عندما يستوحي الرجال أزياءهم من السيدات.. تفقد الموضة عقلها

قطع من الدانتيل والحرير وتطريزات غنية بالألوان مثيرة للجدل

بدلة من الحرير مطبوعة بالورود وصور كائنات من «دولتشي أند غابانا»
بدلة من الحرير مطبوعة بالورود وصور كائنات من «دولتشي أند غابانا»
TT

عندما يستوحي الرجال أزياءهم من السيدات.. تفقد الموضة عقلها

بدلة من الحرير مطبوعة بالورود وصور كائنات من «دولتشي أند غابانا»
بدلة من الحرير مطبوعة بالورود وصور كائنات من «دولتشي أند غابانا»

أغلب الظن أنك أول ما سترى هذه الصور تنتابك حالة من الاستنكار وربما الاستنفار أيضًا. فهذه الموضة ليست غريبة ودخيلة على العالم الذي تعودت عليه فحسب، بل هي تهديد مباشر لمفهوم الذكورة المتعارف عليه. فكيف يمكن لأحد بكامل قواه العقلية أن يتصور رجلاً بقميص من الدانتيل أو الموسلين الشفاف حتى لو كان تحت بدلة كلاسيكية ولن يظهر منه سوى جزء بسيط؟ وكيف يمكن للمصممين تبرير كل هذه التطريزات الغنية أو البروشات والورود التي تزين السترة أو الجاكيت الحريري أو الياقة؟ أسئلة كثيرة ستدور في ذهنك وأنت تطالع هذه الصور وأخرى تتصدر مجلات براقة تروج لبيوت أزياء مهمة مثل «بيربري» و«غوتشي» و«إيترو» و«دولتشي أند غابانا»، و«برادا» وغيرها. «دريز فان نوتن» و«جيفنشي» مثلاً اقترحتا قمصانًا مرصعة، بينما اقترحت «بالمان» جاكيتات تلمع بالكريستال وأرسل حيدر أكرمان مجموعة من المعاطف بنقشات النمر مع إيشاربات طويلة ونحيفة من الحرير. وطبعًا لا يمكن الحديث عن تنعيم مظهر الرجل من دون الحديث عما قدمه هادي سليمان لـ«سان لوران» من جاكيتات مطرزة وكنزات طويلة منقوشة بالورود ومعاطف من الفرو باللون الوردي نسقها مع بنطلونات جد ضيقة من الجلد.
هذا الجنون كان مرتبطًا في وقت ما بجنوح مصممي لندن لإحداث الصدمة، وميلهم إلى التمرد على الأسلوب الكلاسيكي الأرستقراطي الذي ارتبط بالبريطانيين طويلاً بحكم أن البدلة المفصلة والمعاطف الكلاسيكية الطويلة وغيرها ولدت فيها. لكن المؤكد أن الأمر تعدى التمرد وأصبح أسلوبًا ووسيلة للتميز تحت شعار حرية التعبير عن النفس، بعد أن تبنته بيوت أزياء رزينة مثل «بيربري»، التي على الرغم من أن عمرها يتعدى القرن من الزمن، فإنها لا تزال محافظة على مكانتها، لأنها تحرص على ألا تلمس أيقوناتها الكلاسيكية، مكتفية باللعب بالتفاصيل والقطع المنفصلة. وهذا ما فعلته هذا الموسم بطرحها قمصانًا وربطات عنق من الدانتيل. بيد أن هذه الموجة لا تقتصر على لندن فحسب، بل اجتاحت معظم عواصم الموضة العالمية، وإن كانت أكثر وضوحًا في ميلانو. صحيح أن الرجل الإيطالي معروف بحبه للموضة، وعدم رفضه أن ينفش ريشه بين الفينة والأخرى، ومع ذلك أرسلت الصورة الجديدة قشعريرة في أوصال الرجل العصري، رغم أنه يعرف تمامًا كيف يحافظ على ذلك الخيط الرفيع الذي يفرق بين الأنثوي والذكوري، نظرًا لتاريخه الطويل مع الموضة. فحتى عندما كان يلبس قمصانًا يفتحها لنصف الصدر في الخمسينات، تظهر من تحتها سلاسل أو قلادات ذهبية ضخمة على طريقة أعضاء المافيا، أو كان يلبس بدلات مقلمة بعدة ألوان ينسقها مع أحذية لامعة بلونين، لم يكن أحد يتجرأ ويشكك في رجولته. لكن الصورة الجديدة التي رسمها المصممون لربيع وصيف 2016 جاءت أكثر جرأة، وتحديًا سافرًا لكل ما هو تقليدي، بدءًا من التابوهات الاجتماعية إلى القصات الكلاسيكية. فالأكتاف أصبحت أكثر نعومة والخامات أكثر شفافية وخفة، بينما جاءت التطريزات والترصيعات غنية، إلى حد المبالغة أحيانًا. وربما هذا ما جعل الصورة مهتزة بالنسبة لبعض الرجال الذين وجدوا أنفسهم، فجأة، كمن يدخلون عالمًا غريبًا عليهم. فهم من جهة يريدون مواكبة الموضة ومن جهة ثانية لا يريدون الغرق في بحر النعومة الذي يقترحه المصممون، خوفًا من أن يتحولوا إلى ضحايا موضة.
