من هو آية الله علي حسيني خامنئي؟

المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران تأثر بأعمال سيد قطب وترجم بعضا منها إلى الفارسية

من هو آية الله علي حسيني خامنئي؟
TT

من هو آية الله علي حسيني خامنئي؟

من هو آية الله علي حسيني خامنئي؟

في يونيو (حزيران)، انتخب حسن روحاني رئيسا لجمهورية إيران الإسلامية. خاض روحاني الانتخابات كمرشح إصلاحي، وفسر كثيرون فوزه بأنه يبشر بإمكانية تحرير أو عقلنة السياسة الداخلية والخارجية الإيرانية. ولكن الشخص السائد في السياسة الإيرانية ليس الرئيس بل المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي حيث يمنح الدستور الإيراني المرشد الأعلى سلطة هائلة على جميع مؤسسات الدولة الرئيسة، ويجد خامنئي الذي تولى منصبه منذ عام 1989 وسائل أخرى كثيرة لتوسعة نفوذه.

تعمل كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في الحكومة، رسميا أو غير ذلك، تحت السيادة المطلقة للقائد الأعلى. وهكذا، يصبح خامنئي هو رئيس دولة إيران وقائدها الأعلى ومنظرها الرئيس. أفكاره هي ما تشكل السياسة الإيرانية لذلك تجدر دراستها بالتفصيل.
ولد خامنئي في مدينة مشهد شمال شرقي إيران عام 1939. كان والده عالم دين متواضع الدخل. سار خامنئي، وهو الثاني بين ثمانية أبناء، على نهج والده والتحق بالمدرسة الدينية (كما أن له شقيقين من رجال الدين أيضا). درس خامنئي في قم من عام 1958 إلى 1964، وعندما كان هناك التحق بحركة المعارضة الدينية التي قادها آية الله الخميني في عام 1962. أدى خامنئي دورا مهما في الثورة الإيرانية عام 1979 وأصبح رئيسا لإيران من عام 1981 إلى 1989، ثم خلف الخميني في منصب المرشد الأعلى.
كان خامنئي على اتصال دائم بعالم المثقفين الإيرانيين، وقد تشكل الإطار الأساسي لفكره أثناء شبابه وبدايات سن الرشد، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. كانت إيران في ذلك الوقت تحت الحكم الملكي وحليفة للولايات المتحدة. ووفقا للمعارضة الإيرانية في ذلك الوقت، لم يكن الشاه سوى دمية أميركية. وعلى عكس كثير من الإسلاميين الآخرين، كان خامنئي على اتصال مع أهم مثقفي المعارضة العلمانيين واستوعب خطابهم في مرحلة ما قبل الثورة. ولكنه كان أيضا طالبا في المعهد الديني الذي ينصب تركيزه الأساسي على تعليم الشريعة الإسلامية، فتعرف على منظري الإخوان المسلمين وتأثر بأعمال سيد قطب، التي ترجم خامنئي ذاته بعضا منها إلى الفارسية.
عندما كان شابا، شهد خامنئي الخلاف بين الغرب والعالم الثالث، وتصلبت هذه الرؤى أثناء تعامله مع الولايات المتحدة بعد الثورة الإيرانية. وتوصل إلى أن واشنطن عازمة على الإطاحة بالجمهورية الإسلامية وأن جميع القضايا الأخرى التي يثيرها المسؤولون الأميركيون لا تتجاوز كونها ستارا دخانيا. وحتى اليوم، يعتقد خامنئي أن الحكومة الأميركية مصرة على تغيير النظام في إيران، سواء عن طريق إسقاطه من الداخل أو اندلاع ثورة ديمقراطية أو ممارسة ضغوط اقتصادية أو شن غزو عسكري.

لمحة عن المرشد الأعلى

كان خامنئي يبلغ من العمر 40 عاما عندما قامت الثورة؛ وقبل ذلك كان طالب علم ورجل دين، ولكنه متفاعل مع العالم الواسع بالإضافة إلى الأوساط الدينية الضيقة.
أدت علاقات خامنئي الواسعة مع المثقفين العلمانيين في إيران إلى تطرف آرائه بشأن الولايات المتحدة، نظرا لأن هذه الأوساط كانت معارضة للولايات المتحدة بشدة بعد انقلاب عام 1953، وبعد تأييد الولايات المتحدة للشاه وقمعه التالي للمعارضين. وكما قال صديق خامنئي الشاعر مهدي إخوان ثالث، في أحد الأبيات: «لن أنسى أننا كنا شعلة، وهم أطفأونا بالماء». تحدث خامنئي عن دور الولايات المتحدة في انقلاب عام 1953 عدة مرات، وتستمر الذكرى تتردد لديه حتى الآن. صرح خامنئي في العام الماضي في لقاء مع طلاب الجامعات في طهران قائلا:
«من المثير للاهتمام أن ندرك أن أميركا أطاحت بحكومة مصدق حتى على الرغم من أنه لم يظهر عداء تجاهها. لقد تصدى للبريطانيين ووثق في الأميركان. كان يرجو أن يساعده الأميركان، وكانت له علاقات ودية معهم، وأعرب عن اهتمامه بهم، لعله أبدى لهم خضوعا. (ولكن) أطاح الأميركيون بهذه الحكومة. لم تكن الحكومة القائمة في طهران حينها معارضة لأميركا، لا، بل كانت صديقة لها. ولكن مصالح الغطرسة (وهو المصطلح الذي يستخدمه خامنئي غالبا ليرمز إلى الولايات المتحدة) استلزمت تحالف الأميركيين مع البريطانيين. جمعوا الأموال وجلبوها إلى هنا وقاموا بمهمتهم. ثم عندما تحقق انقلابهم وأعادوا الشاه الذي كان قد هرب، تمكنوا من السيطرة على البلاد».

