون السود

صدرت عن «دار شُبَّر» بلندن مجموعة قصصية جديدة تحمل عنوان «العيون السود» للقاص كريم عبد وهي الرابعة في تسلسلها بعد «الهواء يوشك على الوجوم»، «عزف عود بغدادي» و«خَرَزَة زرقاء». وكدأبه سابقا تميّزت هذه المجموعة بثيماتها الإنسانية، ولغتها الرشيقة المتوثبة، وأحداثها التراجيدية في الأعمّ الأغلب لكنها لا تضحّي ببعض المناخات الرومانسية التي تحيا لبعض الوقت ثم تنكفئ على نفسها بفعل الضغوط الاجتماعية والنفسية شديدة التعقيد.
تمتلك القصص القصيرة العشر ونوفيلا «ملاحقة الأشباح» المُلحقة بهذه المجموعة كل اشتراطات النجاح المُتعارف عليها من زمان ومكان وأحداث وشخصيات مُنتظمة في بنى وهياكل معمارية دقيقة لا تتيح للقارئ والناقد معًا أن يجد ثُغرة قد تقوده إلى خللٍ ما في نموّ الشخصيات، أو تطوّر الأحداث، أو تسارع الأنساق السردية التي تُفضي إلى نهايات مدروسة.
لا تخلو أي قصة من استغوار للشخصيات وكأنّ الراوي أو القاص نفسه يقوم بمهمة عالِم النفس الذي يبحث عن الأسباب والنتائج، ويتقصى الدوافع والمحفِّزات التي أفضت إلى هذا الحدث الجلل أو ذاك، ولا بد أن يضع أصبعه على الجرح في نهاية المطاف، ويضيّق من مساحة الشكوك والاحتمالات. ففي قصة «زيارة» يضعنا كريم عبد أمام شخصية الضيف الذي يخاف من الكلاب حتى وإن كانت ضئيلة الحجم ثم نفهم أنها عُقدة متأصلة فيه منذ الطفولة. وعلى الرغم من أنّ هذه العقدة تعْلق في ذهن القارئ كلحظة حاسمة في المسار السردي فإن انتحار الفنان التشكيلي لؤي كيالي سرعان ما يهيمن على الحبكة برمتها ليصبح الثيمة الرئيسة للقصة أو لسيناريو الفيلم القصير الذي ينهمك في كتابته بغية إخراجه لاحقًا. غير أن فعل الانتحار سيشكِّل البؤرة الدرامية الأساسية لهذه القصة، حيث يدفع القاص شخصيتيه المُتحاورَتين إلى البحث عن أسباب انتحار الضحية. يقول فاضل في هذا الصدد: «لا أظن أن هزيمة وحدها هي سبب انتحاره، الانتحار غالبًا ما يأتي نتيجة مأزق شخصي، وأكثر الظن نتيجة تصورات خاطئة وحساسية مفرطة من بعض الأمور» (ص11 - 12) من دون أن نهمل التباساته العاطفية والاجتماعية، وإدمانه على الكحول، وعدم شراء لوحاته في بلد مضطرب.
قد يأخذ استغوار الشخصيات شكل الغيبوبة والهذيان كما في قصة «في بيت قديم» حيث صَعق حمدان الشيخ موت زوجته في الفراش فأخذته الغيبوبة، وانتابه الهذيان الذي وضع أولاده الثلاثة وابنته الوحيدة في حيرة مُربكة وهو يردِّد أسماء نساء، ويتحدث عن خنجر يقطِّر دمًا. لقد طعن الضحية ثلاث طعنات في القلب والرابعة على الوجه وقتل معه كل جراد الحقد الذي كان يأكل قلبه. لعل السؤال الأهم في القصة هو: «هل هو الذي قتله حقًا أم أنّ رغبة بقتل الرجل كانت كامنة في داخل حمدان الشيخ وقد تلبست مشاعره حين سمع بمقتل الرجل!» (ص48). تعرّي هذه القصة جانبًا من الرغبة الكامنة في أعماق الشخصية الهاذية وتضع العائلة برمتها في المساحة الرمادية التي تترجّح بين الشك واليقين، كما أنها تحضّهم على التفكير، وأعمال الذهن، والتأمل في طويّة الوالد الذي يلاقي مصيره المحتوم في نهاية القصة.
في «دَفع المنصّات» وهو القسم الثالث من قصة «ضجيج البساتين» يُكلَّف صبيح العلوان بتنفيذ حُكم الإعدام بأربعة مجرمين «لأنهم سفلة ملحدون وزنادقة» (ص71)، فيضعنا القاص أمام شخصية تزداد اضطرابًا حينما تُبدّل وسيلة الإعدام من الرمي بالرصاص إلى الشنق حتى الموت، حيث يشاهد أربع أنشوطات معلّقة في الهواء. وعندما تتدلى رؤوسهم يظنّ صبيح أنه هو الذي دفع المنصات تحت أقدامهم، وأنهم سوف يقاضونه أمام الله فلا غرابة أن يسقط في الذهول. لم يكتفِ السارد بإضفاء هذه الصفة عليه خصوصًا بعد عودته من المستشفى الذي رقد فيه شهرين وعاد مُصابًا بالشرود الذهني، حيث صارت المشانق الأربعة تظهر له في كل مكان، وتتبعه في أوقات اليقظة والمنام.