المشكلة، بالنسبة لهذه الشريحة، لا تكمن في بدلات البروكار ولا في القمصان ذات الكشاكش والياقات التي تربط حول العنق، فهذه جزء من الأسلوب «الداندي» الذي ظهر في عهد الريجنسي، وتحترمه الموضة العالمية عامة والإنجليزية خاصة، كونه ولد من رحمها في عهد كل من بو برامل، عراب الموضة الرجالية والملك جورج الرابع الذي تبناه وروج له، بل تكمن مشكلته في الخامات والتطريزات الغنية التي ارتبطت في ذهن الرجل بالمرأة، وتحديدًا الدانتيل والبروكار والموسلين. البعض يرد هذه الموجة إلى أن المصممين الذين كانوا يستلهمون من نجوم السينما في عصرها الذهبي، مثل مارشيلو ماسترياني أو كاري غرانت إما كبروا في السن أو غيبهم الموت، بينما أغلب المصممين الحاليين متشبعون بثقافة الشارع، وبالتالي يستوحون خطوطهم وأفكارهم من نجوم الروك اند رول، من أمثال برينس، ديفيد بوي وميك جاغر، وهو ما ظهر في كثير من العروض. ميك جاغر مثلاً، استعار في شبابه وخلال حفل كبير، قميصًا أبيض بكشاكش من زوجته آنذاك، بيانكا جاغر. كان مظهره صادمًا وجذابًا في الوقت ذاته. سر جاذبيته أن المغني كان غير مباليًا، الأمر الذي قربه من جمهوره الذي كان أغلبه من الشباب المتعطش بدوره لتكسير التابوهات والخروج عن التقاليد.
يشرح ديلان جونز، رئيس تحرير مجلة «جي كيو» ورئيس أسبوع الموضة الرجالي بلندن هذه الظاهرة قائلاً: «لندن معروفة بقوتها في مجال الخياطة الكلاسيكية كما في مجال التمرد على المتعارف عليه، وإذا أضفنا القوة التي اكتسبتها الموضة الرجالية في السنوات الأخيرة، فإن النتيجة التي نستخلصها هي أن الرجل أصبح أكثر انفتاحًا عليها». وتابع: «أسلوب الروك أند رول أصبح أيضًا قويًا، بدليل أنه على العكس من كثير من الكليشيهات التي تشهدها الموضة، يزداد قوة سنة على سنة وعملية تجديده دائمة». ما يقصده ديلان جونز أنه على الرغم من أن موسيقى الروك أند رولز ليست جديدة وترتبط بجيل الآباء والأجداد، فإن سحرها الكامن في تمردها وخروجها على التقاليد يجعلها تخاطب كل الأجيال في فترة من فترات حياتهم.
وبما أن التاريخ يعيد نفسه، فإن مصممي الموجة الجديدة يريدون استقطاب زبائن شباب بالرقص على نغمات الروك أند رول. وحسب أرقام المبيعات فإنهم نجحوا في اختراق هذه الشريحة، وهو ما يشهد عليه ارتفاع مبيعات «غوتشي» التي يمكن اعتبار مصممها الجديد أليساندرو ميشيل، قائد هذه الظاهرة والمايسترو الذي يديرها. ما إن استلم زمام الأمور من فريدا جيانيني، التي قدمت في الموسم الذي قبله، تشكيلة رجالية كلاسيكية لرجل نخبوي يقضي وقته على اليخوت، حتى تعمد تغيير الدفة تمامًا، حيث توجه لرجل شاب بمقاييس صبيانية وذوق ناعم لكن متمرد. كانت الصورة جديدة تثير الوجل لكنها كانت قوية. وفي أقل من عام واحد، أعاد الدار إلى الواجهة كواحدة من أهم بيوت الأزياء العالمية بعد أن تراجعت مبيعاتها بشكل كبير وبهت بريقها. قراءة فيما يجري حاليًا في ساحة الموضة يؤكد أن أليساندرو ميشيل لم يُنعم صورة الرجل فحسب، بل غير نظرة الرؤساء التنفيذيين ومالكي بيوت الأزياء لدور المصمم ككل. فقد أصبح أغلبهم يبحثون عن مثيل له، حتى يحقق لهم ما حققه لـ«غوتشي» في فترة وجيزة، وبالتالي لم يعودوا يمنحون مصمميهم فترة كافية للتأقلم والإنجاز، بل يريدونهم تحقيق النجاح مباشرة، وهو ما يصعب تحقيقه بالنسبة للكل.
عندما اختارته «غوتشي» لم يكن أحد يتوقع أن تفتح وصفته الجريئة شهية شباب اليوم على بدلات مطرزة وألوان فاتحة وخامات أنثوية، لكنه كان يعرف ما لم نكن نعرفه، وهو أن شريحة لا بأس بها من شباب اليوم يريدون إما التميز أو التمرد، فأعطاهم ما يريدون. منذ 10 سنوات لم تكن هذه الوصفة ممكنة، وكانت ستقضي على مستقبله حينها، بلا شك، لأن مجرد التفكير فيها كان جريمة في حق الرجولة والذوق العام، لكنها اليوم تتوفر على كل العناصر التي تحقق التميز من دون أن تتعارض مع مفهوم الرجولة، كما تحقق النجاح للمصممين الذين يتقنون «طبخها» وطريقة تقديمها.
دار «دولتشي أند غابانا» أيضًا قدمت بدلات مفصلة إما مطرزة بسخاء شديد أو منقوشة بالورود والطيور والفراشات، مع فرق أن العارضين فيها كانوا من أعمار مختلفة وليسوا دائمًا بمقاييس صبيانية. «إيترو» أيضًا انتهجت نفس الأسلوب، بالإضافة إلى «برادا» وغيرها من البيوت الرصينة التي وجدت نفسها ملزمة على مخاطبة شريحة الشباب وبلغتهم. فهذه الشريحة متعطشة للموضة وتحرك السوق إلى حد ما في وقت أثرت فيه الأزمة على نسبة المبيعات، ما يجعل صوتها مسموعًا يفرض نفسه على الساحة. الكبار ركبوا الموجة على أمل أن تمر الأزمة بسلام، وقد تعود الموضة إلى «عقلها».



