هابرماس ومفهوم الحق كما يقرأه ماتيو دوفلام

عارض التفسير الوضعي للقانون وأكد ضرورة النظر إليه من زاوية أخلاقية معيارية

هابرماس ومفهوم الحق كما يقرأه ماتيو دوفلام
TT

هابرماس ومفهوم الحق كما يقرأه ماتيو دوفلام

هابرماس ومفهوم الحق كما يقرأه ماتيو دوفلام

كتب الباحث ماتيو دوفلام، مقالا مكثفا باللغة الفرنسية، تحت عنوان: «مفهوم الحق في نظرية الفعل التواصلي عند يورغن هابرماس»، في مجلة «الانحراف والمجتمع»، العدد 18 سنة 1994.
وحسب دوفلام، يتحدد مفهوم الحق عند يورغن هابرماس، في العلاقة الموجودة بين «النسق» و«العالم المعيش». ففي السنوات الأخيرة التي سيعمل فيها هابرماس على تطوير نظريته في الحق، نجده يربط بشكل وثيق بين سوسيولوجية الحق وسوسيولوجية الأخلاق. على هذا الأساس، سيصير ممكنا مناقشة الانتقادات الرئيسة، ونقاط النقاش المرتبطة بالمقاربة الهابرماسية للحق، من هذا المنظور. وسينصب الاهتمام على النقاط التالية:
حسب الباحث ماتيو دوفلام، افتراضات نظرية الفعل التواصلي، يجب فهمها في ضوء سوسيولوجية الحق عند هابرماس، وكذلك إمكانات وحدود الوضعية المثالية للكلام في العلاقة الموجودة بين الحق والأخلاق. وفي الأخير، يقول دوفلام: «نؤكد في البداية أن هذه المساهمة لا تهدف إلى إعطاء مقدمة مفصلة حول نظرية الفعل التواصلي. ما سأقوم به هنا، هو عرض مختصر للمبادئ الأساسية لنظرية هابرماس، مع إيلاء الاهتمام بشكل خاص، لمكانة الحق في أعماله الأخيرة، وأخص بالذكر الحق والديمقراطية».
يجب التذكير بأن نقطة الانطلاق بالنسبة لدوفلام، في نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس، يتأسس على التمييز بين:
أولا، مفهوم عقلانية الفعل. العقلانية المعرفية - الأداتية الموجهة نحو النجاح.
ثانيا: العقلانية التواصلية للنشاط الموجه نحو التفاهم.
العقلانية المعرفية - الأداتية، تقتصر على مناقشة حالة الأشياء في العالم الموضوعي. الفعل العقلاني يحيل إلى استخدام عقلاني لوسائل محددة، من أجل الوصول إلى أهداف محددة. ومع ذلك يعتبر هابرماس أن الواقع يكون هدفا متضمنا، على نحو داخلي، في علاقة بجماعة الفاعلين التواصليين. فالنشاط العقلاني لا يكون مفهوما إلا في علاقته بواقع معطى في مجتمع معين. والإجماع لا يتم تحصيله إلا عن طريق التشارك، أي الأفعال الكلامية. فالعقلانية التشاركية تراهن على النقاش، وتسلم بأن التفاهم المتبادل ممكن بين الفاعلين، من طريق أفعال اللغة، ما يعني أن الأفعال اللغوية يجب أن تكون موضع مناقشة.
إن اللغة حسب هابرماس، مرتبطة بالاستعمال العقلاني المقترن بالوضوح والابتعاد عن الآيديولوجية، حتى لا يكون هناك حكم مسبق يؤثر في تحقيق التفاهم والاتفاق، من خلال النقاش الذي يدور بين الذوات – الجماعات - الفرقاء، في الفضاء العمومي. كما يحدد هابرماس مجموعة من الشروط التي تجعل إخضاع الأفعال الكلامية قابلة للشك ومتفهمة، وهو ما تشترطه الحقيقة الموضوعية. فالصدق المعياري يجب أن يميز الفاعلين التواصليين، عندما تتحقق، حسب هابرماس، ادعاءات الصلاحية في الأفعال الكلامية، يمكن، حينها، للفاعلين التواصليين أن يستدخلوا في الخطاب الحجج القوية.