تُسلِّط قصة «أيام بغداد 1973» الضوء على هاجس الخوف الذي انتاب العراقيين خلال الحقبتين اللتين هيمن فيهما البعث على السلطة في العراق، حيث نجحت أجهزته الأمنية في قمع الناس وبثّ الهلع في نفوسهم، إلى الدرجة التي باتوا يخافون فيها من ظلالهم. يمهد القاص كريم عبد بحرفية عالية لرصد الشخصية العراقية التي كانت خائفة ومذعورة ومُنتهَكة آنذاك، فحينما يغادر الراوي الحافلة وسط بغداد يترك حسين العبد الله واجمًا في صمته من دون أن يسلّم أحدهما على الآخر مع أنهما كانا صديقين حميمين في سجن «الحلّة»! انتبه الراوي إلى النظرة المحايدة لصديقه الغارق في الذهول وأرجعها إلى سببين رئيسيين وهما إمّا الخيبة وموت الأحلام، أو الخوف والحذر. ومع أن اليأس والخيبة والانكسار قد أصبحت متلازمات مرضية لصيقة بالإنسان العراقي، إلا أن هاجس الخوف والحذر كان أخطر من كل الظواهر المرضية التي أصابت الإنسان العراقي وجعلت منه إنسانا مشلولاً لا يقوى على الحركة. وعلى الرغم من دقة الراوي في تصوير هذه الأحاسيس والهواجس القابعة في أعماقه فإنه سوف يكون أول المشاركين في المظاهرة الاحتجاجية في تشييع أحد الرفاق الشيوعيين الذين ماتوا تحت التعذيب. وعلى الرغم من تماهي صوته الفردي بالصوت الجماعي للمتظاهرين المناهضين للسلطة القمعية التي تفتك بالناس، وتصادر حرياتهم الشخصية والعامة فإن الراوي سوف يتعاون مع ثلاثة آخرين لسرقة آلة طابعة من إحدى المدارس لطبع بيانات تعرّي جرائم الحرس القومي، لكن سرعان ما تم اكتشافهم بعد فشل المحاولة الانقلابية لحسن السريع وزجِّهم في السجون والمعتقلات العشوائية، حتى إن الراوي نفسه قد حُبس في حمّام روضة الأطفال الوحيدة في الديوانية، وتعرّض إلى ضرب وحشي مبرّح حتى سقط مغشيًا عليه من الألم والإعياء.
ثمة مصادفة لا تخلو من التقاطة فنية ذكية، فحينما يرى الراوي شخصًا يشبه حسين العبد الله وينظر إليه غير مرة ثم يعتذر له قائلاً: «أنت تشبه صديقي لدرجة كبيرة، سامحني، أنا آسف جدًا» (ص96)، ثم نكتشف لاحقًا أن هذا الشبيه هو شقيق حسين العبد الله الذي يكبره بثلاث سنوات، ومن خلاله سوف نعرف أنهم اعتقلوا حسين ثانية في نهاية 1970 وأخلوا سبيله قبل بضعة شهور، وهو يعيش في بغداد ويخضع لعلاج متواصل جرّاء التعذيب الذي تعرّض له في معتقل «قصر النهاية»، لأنه يعاني من الهستيريا والاضطراب تارة، ثم ينتابه الصمت والذهول تارة أخرى. آنذاك فقط يُدرك القارئ سبب نظرته المحايدة، وشروده الذهني المتواصل الذي كان يخيِّم عليه في اللحظة التي ترجّل فيها الراوي من الحافلة في «الشورجة» وسط بغداد.
لابد من الإشارة إلى الفضاءات الإنسانية التي تعيشها شخصيات بعض القصص الأخرى وخصوصا «العيون السود»، حيث تتسيّد عينا دودة قزّ كان الراوي قد نفضها من طرف بنطاله السفلي لتسقط متلوِّية على حذائه وهي تنظر إليه بعتبٍ شديد على قسوته وخشيته اللامبررة من هذا الكائن الجميل ذي العينين السوداويين الواسعتين اللتين لم يرَ مثل جمالهما من قبل. أما نهاية القصة فهي نموذج للشخصية العراقية الجذلة، إذا ما توفرت لها مقومات الحياة الكريمة التي تمجّد الكائن البشري وتسمح له بأن يمارس إنسانيته في فضاء يخلو من الحذر والترقب والخوف الأبدي.



انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية
TT

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

صدر حديثاً عن دار «سطور» ببغداد كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» للمؤلّف السعودي محمد رضا نصر الله، الذي عُرف منذ السبعينيّات إعلامياً اتخذ من الصحف والمجلات والتلفزيون وسيلة للتعبير عن أفكاره ورؤاه.

انفتح عنوان الكتاب على لفظ أصوات وهي تلاحق الأَثر المسموع الذي يصل الآذان جرّاء تَمَوُجات قادمة من مصدر ما ينتمي إلى الأدب المكتوب بجنسيه المعروفين الشعر، والنثر، وما يتناسل منهما من أنواع أدبيّة معروفه، وأنماط، فضلاً عن أصوات الفكر التي تعامل معها المؤلّف بروح الأدب، وخفايا أخرى اتخذت من المجتمع ظواهر حاول المؤلّف نصر الله أن يقف عندها موقفاً يبعده عن أسلوب العرض، ليقرّبه نحو ممارسة النقد، وحضور المساءلة المنفتحة على البيئات الحاضنة للأدب سواء كانت تاريخيّة أم جغرافيّة أم اجتماعيّة أم لسانيّة؛ تلك التي تحيل على مقولات عامرة بالمعنى.

وتفضي قراءة الكتاب إلى الوقوف عند ظواهر ثقافيّة تنتمي إلى ثقافة الوطن العربي جميعه من مشرقه إلى مغربه، وهذا دليل على سماحة الفكر الذي حمله المؤلّف واتساع معرفته بالثقافة العربيّة القديمة والحديثة، بل تجد في الكتاب أشتاتاً من الإحالات التي تلاحق ما في آداب الشعوب الأخرى، ولا سيّما تلك التي لها أثر في ثقافتنا المعاصرة.

من هنا وجدتُ المؤلّف منفتحاً على الأدب العربي من دون أن يشعر بعقدة الانتماء إلى أدبه الوطني، فهو يتحدّث عن الأدب العراقي والمصري والمغربي والخليجي والفلسطيني، والسوري، والسوداني بوصف كلّ منها جزءاً من أدب أكبر هو الأدب العربي بتيّاراته المحافظة المعروفة، ومحاولات التجديد فيه. وبالنظر لسعة حجم الكتاب (449 صفحة)، فإنّ هذه المقالة ستلاحق مضمون الكتاب من خلال النافذة التي رأت الأدب العراقي، واتخذت منه وسيلة للقراءة، والتحليل المفضي إلى بيان ما ودّ المؤلّف قوله فحسب؛ بسبب حجم المقالة وحرصها على عدم الاتساع.