خامنئي والبؤساء

في شبابه، كان خامنئي يحب الروايات. قرأ لكتاب إيرانيين مثل محمد علي جمال زاده وصادق شوباك وصادق هدايت، ولكنه شعر بأنهم يتوارون أمام الكتاب الكلاسيكيين الغربيين من فرنسا وروسيا وبريطانيا. وأثنى خامنئي على ليو تولستوي وميخائيل شولوخوف وأمثال أونوريه دي بلزاك وميشال زيفاغو، ولكنه يعتبر فيكتور هوغو الأفضل. وفي تصريحات لبعض مسؤولي شبكة التلفزيون الحكومية الإيرانية عام 2004، قال خامنئي:
«في رأيي، إن رواية (البؤساء) لفيكتور هوغو أفضل رواية كتبت في التاريخ. طبعا لم أقرأ جميع الروايات المكتوبة في التاريخ، ولكني قرأت العديد من الروايات المتعلقة بأحداث قرون مختلفة».
شعر خامنئي بأن الروايات تمنحه بصيرة نافذة إلى الواقع العميق في حياة الغرب، حتى إنه نصح جمهورا من الكُتاب والفنانين في عام 1996 قائلا: «اقرأوا روايات بعض الكتاب ذوي الاتجاهات اليسارية، مثل هوارد فاست. اقرأوا (عناقيد الغضب) الشهيرة التي ألفها جون ستيانبيك.. وانظروا كيف تتحدث عن موقف اليسار وكيف تعامل معهم الرأسماليون في مركز الديمقراطية».

الإسلامي الناشئ

رغم تردد خامنئي على الأوساط الثقافية العلمانية قبل الثورة، وكونه طالبا للثقافة الغربية بصورة عامة، فإنه كان أولا وقبل كل شيء عالم دين يكرس ذاته لتحقيق تغيير اجتماعي بما يتفق مع تعاليم الدين. وفي هذا الصدد، كان سيد قطب، المفكر والناشط المصري والمنظر الرئيس لجماعة الإخوان المسلمين، هو من استولى على قلب خامنئي في شبابه.
كتب خامنئي في مقدمة ترجمته لكتاب سيد قطب «المستقبل لهذا الدين» في عام 1967: «حاول هذا الكاتب العظيم عبر فصول هذا الكتاب.. تقديم روح الدين كما هي، ثم توضيح أنه منهج للحياة.. (وأكد) بعباراته البليغة ومنظوره العالمي الخاص أن حكم العالم في النهاية سوف يكون في يد مدرستنا وأن (المستقبل سيكون للإسلام)».

بعد الثورة

في الأيام الأولى من الثورة الإيرانية، بعد أن أعلنت واشنطن أنها سوف تسمح للشاه المريض بدخول الولايات المتحدة لتلقي العلاج، استولت مجموعة من الطلاب الإيرانيين المتطرفين على السفارة الأميركية في طهران واحتجزوا من فيها كرهائن، مما تسبب في خلق أزمة جديدة في العلاقات الأميركية الإيرانية. لم يكن جميع أفراد النخبة الحاكمة الجديدة يعرفون بشأن الخطة أو يوافقون عليها. ووفقا للرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر رفسنجاني، لم يؤيد هو أو خامنئي هذه الخطوة: «كان آية الله خامنئي وأنا في مكة عندما سمعنا أخبار الاستيلاء على السفارة الأميركية عبر الإذاعة ليلا، عندما كنا في مكان إقامتنا نستعد للنوم. أصبنا بالصدمة، لأننا لم نكن نتوقع مثل هذا الحدث. ليست هذه سياستنا. حتى في بداية انتصار الثورة، عندما كانت الجماعات السياسية تهتف بشعارات متطرفة ضد أميركا، ساعد المسؤولون الأميركيون الموجودون في إيران على العودة إلى بلادهم سالمين، بل وحمل كثير منهم ممتلكاتهم معهم. وبمجرد أن هاجمت مجموعة مسلحة السفارة الأميركية واحتلتها، جاء ممثل عن الحكومة المؤقتة وأنهى المشكلة. لذلك من الواضح أن المجلس الثوري والحكومة المؤقتة لا يميلان إلى اتخاذ مثل هذه الإجراءات».
ولكن بعد أن خرج الخميني مؤيدا للاستيلاء على السفارة، سار حكام آخرون في الجمهورية الإسلامية على نهجه.
طوال فترته كمرشد أعلى، دائما ما يدافع خامنئي عن الاستيلاء على السفارة. ويدفع بأنه أحيانا ما تحتفظ الأنظمة الثورية بعلاقاتها مع القوى الاستعمارية السابقة وتعاني نتيجة لذلك. وفي الحالة الإيرانية، ساعد الاستيلاء على السفارة على جعل ذلك مستحيلا، وقد أشار في خطاب له عام 1993 إلى ذلك قائلا: «قطعت قضية وكر الجواسيس (وهو المصطلح الذي يستخدمه الثوار للإشارة إلى السفارة الأميركية) آخر خيط يمكن أن يصل بين الثورة وأميركا». وأضاف أن احتلال السفارة «كان خدمة عظيمة وجليلة لصالح ثورتنا».

ممثل الخميني في مجلس الدفاع الأعلى

عين الخميني خامنئي عضوا في مجلس الثورة الإسلامية، وقبل أن يصبح رئيسا للجمهورية في عام 1981، عمل نائبا لوزير الدفاع، والقائم بأعمال رئيس الحرس الثوري الإسلامي، وممثل الخميني في مجلس الدفاع الأعلى. وضعه عمله في القضايا الأمنية في مواجهة السياسة الواقعية الباردة التي انتهجتها واشنطن. وفي أغسطس (آب) عام 1980، شن صدام حسين هجوما عسكريا على إيران في محاولة للاستفادة من الفوضى الموجودة مع النظام الجديد. كانت إيران تعاني آثار سقوط الشاه واستمرار أزمة الرهائن، ورفضت الولايات المتحدة انتقاد أفعال العراق، ثم قدمت له الحماية من العقاب في الأمم المتحدة وبعد ذلك دعمت بالفعل الحرب العراقية ضد إيران. وفي نهاية الثمانينات، كان الجيش الأميركي يواجه إيران مباشرة من خلال مهاجمة منصات النفط الإيرانية في الخليج عام 1987، وإسقاط طائرة ركاب إيرانية في عام 1988.