من الناحية العقلانية، فهابرماس يميز بين نوعين من الخطاب، حسب دوفلام: الخطاب النظري الذي ينظر للحقيقة بوصفها ملفوظات، والخطاب الأخلاقي – العملي، الذي ينظر للحقيقة من حيث صحة الأفعال الكلامية. ما يؤكد عليه هابرماس، هو أن تكون الحجة الأقوى هي محط اهتمام الذوات في الوضعية المثالية للكلام. ومع ذلك يلح هابرماس على أنه لا يمكن الطعن في أفعال الكلام فقط؛ لأنها تغترف تعريفاتها من سياق العالم المعيش Mond Vécu للذوات، الذي يشكل الإطار الذي تتكون فيه خبراتهم وتجاربهم. فمثل هذا الادعاء قد يجعل الذوات ترفض اشتراط الصدق في أفعال الكلام الذي تتلفظ به الذوات الأخرى. وهو ما سيؤثر في العملية التواصلية بين الذوات. لذلك يجب الوعي بالفروقات التي تحيل عليها الأفعال الكلامية وتتأسس عليها الحقيقة في كل من العوالم التالية، (العلوم تأخذ بالمواقف الموضوعية)، (الحق والأخلاق يأخذان بالمواقف المعيارية)، و(الفن يأخذ بالمعايير الجمالية) حسب دوفلام.
إن عقلنة العالم المعيش يمكن أن تقود النسق؛ لأن العالم المعيش في حاجة ماسة إلى إعادة إنتاج وتجريد الموارد المادية، لتنظيم علاقته مع البيئة التي ينهل منها موارده. في هذا الصدد، نجد هابرماس يركز، بشكل أساسي، على نسقي السلطة والاقتصاد. فتاريخيا، تم تفكيك العالم المعيش من طرف هذين النسقين، وهما نسقا السلطة والاقتصاد. والآن يشتغلان في استقلالية تامة. فالنسق السياسي يرتكز على السلطة، بينما النسق الاقتصادي يرتكز على المال، ما يجعلهما يتمايزان عن العالم المعيش. فهابرماس يركز على ضرورة تنسيق الأفعال الداخلية والإجراءات المتخذة من طرف النسق السياسي والاقتصادي، في إطار نوع من التفاهم المتبادل. فالأفعال الداخلية للنسقين السياسي والاقتصادي، اللذين يمتلكان السلطة والمال، يمكنهما التغلغل في العالم المعيش، والتأثير فيه. وهذا ما يرفضه هابرماس؛ لأنه سيؤدي إلى استعمار العالم المعيش. لذلك يجب استبدال الأفعال التي تقود نحو النجاح، بإعطاء أولوية للتفاهم، أي للفعل التفاهمي.
يجب أن نستحضر في هذا السياق، حسب الباحث ماتيو دوفلام، مفهوم القانون عند هابرماس الذي يلعب دورا مهما في تنظيم العلاقة بين العالم المعيش والنسق. فهو يؤكد على قدرة القانون على تنظيم المواقف المعيارية المعقدة للجماعة التواصلية، وتنظيمها بعيدا عن أي تأويل أخلاقي. وهو ما سيجعل هابرماس يركز على سوسيولوجيا القانون عند فيبر، الذي يحتل عنده القانون أساس الحداثة وميسما لها.
ويرجع ذلك بالنسبة لماتيو دوفلام، إلى تميز المؤسسات القانونية، بقدرتها على تقديم بدائل جديدة للشرعية في العالم الحديث. وهي بدائل مختلفة جدا عن الشرعيات التي تقدمها المعتقدات الدينية.