بدءاً لا بد من التأكيد على أن المؤلّف امتلك معلومات مهمّة عن الأدب العراقي مصدرها القراءة، والملاحقة الميدانيّة، والانفتاح الثقافي على أحوال العراق، والمشاركة في قسم من فعّالياته التي كانت علامة في تاريخ الثقافة العراقيّة مثل: مهرجان المربد، فضلاً عن علاقاته المتميّزة مع أدباء العراق ممن رحل إلى دار البقاء، أو ممن يعيش الآن منتجاً للثقافة والفكر، وعندي أنّ المؤلّف في انفتاحه الثقافي على الحياة العراقيّة كان جزءاً من حال الثقافة السعودية في جميع عصورها وهي ترنو صوب بغداد، والكوفة والبصرة، والموصل ليكون لها تواصل تامّ، ورغبة حميمة في جمع الشمل لمن يقرأ ويكتب بحروف لها تاريخها المضيء بعمر آلاف السنين، فهو - المؤلّف - متحسّس لتراب العراق، وروحه منغمرة في مياه دجلة والفرات - بحسب قوله - في إشارة كنائيّة إلى قربه من العراق أرضاً وشعباً، وقد زاره في أوائل الستينيّات كما ذكر، ولي أن أشير هنا إلى أنّ الموضوعات العراقيّة في الكتاب ظهرت مستقلة في مقالات سأتخذها مجالاً للقراءة، فضلاً عن ظهورها مختلطة مع مقالات أخرى لا شأن لها بالعراق لكنّ طبيعة الحديث في المقالة أفضى إلى الإحالة على ما في العراق، مثالها مقالة «صور معهم» التي تحدّث فيها نصر الله عن البحرين، وعن والده، والشاعر المصري أمل دنقل، ثمّ كانت الإحالة على ديوان بدر شاكر السياب «إقبال وشناشيل ابنة الجلبي» المُهدى إلى المؤلّف من غيلان ولد السياب البكر، وقد طوّف الحديث بالمؤلّف إلى استرجاع زيارته إلى جيكور في عام 1979.

اخترت الوقوف الأول عند مقالة «خطى المتنبي الهاربة بين ميمين»، وهي مقالة تابعت إشارة د. عبد الرحمن السديري التي مؤداها أن «بسيطة» التي وردت في قصيدة للمتنبي هي على مرمى من عيون ضيوفه، في إشارة إلى مكانها السعودي المعاصر، وهذه الإشارة أوحت إلى د. عبد العزيز المانع أن يتتبّع خطى المتنبي، فعمل أولاً على تحقيق «المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي» للأزدي، ليتمكّن فيما بعد من تحقيق «قشر الفسر» للزوزنيّ، ولم يكتف بذلك فتناول «الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي» لابن جني فحقّقه، ثمّ عكف على السير على خطى المتنبي من مصر إلى حدود العراق مستعيناً بخرائط المساحة العسكريّة في عشر رحلات بين مصر والأردن وسوريّا، ولم يتمكّن من دخول العراق بسبب سوء الأمن يومها.

رأى مؤلّف الكتاب أن يوسف الشيراوي أصدر قبل المانع كتابه «أطلس المتنبي أسفاره من شعره وحياته»، وهو من الكتب الجليلة التي تابعت رحلات المتنبي الشهيرة، ويعود المؤلّف إلى قرن من الزمن مضى ليقف عند ألويز موزيل الرحّال والمستشرق النمساوي التشيكي الذي عاش أربعة عشر شهراً في قبيلة «الرولة»، مكتشفاً امتداد الصحراء وأهلها، فضلاً عن أنه رافق قوافل «عبدة» و«سنجار» إلى النجف، وقد وقف على موقع الخورنق الوارد في قصيدة المنخّل اليشكري، تاركاً كتباً أخرى في وصف مناطق من العراق تتبّع في بعضها طريق المتنبي الهارب من الفسطاط إلى دمشق، وتبوك والجوف والسماوة والرهيمة ثمّ الكوفة في شرح دقيق متعلّق بالأمكنة.

قام د. عبد العزيز المانع بعشر رحلات منطلقاً من أرض مصر ليصل الأردن وسوريا وشمال المملكة العربيّة السعودية وصولاً إلى حدود العراق، وقد ناقش في تلك الرحلات ذوي الخبرة، وهدفه إثبات رحلة المتنبي الحقيقية على الأرض في كتاب أنيق عنوانه «على خطى المتنبي»، وإذ أنتهي من قراءة المقالة أتساءل ما دلالة لفظ الميمين في عنوانها؟ لعلّه أراد بها مصر والمانع وقد شكَّلا فضاء تلك الرحلة عن قرب.