رحلة خامنئي إلى الولايات المتحدة

في عام 1987، ذهب خامنئي في رحلته الوحيدة حتى الآن إلى الولايات المتحدة من أجل المشاركة بصفته رئيس دولة إيران في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي خطابه، تحدث عن العلاقة بين إيران والولايات المتحدة.
وفي خطاب جماهيري في العام التالي، تحدث عما مر به أثناء إقامته في نيويورك قائلا: «جاء مسؤول رفيع المستوى في دولة أوروبية لمقابلتي وقال لي (يجب أن تحل مشكلتك مع أميركا)! اعتقدوا أنني بمجيئي إلى نيويورك ووجودي في أميركا قد يستطيعون استغلال الموقف. ولكني قلت (مستحيل. قضية الأمم المتحدة شأن آخر. مجيئي إلى الأمم المتحدة للحديث مع شخصيات من العالم وهذا ليس له علاقة بأميركا. قضية أميركا لها شأن آخر)».

من الخميني إلى خامنئي

منذ أن أصبح المرشد الأعلى لإيران في عام 1989، أصبحت آراء خامنئي حيال سياسة الولايات المتحدة الأميركية أكثر حدة. وفي الوقت الحالي، موقفه واضح وبسيط: ترغب الحكومات الغربية، بقيادة واشنطن، في الإطاحة بالجمهورية الإسلامية وتدمير الثورة الإسلامية، تمامًا مثلما حدث مع الاتحاد السوفياتي.
يعتقد خامنئي أن هناك العديد من التدابير التي بإمكانها ضمان أن الجمهورية الإسلامية لن تلق المصير ذاته الذي حل بالاتحاد السوفياتي. أولا، ينبغي تحديد المتمردين السياسيين المحتملين - النسخ الإيرانية المحلية من بوريس يلتسن - ومعرفتهم. ثانيا، ينبغي الإعلان بوضوح عن خطط إصلاح منطقية، وبالتالي لن يكون من الممكن إساءة فهمها أو تحريفها. ووفقًا لوصفه، فإن التدابير الإصلاحية ينبغي أن «يقودها مركز قوي وصارم، بحيث لا تخرج عن السيطرة». ثالثا، لا ينبغي السماح لوسائل الإعلام بعرقلة عمل الحكومة. ورابعا، ينبغي منع أية تدخلات من قبل أي قوى خارجية، مثل الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل.