يؤكد هابرماس على أن الخطأ الذي وقع فيه فيبر، هو تأكيده على أن القرارات القانونية تناقش ضمن نسق السلطة السياسية، وهو نسق لديه كامل السيادة والسلطة. في حين يقول هابرماس إنه في مجتمع ما بعد الدولة الوطنية والدولة الأمة، لا يمكن للشرعية إلا أن تمر عبر الفضاء العمومي الذي ينهل موارده من العالم المعيش حيث توجد الذوات. ولتكريس هذا التصور وتأصيله فلسفيا، سيعود هابرماس إلى الأخلاق لصياغة نظرية في المناقشة، باعتبارها نظرية ذات أفق سياسي تؤطر العالم المعيش والفضاء العمومي، بأخلاقيات تتيح لجميع الذوات التي تمتلك القدرة على المحاججة والفعل العقلاني، تبرير ادعاءاتها للصلاحية. وبالتالي، فهذا لن يكون إلا عبر وسيط القانون، الذي يلزم السلطة باحترامه والذوات كذلك. ما سيغلق الباب أمام التذرع بأي دعاوى دينية في بناء شرعية سياسية معينة. يتقاطع العالم المعيش والنسق في الواقع، عبر وسيط هو القانون، الذي يعمل كوسيط وكقوة تمنح العالم المعيش الشرعية التي يتأسس عليها النظام السياسي والاقتصادي، من أجل ضمان التقدم بشكل آمن. وبعبارة أخرى، يقول هابرماس، إن شرعية القانون تستمد صلاحيتها من إتاحتها الإمكانية لكي يشتغل العالم المعيش، باستقلالية تامة عن نسق السلطة والاقتصاد الذي يغترف، في نهاية المطاف، شرعيته من هذا العالم الذي لا يمكن، بأي حال من الأحوال، قبول التأثير فيه عن طريق المال أو السلطة.
يبين هابرماس أيضا، في كتابه «الحق والديمقراطية»، أن القانون بصفته وسيطا نسقيا، قادر على التأثير في بنيات التواصل داخل العالم المعيش. هابرماس يلمح هنا إلى تقنين العلاقات الاجتماعية داخل المجتمعات الحديثة التي تكثف من سيطرة القانون. وفي هذا السياق، ميز هابرماس بين أربعة اتجاهات تاريخية في تعاطيها مع وسيط القانون حسب دوفلام:
أ- الدولة البرجوازية التي سعت إلى تنظيم العلاقات والنظم الاجتماعية عن طريق القانون العام.
ب- دولة القانون المدني البرجوازية التي صكت دستورا يحمي المواطنين ضد تعسف السلطة السياسية.
ج- الدولة الديمقراطية التي تضمن الحريات المدنية، والتي اعترفت للأفراد بحق الممارسة الاقتصادية والسياسية بكل استقلالية، كما ضمنت الاعتراف بالآخرين.
د- دولة الرفاه: التي ضمنت الحقوق المدنية خارج الهياكل البيروقراطية للنسق.وانطلاقا من هذه التصورات يشيد هابرماس تصوره للدولة، على أساس مكتسبات دولة الرفاه التي أصبحت فيها القوانين تنظم بشكل صارم العلاقات بين الهياكل البيروقراطية داخل الدولة. وهو ما يمنع استعمال المال للتأثير في الفضاء العمومي والعالم المعيش، إلا بشروط صارمة من التأثير في القرارات أحيانا، ما يجعل منه وسيطا نسقيا لكنه قادر على ضمان الحقوق.