ووقفت ثانية عند مقالة «أسماء متنازع عليها بين المملكة والعراق»، التي أتى فيها على طبيعة العلاقات الثقافيّة التي ربطت السعودية بالعراق من خلال وقائع ماديّة، وثقافيّة مشتركة بين البلدين من خلال أسماء عاشت في العراق وهي تردّ إلى أصول نجديّة معروفة من أمثال: عبد اللطيف المنديل، وسليمان الدخيل، وسلمان الصفواني، ومحمد القطيفي، وعبد الحسين القطيفي، وعبد الرحمن منيف، ومحمود البريكان، وآخرين، وعندي أن أسماء أخرى ربّما غابت عن المؤلّف بسبب دورها المحدود في الحياة الثقافيّة والسياسيّة، ولا عجب من كثرة تلك الأسماء إذا ما علمنا أن أصل القبائل العربيّة في العراق يردّ إلى شبه الجزيرة العربيّة، وأنّ العلاقة بين الأرضين قديمة قدم الإنسان نفسه.

يممتِ الوقفة الثالثة شطرها نحو مقالة «ما لم تنقله الكاميرا... في حديث الجواهري»، وفيها أماط اللثام عمّا قاله الجواهري خارج حدود اللقاء الإعلامي الذي أجراه معه، وقد كشف المؤلّف عن كرم الشاعر، ومعرفته ببعض العوائل السعودية وأحوالها، وفي لقاء اليوم الثاني بعد المقابلة حاول الجواهري التقرب من السعودية مذكّراً مؤلّف الكتاب بقصيدته التي مدح فيها الأمير فيصل بن عبد العزيز حين زار العراق ممثّلاً لأبيه التي منها:

«فتى عبد العزيز وفيك ما في... أبيك الشهم من غرر المعاني»

تلك القصيدة التي مدح فيها الملك عبد العزيز، والأمير فيصل معاً، وقد نشرت في جريدة أم القرى في الثلاثينيات من القرن المنصرم، ثمّ قدّر للجواهري زيارة المملكة مشاركاً في مهرجان الجنادريّة في 21- 7- 1994.

ووقفت في وقفة رابعة عند «جنتلمانية الاستعمار بين الطيب صالح والجواهري»، وفيها أماط المؤلّف اللثام عن رؤية النقد الآيديولوجي الذي عدّ الطيب صالح أنموذجاً للمثقف العربي المنبهر بحضارة الغرب، والمتمثّل لقيمها الإمبرياليّة من خلال روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، فضلاً عن عدّه منيف الرزاز في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» أنموذجاً للمثقف الثوري المدافع عن قضايا الفلاحين، وكأنّ المؤلف أراد أن يكشف عن مضمر ذلك النقد الذي أثبتت الأيام خطله وهو يعتمد الصراع الذي يختزل العالم بين معسكرين لا ثالث لهما: الماركسي والرأسمالي رافضاً أن يكون الفن من أجل الفن نفسه، وقد استعان برأي الشاعر الجواهري الذي تباكى على عصر الملكيّة العراقيّة في مذكراته رغم معارضته الشديدة لذلك النظام بعد أن تخلّص من أهواء الآيديولوجيا.

وفي الوقفة الخامسة قرأت مقالة «مذكرات الجواهري» التي كان متنها مفاجأة للمؤلف، وقد وعى فيها الشاعر طبيعة الحياة السياسيّة التي عاشها في العراق وخارجه، وقد كتبها نثراً ذهبيّاً صافياً مسبوك العبارة بديباجة تكشف عن أسلوب رفيع، وهو الشاعر المطبوع فكأنه - والكلام للمؤلّف - جمع بين الصناعتين: الشعر والنثر، فقد وجد المؤلّف تلك الذكريات سرديّة صادقة انفتحت على تجربة الشاعر الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة التي لاحق فيها حياة قرن كامل وهو يسبر أغوار الأمكنة بين بغداد والمنافي التي اختارها.