تراجع الغرب والأزمة الاقتصادية

لا ينكر خامنئي التقدم الكبير الذي شهده الغرب على مدار القرن الماضي. فكما صرح في أحد خطاباته في شهر يونيو عام 2004، «بالولايات المتحدة الأميركية، تستطيع أن تلحظ ذروة نهضة الحضارة المادية من ناحية العلم والثروة والسلطة العسكرية، والجهود السياسية والدبلوماسية. فالولايات المتحدة الأميركية تتمتع بثروة أسطورية وقوة عسكرية هائلة، علاوة على الحراك السياسي الاستثنائي». يتقبل خامنئي العلم والتكنولوجيا اللذين يتمتع بهما الغرب، فيما أنه يرثي حقيقة أن الأنظمة الاستبدادية التي تعاني منها إيران ودول أخرى بالعالم النامي هي المسؤولة عن التخلف السائد في هذه البلدان. ويصرح خامنئي بإعجابه ببعض الجوانب التي تتسم بها المجتمعات الغربية.
وأشار خامنئي إلى أن الأزمة المالية التي بدأت في عام 2008 تُعد دليلا داعما لوجهة نظره المتشائمة حول توقعاته للغرب. فقد رأى أن حركة الاحتجاجات التي تدعو إلى احتلال وول ستريت تُعد بمثابة بداية لأزمة ضخمة في الرأسمالية.
بالنسبة لخامنئي، فإن تاريخ العالم «يتجه نحو الأفضل» وسوف يبدأ «عصر جديد في العالم بأسره». فقد فقدت العقائد الماركسية والليبرالية والقومية جاذبيتها، ولكن الإسلام لا يزال يتمتع بجاذبيته. فالربيع العربي - أو «الصحوة الإسلامية»، كما يُطلق عليه - يُعد بمثابة بداية لانتفاضة في جميع أنحاء العالم ضد الولايات المتحدة الأميركية والصهيونية العالمية.
في شهر أغسطس (آب) عام 1989، أي بعد مرور شهرين على انتخابه مرشدا أعلى، صرح خامنئي للولايات المتحدة بأنه «لم يجر أي شخص في الجمهورية الإسلامية أية مفاوضات في وقت مضى مع الولايات المتحدة الأميركية مطلقا، ولن يحدث ذلك.. وما دامت السياسة الأميركية تقوم على الأكاذيب والخداع والنفاق وتدعم الأنظمة الفاسدة مثل إسرائيل، وتديم حالة الظلم ضد الشعوب الضعيفة والفقيرة، وما دامت الجرائم والتجاوزات التي يرتكبها الحكام الأميركيون، مثل إسقاط طائرة الركاب واحتجاز (الملكية الإيرانية)، لا تزال حاضرة في ذاكرة أمتنا، فليس هناك أية احتمالية لدينا لعقد مفاوضات مع الحكومة الأميركية أو إقامة علاقات دبلوماسية معها. فنحن نرفض تمامًا إقامة أية علاقات بيننا وبينهم».
وبعد مرور سبعة عشر عامًا، تناول خامنئي الموضوع ذاته خلال اجتماعه مع طلاب بوسط مدينة يزد خلال شهر ديسمبر (كانون الأول) لعام 2007، ليذكر أن:
«إحدى سياساتنا الأساسية تتمثل في قطع العلاقات مع الولايات المتحدة. ولكننا لم نقل يوما إننا سوف نقطع هذه العلاقات إلى الأبد. لا، ليس هناك أية أسباب لقطع العلاقات مع أية دولة إلى الأبد.. (ولكن) العلاقات مع الولايات المتحدة تمثل ضررا بالنسبة لنا. أولا، إقامة علاقات مع الولايات المتحدة لن يقلل من الخطر الذي تمثله علينا. فقد قامت الولايات المتحدة بغزو العراق في حين أنه كانت لديها علاقات دبلوماسية معه.. ثانيا، وجود علاقات مع الأميركيين يعد طريقة بالنسبة لهم لزيادة نفوذهم داخل طبقات معينة.. داخل إيران».
وفي شهر أغسطس عام 2010، خلال لقائه مع مسؤولين حكوميين رفيعي المستوى في ظل ولاية الرئيس محمود أحمدي نجاد، قدم خامنئي تفسيره لعبارة «حالتان من المفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية مؤخرا، إحداهما كانت تتعلق بالقضايا العراقية». وكان ذلك حينما صرح أحمدي نجاد بأنه على استعداد لإجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة. ووصف خامنئي فهمه لأسلوب التفاوض مع الولايات المتحدة كما يلي:
«عندما لا تكون لدى الأميركيين حجج قوية، وعندما لا يكون بإمكانهم تقديم حجة مقبولة ومنطقية، فإنهم يلجأون إلى أسلوب الضغط. وحيث إن أسلوب الضغط ذلك ليس له أي تأثير على الجمهورية الإسلامية، فإنهم سوف يعلنون نهاية المفاوضات من جانب واحد! حسنا، ما هو نوع تلك المفاوضات؟ وتلك هي تجربتنا في كلتا الحالتين. لذلك، عندما يقول الأشخاص مثل السيد الرئيس (أحمدي نجاد) إننا على استعداد للتفاوض، فحينها سوف أقول نعم، نحن مستعدون للتفاوض، ولكن ليس مع الولايات المتحدة.
وخلال شهر فبراير (شباط) لعام 2013، صرح جوزيف بايدن نائب الرئيس الأميركي، خلال حضوره أحد المؤتمرات الأمنية بميونيخ، بأن الولايات المتحدة الأميركية قد فرضت «أقسى العقوبات في التاريخ» على إيران، وذلك ضمن جهودها الرامية إلى منع إيران من امتلاك أسلحة نووية، وأن قادة إيران يعاقبون شعبهم من خلال الحرمان الاقتصادي والعزلة الدولية. وأشار بايدن إلى أن الخيار الدبلوماسي لا يزال متاحا، ولكن لن تكون هناك محادثات مباشرة إلا «عندما تكون القيادة الإيرانية والقائد الأعلى جادين في الأمر».
ورد خامنئي سريعا وعلى نحو مباشر. ففي كلمته أمام قادة سلاح الجو الإيراني، صرح خامنئي بأنه منذ انتخاب الرئيس الأميركي باراك أوباما عام 2008، كان قد أعلن أن القيادة الإيرانية سوف تنظر إلى سلوك الحكومة الجديدة بنظرة غير متحيزة، ومن ثم سوف تتخذ قرارها. ولكن ماذا كانت نتائج الفترة الأولى من ولاية أوباما؟ دعمت واشنطن «التمرد الداخلي» (الحركة الخضراء)؛ وفرضت عقوبات معوقة، على حد زعمه. ومن ثم، تناول دعوة بايدن لإجراء محادثات قائلا:
«من هؤلاء الذين تريدون إعاقتهم (بتلك العقوبات)؟ هل أردتم أن تصيبوا الشعب الإيراني بحالة من الشلل؟ هل يوجد أية نية حسنة في ذلك؟ أنا لست دبلوماسيا. إنني شخص ثوري وأتحدث بطريقة واضحة وصريحة.. يقول الدبلوماسيون شيئا ما، ويعنون به شيئا آخر».

البرنامج النووي

ويرفض خامنئي فكرة تمركز الخلافات بين إيران والولايات المتحدة الأميركية حول البرنامج النووي. وخلال حضوره لاجتماع علني مع وفد من العلماء وأسر الشهداء من منطقة أذربيجان الإيرانية خلال شهر فبراير الماضي، ذكر خامنئي قائلا: «إذا أردنا تصنيع أسلحة نووية، كيف ستمنعوننا من ذلك؟ إذا كانت إيران مصرة على امتلاك أسلحة نووية، فلن تستطيع الولايات المتحدة منعها بأي شكل من الأشكال. نحن لا نرغب في تصنيع أسلحة نووية. ليس لأن أميركا مستاءة حيال ذلك، ولكن الأمر يتعلق بمعتقداتنا الخاصة. فنحن نعتقد أن الأسلحة النووية تمثل جريمة ضد الإنسانية ويجب أن لا يتم تصنيعها، كما يجب القضاء على تلك الأسلحة النووية الموجودة بالفعل في العالم بأسره. ذلك هو اعتقادنا. فهو لا يتعلق بالولايات المتحدة على الإطلاق. إذا لم يكن لدينا هذا الاعتقاد، وقررنا حينها تصنيع أسلحة نووية، فلم تكن لتتمكن أية قوة من منعنا، تماما مثلما أنها لم تكن قادرة على منع ذلك في بلدان أخرى - فهي لم تتمكن من منع تصنيع الأسلحة النووية في الهند وباكستان وكوريا الشمالية».

خطاب مشهد السنوي

وفي كل عام، يلقي خامنئي خطابه الأكثر أهمية بمدينة مشهد الإيرانية في اليوم الأول من فصل الربيع، بداية السنة الإيرانية الجديدة. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان الخطاب الذي ألقاه في العام الحالي لافتا للأنظار، حيث من الواضح أن خامنئي قد خفف من حدة موقفه حيال المحادثات. وللمرة الأولى، حتى في الوقت الذي أعرب فيه عن تراجع تفاؤله حيال المفاوضات المباشرة مع الولايات المتحدة، صرح خامنئي قائلا: «ولكني لا أعترض عليها». وأثناء إشارته إلى أنه على ما يبدو أن واشنطن ليس لديها أية رغبة في إكمال المفاوضات النووية والتوصل إلى حل لهذه المشكلة، ذكر خامنئي على الرغم من ذلك أن حل ذلك النزاع «قريب للغاية وبسيط أيضا».