يضيف ماتيو دوفلام: «مباشرة، بعد عمله الشهير نظرية الفعل التواصلي، سيكرس هابرماس كتاباته التي ستلي هذا العمل، لتطوير نظريته حول القانون، بصفته مؤسسة ووسيلة وسيطة، يمكنها معيرة العلاقات بين العالم المعيش والنسق. في كتابه الحق والديمقراطية، والاندماج الجمهوري، وما بعد الدولة الأمة، نجد هابرماس منشغلا بشكل جدي، في التفكير في العلاقة بين النسق والعالم المعيش. وهو ما سيفرض على هابرماس التمييز بين تصورين أساسيين: تصور القانون كنظام، والقانون باعتباره مؤسسة. وما يشكل الرابط بينهما، هو الوظيفة التي يقومان بها، والمتمثلة في ضمان الحقوق. ما سيجعل هابرماس عرضة لانتقادات فرانك مشيلمان حول هذه الفجوة، التي يقيمها بين القانون كنظام والقانون كمؤسسة. فالحقوق غايتها ضمان وشرعنة الأهداف العليا للنظام الديمقراطي. فالقانون من وجهة النظر هذه، يحمي الأفراد ويهيئ لهم البيئة المثلى داخل العالم المعيش، حتى لا تؤثر فيه السلطة والمال.
سيعترف هابرماس، في مرحلة لاحقة، بوظيفة الوساطة التي يقوم بها القانون، وهو ما سيجعله يميز بين نوعين من القانون: القانون بصفته وسيطا بين المؤسسات والأفراد. والقانون بصفته نسقا يعطي الشرعية الأخلاقية في المؤسسات للقيام بعملها. فحين يوظف القانون في استعمار العالم المعيش، ويضفي الشرعية على نسق السياسة والاقتصاد، سيؤدي ذلك إلى العصيان المدني. غير أن العصيان المدني عند هابرماس، يجب أن يكون شرعيا، على الرغم من الإجراءات غير القانونية، فإن العصيان المدني لا يجب أن يؤدي إلى تعطيل النظام القانوني؛ لأن له طابعا رمزيا. لذلك يدعو هابرماس إلى أن تكون القرارات والإجراءات القانونية، تمنح صياغتها من العالم المعيش لكي تكون شرعية ومبررة».
إن هابرماس يعارض بشدة التفسير الوضعي للقانون، الذي ينظر إليه من منطلق الوسيلة. ويؤكد على ضرورة أن ننظر للقانون من زاوية أخلاقية معيارية؛ لأنه الكفيل بتنظيم الحياة الاجتماعية بين النسق والعالم المعيش للفاعلين. وهذه المعاير لا يحبذ هابرماس أن تجد سندها في السلطة القهرية، بل يجب أن يتأسس القانون على معايير أخلاقية. وهو ما سيتعرض بصدده هابرماس لانتقادات شديدة؛ لأنه لا يمكن بأي حال أن ترتبط القوانين بالأخلاق، وتكون في نفس الوقت ملزمة. وهو ما يرفضه هابرماس بدعوى أن المعايير الأخلاقية تسمح للذوات ببناء الإجماع، انطلاقا من عوالمهم المعيشة بناء على العقل والحجج العقلانية في التبرير.
هكذا، نجد أن الشرط الأول الذي يضعه هابرماس لضمان سيرورة عقلانية للخطاب في دولة الحق، هو أن يكون جميع الأفراد في الوضعية المثالية للكلام، مستفيدين من شروط متساوية للتعبير والتشاور حول القضايا المطروحة. ففي الوضع المثالي للكلام، تطرح الحجج الأخلاقية والقانونية والعملية للتشاور بين الذوات المعنية. وعلى أساس التشاور، يتم تعميم ما أجمعوا عليه، ويصبح ملزما أخلاقيا، بما يضمن مصالح الجميع، ويحافظ على العلاقات التذاوتية كمصدر وحيد للشرعنة في المجتمع.
وهكذا تكون مقالة ماتيو دوفلام، التي حاولنا تقريبها من القارئ العربي، قد قبضت على المتن الهابرماسي. وهي مقالة نعتبرها ضرورية وموجهة لأي باحث يرغب في الاطلاع على أعمال هذا الفيلسوف المعاصر، الذي لا يزال حاضرا في النقاش العمومي، ومتدخلا في كل قضاياه وقضايا العالم. ويكفي حدسه بالدور الذي سيلعبه الدين مستقبلا في المجتمعات «المابعد العلمانية».