وأخذني الكتاب نحو ريادة د. علي جواد الطاهر في تدريس الأدب السعودي وصناعة معجم مطبوعاته، ففي تلك المقالة سرد المؤلّف حكاية الطاهر الذي نزل الرياض أستاذاً في جامعتها في الستينيّات، فكان عليه أن يلمّ مبكّرا بشؤون الأدب السعودي بدءاً من كتاب «وحي الصحراء» لمحمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير، مروراً بكتابي «شعراء نجد المعاصرون» لعبد الله بن إدريس و«أدب الحجاز» لمحمد سرور الصبان، وانتهاء بما وجد من جرائد ومجلّات تسدّ حاجة قلمه، حتى قدّر له الاجتماع بأهمّ أدباء السعودية من أمثال: حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، وعبد الله بن إدريس، وقد طرح عليهم فكرة مشروعه الموثّق لتاريخ النشر في البلاد في معجم يعنى بالمطبوعات السعودية، فكان له أن بدأ بنشر أجزاء من ذلك المعجم في مجلّة العرب التي أحبها أولاً، ثمّ طوّر فيما بعد تلك المقالات كتاباً مستقلاً، فكانت للطاهر يد بيضاء في تاريخ الثقافة السعودية، وليس هذا بالغريب على شخصيّة الطاهر التي كانت دائمة الحضور ثقافيّاً بعيداً عن الإقليميّة والنظر الذي يضيقُ بالمكان.

ووجدتُ المؤلّف في «أيها العراقي هلَّا خرجت من مزرعة البصل؟» ينادي بصوت عالٍ العراقي المعاصر الذي يريده أن يخرج من دائرة الزعامة القاتلة التي يرى فيها نفسه كبيراً في ظل تعدد رؤوس الكبار؛ تلك التي ترى في نفسها ما يراه هو، وقد أحال على قصيدة الشاعر العراقي علي الشرقي «مزرعة البصل»، التي فضح فيها الرؤوس الأولى في أول عهد الحكم العراقي الوطني، وهي تتشابه وحجم رأس البصل!، يبدو أن التاريخ يعيد بعض أنساقه المضمرة كي تكون ظاهرة للعيان، فكانت وقفتي السابعة مع تلك المقالة.

وكانت الوقفة الأخيرة عند مقالة «الجاحظ يحذّر العرب»، التي فضح فيها مبكّرا الخصومات بين العرب والشعوب الأخرى، وبين العرب أنفسهم، وكأنّ المؤلف أراد التأكيد على أن الحياة العراقيّة المعاصرة ترفض رفضاً كليّاً الصراعات القوميّة، والإقليميّة، والقبليّة في ظلّ مجتمع حديث متسامح تتنوع في مقاماته الثقافة، وتتوزّع لتكون في النتيجة وجهاً من وجوه تسامح الإنسان مع نفسه والآخر.

إنّ كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» كتاب ثقافة حاول أن يقرأ عدداً من الموضوعات التي تشمّ من متونها رائحة الأدب بمفهومه الذي يتماس وطبيعة المجتمع العربي، وهو يتساوق والدعوات التي تحيل على أهميّة الممارسات التي تكشف عن وظائف ثقافيّة تتماس وحاجة المجتمع، فضلاً عن إحالته على عدد ليس بالقليل من المتون الأدبيّة ذات النَفَس الثقافي المبهر لتظلّ الحاجة ملحّة لإعادة طبعة في متن جديد بعد أن يقف من الملاحظات الآتية موقف المصحح الوفي لكتابه:

أولاً: جاء في الصفحة 239 أنّ (الأديب العراقي هلال ناجي الذي يعمل لدى د. علاء حسين الرهيمي عميد كلية آداب جامعة الكوفة) والكلام ملتبس بلا شك؛ لأنّ الأستاذ المحقّق الثبت هلال ناجي - رحمه الله - لم يعمل موظفاً في جامعة الكوفة، بل كان ملحقاً ثقافيّاً في القاهرة في الستينيّات، تمّ تفرّغ للتحقيق والمحاماة، فأرجو أن يفكّ ذلك الالتباس لصالح الحقيقة، والمقالة.

ثانياً: جاء في الصفحة 310 من الكتاب عن محمد حسين آل نمر أنه أيّد (ثورة 23 تموز 1958. بقيادة عبد الكريم قاسم)، والصحيح (14 تموز)، وأنها لم تكن ثورة بل انقلاب عسكري ليس غير، وهذا ما أدركه المؤلّف فيما بعد في ص325.

ثالثاً: تحدّث المؤلّف في الصفحة 315 من الكتاب عن اغتيال الشاعر محمود البريكان محدّداً إياه (في منزله بالزبير)، والصحيح الذي لا خلاف عليه أنّ الاغتيال كان في بيت البريكان في البصرة حي الجزائر يوم 28 فبراير (شباط) 2002.

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

* أكاديمي وناقد من العراق.