ماذا بعد ذلك؟

وفي ظل تحكم خامنئي في السياسة الإيرانية وشكه العميق في نوايا الولايات المتحدة الأميركية تجاه الجمهورية الإسلامية، فإن تحسين العلاقات بين إيران والولايات المتحدة سيكون أمرا صعبا، وخاصة في حالة ثبات سياسات الولايات المتحدة الأميركية التي تتبعها منذ زمن بعيد، مثل التصعيد المستمر للعقوبات، دون تغيير. ولكن تحسين العلاقات لا يُعد أمرا مستحيلا، وذلك لأنه من الممكن بالفعل توافق أهم المصالح الخاصة بكل من طهران وواشنطن في ذات الوقت.
وأظهر انتخاب روحاني باعتباره الرئيس الإيراني الجديد رغبة الشعب الإيراني في وضع نهاية حاسمة لعصر أحمدي نجاد، وأنه قد أوجد فرصة لكل من إيران والمجتمع الدولي للمضي قدما نحو المزيد من العلاقات البناءة. فتلك الفرصة إما أن يتم استغلالها أو تجاهلها.
* أكبر جانجي: صحافي إيراني منشق. تعرض للسجن في طهران من عام 2000 حتى عام 2006، وفي الوقت الحالي تمنع كتاباته في إيران. (فورين آفيرز)



معارك الظل في سوريا... محاربة «داعش» وإعادة بناء الدولة

سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
TT

معارك الظل في سوريا... محاربة «داعش» وإعادة بناء الدولة

سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)

عند مداخل دمشق المتفرعة من جهة أوتوستراد المزة، وقبيل الوصول إلى ساحة الأمويين يتوزع شبان بمظهر شبه عسكري على جانبي الطريق يبيعون أعلاماً ورايات احتفال بـ«يوم التحرير»، يقابلهم في الشوارع الأضيق والنواصي المؤدية إلى أحشاء المدينة نساء بأثواب طويلة وحجاب يغطي نصف الوجه أحياناً، يجرجرن طفلاً او اثنين، ويحملن أرغفة خبز للبيع. تكدس النسوة الأرغفة فوق بعضها بعضاً وتدفع بها إلى المارة ونوافذ السيارات بلا غطاء أو كيس يحميها من الأدخنة العابقة برائحة المازوت والأتربة المتطايرة من أحزمة البؤس والدمار المطبقة على العاصمة.

منذ بعض الوقت تحول بيع الخبز بهذه الطريقة «مهنة»، نسائية إلى حد بعيد، انتعشت أكثر مع ازدياد الفقر والعوز؛ فتذهب النساء للانتظار في طوابير الأفران لشراء حصة من الخبز يعدن لبيعها مقابل مبلغ إضافي صغير، ويعاودن الاصطفاف في الطوابير، وهكذا دواليك حتى ساعات متقدمة من الليل. المشهد لا يقتصر على دمشق ومحيطها، بل يتكرر على امتداد المدن والمناطق السورية التي زرتها من حمص وإدلب وحلب، وكأن المشهد النسائي هذا أصبح جزءاً من نسيج الأزمة المستمر وأحد مقومات الصمود اليومي للسوريين.

مشهد لمدينة دمشق (الشرق الأوسط)

دمار مديد

ولئن كانت النساء بوجوههن المنهكة وأيديهن المخشوشنة خير شاهد على نكبة عصفت بالبلاد لنحو 15 عاماً، فإن الدمار المديد الذي لا يحدّه نظر، يشهد هو الآخر على هول ما كان. أحياء وضواحٍ كاملة سويت بالأرض تطوّق دمشق وتكاد تخنقها بأتربتها وبقايا الردم فيها، كما وتسود الحواضر الكبرى وأريافها، حيث الركام واللون الرمادي الأغبر يمتد على مساحات شاسعة من البلاد. فأن تقود سيارتك لأكثر من 350 كلم عبر الأراضي السورية ولا ترى شجرة أو حيّاً أو بيتاً ناجياً، يعني أنك تعاين عملياً ما خلفته لأكثر من عقد من الزمن، آلة قتل وتدمير وانتقام أقرب ما يكون إلى الثأر الشخصي. فحجم الخراب وشكله لا يعكسان مجرد معارك بين أطراف متنازعة وتفوق عسكري لجهة على أخرى، وإنما يكشف عن نية واضحة بتصفية الناس وأرزاقهم، ودفن أي حلم أو بصيص أمل لديهم بالعودة إلى الديار. فما لم يقضِ عليه القصف بشكل مباشر، حُرق ونُهب وتصحّر عن عمد. لكن العودة تتم وإن ببطء شديد ودفع ذاتي.

وحدها فقاعات قليلة نجت في دمشق وأسواقها، أو خارجها من المناطق والمدن، وازدهر بعضها، لحسابات طائفية أو مصالح سياسية أو تجارية تتعلق بشكل أساسي بتصنيع الكبتاغون وترويجه.

دمار من جرَّاء المعارك بين قوات الأسد وفصائل المعارضة السابقة في مخيم اليرموك بضواحي دمشق (إ.ب.أ)

دمشق... الواجهة البراقة

كانت المدينة على موعد مع احتفالات استثنائية بالذكرى السنوية الأولى لهروب بشار الأسد، والاستعدادات تسير على قدم وساق. منصات ومكبرات للصوت وتنظيم للسير ولافتات تشدد على الوحدة الوطنية «شعب واحد... وطن واحد» وأن «الحقبة السوداء انتهت». برنامج الحفل يصل إلى الهواتف النقالة عبر رسائل قصيرة تشجع على المشاركة وحضور الفعاليات «للاحتفال بالحرية والأمل... وإكمال الحكاية». لكن أي حكاية؟ سؤال يتردّد في الشوارع ذاتها التي تُباع فيها الأرغفة على الأسفلت وتشهد احتفالات النصر.