* أستاذ فلسفة



في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

جيمس بالدوين
جيمس بالدوين
TT

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

جيمس بالدوين
جيمس بالدوين

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ والروائي والمسرحيّ والناشط السياسيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل». وعندما نشر روايته «بلد آخر» (1962)، اختارت «الصنداي تايمز» الأسبوعية اللندنية المرموقة وصفه بـ«الزوبعة».

واليوم، وبينما يحتفل العالم بمئوية ولادته (في 2 أغسطس 1924)، تبدو تلك الأوصاف عاجزة عن إيفائه حقه لدوره اللامع في توظيف أدوات الخيال الأدبي لنقل النقاش حول المسألة العرقيّة في مجتمعات الولايات المتحدة إلى المستوى الشخصيّ لكل الأميركيين؛ ذوي البشرة البيضاء منهم، قبل السود. لقد تجرأ ابن حي هارلم الشعبيّ في نيويورك على نكء جروح مرحلة الفصل العنصري بكل آثارها النفسيّة العميقة، وكشف، بلغة وثيرة، عن مرارات تعتمل في قلوب المجموعتين على جانبي خط التفريق بين بني آدم وفق ألوان بشرتهم.

وقبل وقت طويل من وفاته بسرطان غادِرٍ في 1987، أصبحت كتاباته معياراً للواقعيّة الأدبيّة ومادة لا بدّ منها لفهم خليط الألم والتكاذب والنّدم الذي يملأ تاريخ الحياة الأميركيّة في القرن العشرين.

جاء بالدوين إلى الأدب من الصحافة، لكنّه كان قد حسم مبكراً اختياره لقضيته بانحيازه إلى الإنسان لمحض إنسانيته، فكانت مقالاته مثالاً متقدماً على استحضار روح الجرأة والشجاعة والمنطق الهادئ للتأثير على أهم الأسئلة التي طالما راوغ المجتمع الأميركي لتجنبها، فيما ألقت قصصه القصيرة ورواياته ومسرحياته بالضوء على معاناة الأفراد جرّاء تلك المراوغة المكلفة، مدققاً في كل الزوايا المظلمة التي حفرتها في الحياة الاجتماعية للأميركي العادي. على أن الاستماع اليوم لبعض من خطبه ومقابلاته المصورة تظهر كم وجدت روحه المحلقة صوتها الأعلى في الخطابة. لقد وقف ذات يوم أمام نخبة الأكاديميا البريطانية (بجامعة كامبريدج) كما شامان ينظر إلى ما وراء الأفق، وأنذرهم بأنه «لن يكون ثمة مستقبل للحلم الأميركي ما لم يكن الأفروأميركيين طرفاً فيه. هذا الحلم، إن كان على حسابهم، سيتحطم». لم يكن قلقه المزمن الذي لوّن خطابه نتاج يقينه بالفشل الكارثي للحلم الأميركي فحسب، بل وأيضاً جزعه من ذلك العجز الجمعي للشعب الأميركي عن التعامل مع تلك الكارثة. فأي بصيرة تلك، وأي جسارة على توصيف الظلام.

جمع بالدوين إلى موهبته الأدبيّة الظاهرة، ولغته المضيئة كما بلّورٍ صافٍ، قدرة بتّارة على استكشاف أوجاع ناس المجتمعات المعاصرة، واستقامة تفوق مجرد الصراحة في استدعاء مواضع الخلل المتوارية، وطرحها بكل عريها المخجل على العلن. لقد كان شخصية قلقة بامتياز، ولكن أيضاً مُقْلِقةً ومخلّة بالسلام الخادع الذي يتظاهر البعض به حفاظاً على أوضاع قائمة لمجتمع غارق حتى أذينه في لجة وهم الرضا عن الذات.

إن فلسفة بالدوين الأثيرة العابرة لمجمل تراثه الأدبيّ كانت دائماً وحدة المصير البشري بحكم الإنسانية المشتركة، ولذلك كان يرى أن مهمة المثقف المبدع لا تبتعد عن نطاق اكتشاف حر لمساحات القواسم المشتركة - على الرغم من وجود الاختلافات التي ينبغي عنده أن تكون مصدراً لإثراء الاتصال بين البشر، لا أساساً لخنقه - ليخلص إلى أن العائق الأساسي أمام تلك المهمة في حالة المجتمع الأميركي جبن أخلاقيّ ترسّخ في القطاع الأبيض منه ولم يَعُد يَسهُل اقتلاعه. على أن هذا التخلي، وفق بالدوين دائماً، لا يُلحق فقط أضراراً مدمرة بنفسيات الأفروأميركيين الذين تنكر عليهم إنسانيتهم، وإنما تسقط الأميركي الأبيض أيضاً في هاوية من الاستحقاق الظالم، وفقدان الحس الإنساني الأساسي، والتناقض القاتل.