فهنا، تكثر الحكايات وتتشعب حتى تكاد تتناقض كمثل فقاعات الأمكنة التي تتجاور ولا تلتقي. ثمة انقسام عمودي حاد في وجهات النظر وتراشق يشبه إلى حد بعيد مرحلة 2011 حين انقسم السوريون إلى حد القطيعة بين مؤيد ومعارض، مقابل إصرار رسمي واضح على تصدير صورة مصقولة عن المرحلة.

بهو فندق على الطراز الدمشقي القديم في منطقة باب توما (الشرق الأوسط)

معركة الأمن الصامتة

خلف الواجهة الاحتفالية، تُدار معركة أخرى أقل صخباً وأكثر تعقيداً. «يشكل (داعش) والمهاجرون (المقاتلون الأجانب) تحديداً التحدي الأبرز بالنسبة لنا» يقول مصدر أمني سوري رفيع مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، لافتاً إلى أن الاعتقال و«التحييد» يتمّان بشكل دوري. أما كيف يتم ذلك (وهو مصطلح شائع في تركيا يستخدم ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني)، فتتقاطع المعلومات مع مصدر آخر يفيد بأن «العمل الأمني يجري بدقة وحرفية وإن لوائح المنتمين إلى تنظيمات متطرفة تحت مظلة عريضة هي (داعش)، موجودة لدى الأجهزة الأمنية وهي تقوم بتعقبها». وأضاف: «نعرفهم واحداً واحداً ونقوم برصدهم ووضعهم تحت المراقبة. كما أن النظام السابق ترك آلية عمل وتعقب دقيقة جداً نعتمد عليها حتى الآن إلى درجة كبيرة».

رجال أمن سوريون في ساحة سعد الله الجابري في حلب ليلة الاحتفال بسقوط نظام الأسد في 7 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)

التقيت المصدرين قبل أيام قليلة على حادثة تدمر الأخيرة، لكنها حين وقعت، لم تبدُ خارج السياق العام للقاءات وما كشفت عنه المعلومات المتقاطعة. ذاك أن المسؤولين والأشخاص في مواقع أمنية دقيقة بدوا مدركين مسبقاً لهذا الاحتمال بصفته واحداً من المخاطر الأمنية المتعددة، لا سيما بعد انضمام سوريا رسمياً إلى تحالف «محاربة الإرهاب».

ولخّص مصدر هذه المخاطر بثلاثة أنواع من المواجهات «أولاً المواجهة مع (داعش) ومتفرعاته، وهي تجري بحذر شديد؛ لأنها تهدد الرئيس أحمد الشرع بشكل شخصي، وثانياً المواجهة مع (قسد) وهي تهدد الدولة الناشئة وهويتها على المدى البعيد، وثالثاً مواجهة باردة وأقل حدة مع إسرائيل بسبب أحداث السويداء».

وفي رواية شبه رسمية، لم يستبعد المصدر الأمني أن يشكل المفرج عنهم من مخيم الهول «قنابل موقوتة» يتم استغلالها لزعزعة الأمن داخلياً وتلبية رغبات المتطرفين الرافضين التحول الحاصل في شكل السلطة من جهة، ولإطلاق رسالة للخارج مفادها أن سحب ملف «محاربة الإرهاب» من يد «قسد» لن يجدي؛ إذ يمكن أن «يفتح الباب أمام قطعان من الذئاب المنفردة» من جهة ثانية.

هل تكفي المقاربة الأمنية؟

تحدي الدولة ليس أمنياً فقط، وهذه المقاربة الصرفة لا تحظى بإجماع داخل دوائر السلطة نفسها. فبعكس من يرى في «داعش» والتطرف «عقدة تقنية» يمكن حلها بمقاربة أحادية، يرى مسؤول مقرب من «الهيئة السياسية» أن «المشكلة الفعلية تكمن في استيعاب تلك الكتلة البشرية الهائلة التي نشأت خارج أي سياق اجتماعي طبيعي لسنوات عدّة، خارج منظومة التعليم أو الأسرة أو أي شكل ناظم للحياة».

طلاب يحضرون الفصول الدراسية داخل مدرسة معر شمارين الابتدائية وتبدو جدرانها مليئة بثقوب الرصاص من القتال بين القوات الموالية للرئيس السابق بشار الأسد والمعارضة بقرية معر شمارين في ريف إدلب بسوريا 19 أكتوبر 2025 (أ.ب)

وأضاف: «التحدي الكبير هو في استيعاب هؤلاء ودمجهم ضمن مفهوم الدولة وإعادة تأهيلهم لهذا الغرض». وقال: «كما تم استقطاب هؤلاء المراهقين إلى طيف معيّن من التشدد، يجب اليوم العمل على نقلهم إلى مكان وسطي. فإذا كان الرئيس نفسه يقول إننا اليوم نغادر الحالة الفصائلية وننتقل إلى مفهوم الدولة، فكيف يكون هذا الانتقال على مستوى القاعدة؟ هل بشكل فردي وأمني فحسب أم مجتمعي أيضاً؟».

وفي السياق، ذهب أحدهم لتفسير عبارة «أطيعوني ما أطعت الله بكم» التي أطلقها الشرع من الجامع الأموي ليلة الاحتفال الكبير, وأثارت غضب الشرائح المدنية والعلمانية المعارضة، إنها رسالة لشريحة أخرى هي التي تضعها الدولة اليوم نصب أعينها وتسعى لاحتواء غضبها عبر دعوة «دينية» صريحة لـ«إطاعة الحاكم وعدم الخروج عنه».

صورة نشرتها وزارة الداخلية السورية لجانب من عملية ضد «داعش» في ريف إدلب الاثنين 1 ديسمبر 2025 (الداخلية السورية)

ولئن يبدو الكلام أسهل من الفعل، إلا أن الواقع المعاش أصعب بأشواط.

فإذا كان الأمن مضبوطاً إلى حد بعيد في المدن الرئيسية كدمشق وحلب عبر الانتشار الأمني الكثيف وبـ«استخدام تقنيات حديثة منها المسيَّرات»، وذلك في فترة حساسة شهدت تجمعات هائلة تزامناً مع الاحتفالات بالذكرى السنوية الأولى لسقوط النظام السابق، فإن المساحات الشاسعة في الأرياف، حيث الدمار الهائل والفقر المدقع والبطالة المستشرية، متروكة لحالها إلى حد بعيد. وبينما تتوزع حواجز الأمن العام على الطرقات الرئيسية بين المحافظات، فإن الحواضر الجانبية وأزقة البلدات متروكة لحالها. ولعل الاستثناء الذي تمتعت به «إدلب» المدينة لفترة من الزمن، وكثر الحديث عنه من خدمات ورعاية وإدارة، لم يسحب منها فقط بعد التحرير وإنما جاء هذا الانفتاح على بقية المناطق السورية ليضعها أمام استحقاقات الحياة الفعلية، لتدرك المدينة وريفها المهمل والمدمّر أن الوضع كان أقرب إلى «إدارة أزمة»، لا يزال إرثها حاضراً حتى في اللغة اليومية، كأن يتخاطب العسكريون فيما بينهم ومع المدنيين العابرين على الحواجز بتسمية «شيخ» و«استعن بالله» للقول امض في سبيلك.

ملصق لدائرة الهجرة والجوازات السورية عند المعبر الحدودي مع لبنان في جديدة يابوس (الشرق الأوسط)

وهناك بين ريفي إدلب وحلب على سبيل المثال قرى ومدن صغيرة معروفة بتوجه الأهالي فيها وانتمائهم، وليست كلها على ذاك الاعتدال وتلك الوسطية التي تعتلي منصات دمشق. توجهات تجعل السائقين يسلكون طرقاً أطول لقطع المسافات، لكن «أقل خطورة» بظنهم.

وفي ذلك الشريط يشكل الشبان، لا سيما الأصغر سناً، وقود الفصائل المسلحة التي لم يبق منها في الميدان في السنوات الأخيرة إلا «هيئة تحرير الشام» بشكل أساسي، وانضم الآلاف منهم بعد سقوط النظام السابق إلى الأمن العام أو الجيش وليس لهم اليوم مورد رزق آخر. فحتى منازل أهلهم المدمرة أو أرزاقهم المنهوبة لا يملكون ثمن ترميمها، ويجد كثيرون منهم في المنامة والمأكل في الثكنات العسكرية عوضاً عن سوء حالهم خارجها.

نسيج هويات مقاتلة

والحال، إن تلك هويات تبلورت في سنوات التسلح، وتحديداً ما بعد 2013، ولكن جذورها الاجتماعية تعود إلى ما قبل ذلك بزمن. فإذا كان اليوم يطلق على كل من هو مرتبط بالسلطة الجديدة وصف «إدلبي» نسبة إلى إدلب معقل حكم «هيئة تحرير الشام» خلال الأعوام التسعة الأخيرة، وهو وصف يحمل تعالياً في دمشق وحلب، فإن فهم التباينات الاجتماعية والاقتصادية بين بلدات تلك الأرياف نفسها يعين على فهم الخيارات السياسية والعسكرية اللاحقة لأبنائها. فالبلدات المعروفة تقليدياً برابطة العائلة كوحدة اجتماعية متعاضدة، وامتلاك أراضٍ زراعية ثم الاعتماد على الهجرة في منتصف الثمانينات، آثرت تعليم الأبناء والبنات وتوجيههم نحو المهن الحرة والوظيفة مع الحفاظ على سلوك ديني اجتماعي تقليدي يوصف بـ«التدين الفطري»، وهم ممن اختبروا التيارات القومية والعروبية قبيل صعود «البعث» بقبضته الأسدية.

صورة ملتقطة يوم 28 نوفمبر 2024 في إدلب تظهِر مقاتلين من الفصائل السورية المسلحة خلال المعركة (د.ب.أ)

يقابل هذا النموذج بلدات صغيرة تقوم على العائلات الفرعية التي اعتمدت على العمل الزراعي الموسمي وسلك الشرطة والأمن في النظام السابق، وفرحت لانضمام أبنائها إلى «جبهة النصرة» حين بدأت بالاستقطاب؛ لما شكّله ذلك من انتظام في مسلك عسكري معارض لنظام الأسد، ولكنه أيضاً ذو بعد ديني واضح كان ممنوعاً اعتناقه. وإلى هذا، تأتي مناطق شاسعة لجهة البادية تحكمها القبيلة والعشيرة ونظام «الفزعة» الذي يعلو ويخبو حسب الظروف والمصلحة.

وهؤلاء كلهم، وإن تشاركوا في كونهم من العرب السنة، تباينوا في سلوكياتهم وانحيازاتهم واصطفافاتهم؛ ما انعكس لاحقاً في قدرة الفصائل المتشددة والأكثر تشدداً على اختراقهم وتجنيدهم مقابل من بقي عصياً عليها، فعملت على تسليط الطرف على المتن.

إدلب ومفاتيح دمشق

وإذ يقول الأمنيون اليوم إنهم يعرفون المتشددين «واحداً واحداً»، فلأنهم يعتمدون أيضاً على معرفة الجهاز الأمني في «الهيئة» بالفصائل المتشددة والمنتسبين إليها في تلك البلدات ممن حاربتهم خلال السنوات الأخيرة كـ«جند الأقصى» و«حراس الدين» الموالي لـ«القاعدة»، كما ويعتمدون كثيراً على المخبرين. ولا تزال إدلب إلى حد بعيد أشبه بـ«المعقل الآمن» الذي يملك مفاتيح دمشق ومفاصلها ولا يزال يعمل بوتيرته السابقة. يكفي مثلاً أن المحاكم والسجلات الإدارية والمدنية لا تزال تخضع لـ«المحاكم الشرعية» التي حكمتها منذ منتصف 2013، بعكس بقية المناطق السورية ولا سيما العاصمة، حيث تصب المعاملات كافة.