انخرط بالدوين شاباً بالقراءة، ويبدو أنه لجأ إلى الأدب والأفلام والمسرح لتجاوز بيئته الفقيرة القاسية وهرباً من إغراءات الجريمة والمخدرات التي تفشت بين الشبان الأفروأميركيين بحكم الواقع الموضوعي لظروف عيشهم حينئذٍ فئة منبوذة. وكانت له في بداياته اهتمامات دينية تأثراً بزوج والدته الواعظ الإنجيليّ، لكنه سرعان ما بدأ، مع تفتح وعيه السياسيّ، بالتشكيك في منطق قبول السود للمبادئ المسيحية، التي استخدمت - في توظيف فجّ - لاستعبادهم. لكن تجربته في أجواء الكنيسة كانت مهمة كي يدرك أن لديه سلطة كمتحدث ومَلَكة كخطيب، ويمكنه التأثير على حشد من المستمعين.

بعد فترة وجيزة على تخرجه من المدرسة الثانوية بداية أربعينات القرن الماضي، اضطر بالدوين إلى العثور على عمل للمساعدة في إعالة إخوته وأخواته، بعدما أعجز المرض زوج والدته، لكن قناعة تكونت لديه بأن مستقبله سيكون في الكتابة، فانطلق يدبّج رواية بينما يجمع قليلاً من الدولارات بالعمل في وظائف بسيطة ومؤقتة إلى أن التقى ملهمه الأديب ريتشارد رايت في عام 1944، الذي تدبّر له أمر الحصول على زمالة يوجين إف ساكستون كي يتفرّغ للكتابة. ومع أن بالدوين بدأ يتلقى نوعاً من الاعتراف بموهبته من خلال قبول نصوص منه للنشر في مجلات مهمة، فإنه وبشكل متزايد شعَر بالاختناق والغربة عن المناخ الاجتماعي المسموم في الولايات المتحدة حينئذٍ، لينتهي به الحال إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث تكفلت أموال زمالة أخرى حصل عليها عام 1948 بتكاليف سفره، وفيها نشر روايته الأولى «أعلِنوا مولده من فوق الجبل» (1953) ومعظم أعماله التالية. ويشعر معظم من عرفوا بالدوين أن هذا الانتقال عبر الأطلسي كان جذرياً في مسار تطوره الفكريّ والأدبيّ، وفهم ذاته كأفروأميركي ينحدر من أسرة من المستعبدين تصادف أنه امتلك ناصية أدوات التعبير.

أمضى بالدوين الأربعين عاماً التالية متنقلاً في أرجاء أوروبا؛ حيث تعرّف على أشهر مثقفيها، مع زيارات قصيرة للولايات المتحدة لقضاء بعض الوقت مع عائلته الكبيرة، والمشاركة في المؤتمرات الأدبية المهمة كما نشاطات حركة الحقوق المدنية، فكان شاهداً على مسيرات الحركة الشهيرة في واشنطن (1963) ومونتغمري (1965) وغيرهما. لكن الاغتيالات التي طالت أصدقاءه من القادة الأفروأميركيين السود خلال ستينات القرن العشرين المضطربة (مدغار إيفرز، ومالكولم إكس، ومارتن لوثر كينغ الابن) أنهكته عاطفيّاً، وتسببت بمرضه؛ ليقصد، بداية السبعينات، جنوب فرنسا سعياً للتعافي.

اشترى بالدوين منزلاً له في سانت بول دي فينس الخلابة على أطراف جبال الألب، وتوفي فيه يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1987، بعد معركة قصيرة خاسرة مع سرطان المعدة. وقد دفن تالياً في مقبرة فيرنكليف بنيويورك، وأقيم لراحة روحه قداس مهيب شاركت فيه عائلته ورموز الثقافة الأفروأميركيّة، وكتب أحدهم - أوردي كومبس - في رثائه: «لأن بالدوين كان موجوداً معنا، شعرنا أن المستنقع العنصري الذي يحيط بنا لن يستهلكنا، ولست أبالغ حين أقول إن هذا الرجل أنقذ حياتنا أو، على الأقل، أعطانا الذخيرة اللازمة لمواجهة ما كنا نعرف أنه سيظل عالماً عدائياً ومتعالياً».