عملية أمنية في مدينة تدمر عقب الهجوم الإرهابي على وفد سوري - أميركي مشترك (الداخلية السورية)

ويميّز محدثي بين أنواع من التجنيد قد تعتمدها «داعش» أو المجموعات المتفرعة منها لضرب الأمن بالاعتماد على تلك البنى الاجتماعية المختلفة؛ التجنيد الآيديولوجي، وهو الأسرع والأكثر فاعلية، خصوصاً بين الأصغر سناً الذين قطعوا شوطاً بتبني الأفكار المتطرفة ولم يستوعبوا بعد التحولات الجذرية التي شهدتها سوريا في عام واحد. والتجنيد بالمال وعنصر «الانتقام» بالاعتماد على حالة الفقر المستشرية بين من فقدوا مصدر دخلهم وسلطاتهم المعنوية، ومن ثم التجنيد ضمن بيئة «المهاجرين» أو المقاتلين الأجانب الغاضبين على ما حل بهم من تخلٍ ولم يعد لديهم عملياً ما يخسرونه.

الدولة الناشئة ونموذج «الصحوات»

حين عاد الرئيس السوري أحمد الشرع من زيارته الأخيرة إلى واشنطن كان محملاً بمهمة عسيرة؛ «مواجهة وتفكيك الشبكات الإرهابية» من بقايا تنظيم «داعش» و«الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله» و«حماس»، حسب ما قال حرفياً المبعوث الأميركي إلى سوريا توم براك. وفي حين تولت إسرائيل ضرب «حزب الله» في لبنان و«حماس» في غزة، بقي على سوريا مواجهة ذيولهما لديها بينما الأصعب يبقى مقارعة «داعش» ومتفرعاته ممن كانوا حتى أمس قريب «رفاق سلاح» لـ«هيئة تحرير الشام». وفي حين يترقب كثيرون شكل هذه المواجهة وسبل ذلك التفكيك على الساحة السورية، سيما في غياب جيش متماسك ذي عقيدة قتالية واضحة، فإن واشنطن من جهتها سبق واختبرت صيغة مشابهة من المواجهة السنية - السنية في عراق ما بعد صدّام، تحت مسمّى «الصحوات».

الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة يلوّحان للسوريين خلال عرض عسكري في دمشق (وزارة الدفاع السورية)

وقام نموذج الصحوات بشكل أساسي على من وصفهم مصدر عراقي مطلع بـ«تحالف المتضررين» من تنظيم «القاعدة» وبالاعتماد على حيّز جغرافي محدد هو محافظة الأنبار، ذات الانتماء العربي السني والتدين الاجتماعي - التقليدي. وعليه، فإن نموذجاً مشابهاً قد يقوم اليوم في سوريا على تحالف متضررين من «داعش» في الشمال والشمال الشرقي وبقيادة رسمية هي الدولة الناشئة المطلوب منها محاربة التطرف.

وأوضح المصدر العراقي الذي واكب من كثب مرحلة تأسيس الصحوات واندثارها لاحقاً مع حكومة نوري المالكي، إن العشائر في منطقة الرمادي (تحديداً البوريشة والبوعلوان والبوفهد، وبدرجة أقل الدليم) كانت عماد تلك الحرب؛ لما ألحقته «القاعدة» من ضرر بتجارتهم ومصالحهم ونسيجهم الاجتماعي.

وإذ كان بعضهم أُرغم على المبايعة في مرحلة ما، فإن التصادم لم يتوقف يوماً، ومثال عليه مقتلة قبيلة البونمر التي أعدم التنظيم منها نحو ألفي رجل. يقابل ذلك المثال في الحالة السورية قبيلة الشعيطات التي وقفت في وجه «داعش» ورفضت مبايعته؛ فارتكب فيها إحدى أكبر المجازر وقتل نحو 1800 من شبانها دفعة واحدة.

وفي تقاطع آخر يشبه تحديات المرحلة الدقيقة التي تمر بها سوريا، حيث التوازن الهش بين تحديات الأمن وبناء الدولة المرجوة، كان يطلب من كل من يريد الانضواء تحت لواء الصحوات «إعلان البراءة من (القاعدة) والانخراط في قوات الأمن ضمن الصحوات». وتم ذلك بتنسيق مع القوات الأميركية على أمل «تحويل تلك الكتلة السكانية (سنية عشائرية) رافعةً سياسية من ضمن مجموعة روافع سياسية أخرى».

شعارات في دمشق مع اقتراب ذكرى سقوط الأسد (د.ب.أ)

من السلاح إلى السياسة

ويلفت المصدر العراقي إلى نقطة أساسية في تحول مسار الصحوات من دورها الأمني إلى السياسي، فيقول: «على الرغم من القيمة الأمنية الكبيرة لتلك الصحوات في مرحلة ما، وما أنجزته على الأرض، فإنها لم تنجح في الانتقال من الدور الأمني/ العسكري إلى العمل السياسي. فعندما انخرط قادتهم في السياسة والانتخابات لم يحققوا تمثيلاً فعلياً ولم يخترقوا القواعد الشعبية».

وذلك تحديداً هو بيت القصيد في الحالة السورية، أي «التحول الجمعي من الحالة العسكرية الفصائلية في حيز جغرافي محدد، إلى حالة الدولة بمفهومها السياسي والإداري الأوسع والأشمل، والعسكري لجهة (احتكار العنف) ضمن مؤسسة جيش وطني واحد».

وبين امرأة تبيع الخبز على ناصية شارع، وشاب يتراقص في الساحات، وأجهزة تعمل على تثبيت الأمن وشكل الدولة، تبدو سوريا اليوم كبلد بفقاعات كثيرة. واجهة براقة تُعدّ للاحتفال كبطاقة بريد منمقة، وعمق اجتماعي وأمني هشّ لم تُحسم معاركه بعد.


«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.