الملك تشارلز الثالث يُدخل الموضة قصر «سانت جيمس»

ريكاردو ستيفانيللي يستعرض النتائج الأولى المتعلقة بمفهوم «الاستدامة البشرية» (برونيللو كوتشينللي)
ريكاردو ستيفانيللي يستعرض النتائج الأولى المتعلقة بمفهوم «الاستدامة البشرية» (برونيللو كوتشينللي)
TT

الملك تشارلز الثالث يُدخل الموضة قصر «سانت جيمس»

ريكاردو ستيفانيللي يستعرض النتائج الأولى المتعلقة بمفهوم «الاستدامة البشرية» (برونيللو كوتشينللي)
ريكاردو ستيفانيللي يستعرض النتائج الأولى المتعلقة بمفهوم «الاستدامة البشرية» (برونيللو كوتشينللي)

اهتمام الملك تشارلز الثالث بالموضة، وبكل ما يتعلق بالبيئة، أمر يعرفه الجميع منذ أن كان ولياً للعهد. لهذا لم يكن غريباً أن يستقبل في قصر سانت جيمس حديثاً مؤتمراً نظّمه «تحالف الاقتصاد الحيوي الدائري (CBA)»، ليؤكد أنه لا يزال متمسكاً بمبادئه. فالمشروع الذي نُظّم المؤتمر من أجله يستهدف تسريع التحوّل نحو اقتصاد مستدام، وتعزيز التقدّم في المشروع الإنساني.

وتُعدّ هذه دورته الثانية، التي جاءت تحت عنوان «مختبر الأزياء المتجددة في جبال الهيمالايا»، علماً بأن من يقف وراءه أسماء مهمة في عالم المال والأعمال ومجال الإبداع على حد سواء، نذكر منها جيورجيو أرماني وبرونيللو كوتشينللي.

ريكاردو ستيفانيللي مع الملك تشارلز الثالث في المؤتمر (برونيللو كوتشينللي)

المشروع ثمرة تعاون بين فرق معنيّة بالموضة، في إطار «مبادرة الأسواق المستدامة»، التي أطلقها الملك تشارلز الثالث -عندما كان ولياً للعهد- وشركة «برونيللو كوتشينللي (S.p.A)» و«تحالف الاقتصاد الحيوي الدائري». وتأسس لدعم القضايا المرتبطة بالمناخ العالمي وغيرها من المسائل الحيوية التي تُؤثّر على البشرية. وهي قضايا يشدد الملك تشارلز الثالث على أنها تحتاج إلى تكاثف كل القوى لإنجاحها.

حضر المؤتمر باحثون وعلماء وروّاد أعمال وقادة مجتمعات محلية (برونيللو كوتشينللي)

حضر المؤتمر، إلى جانب الملك البريطاني، نحو 100 مشارك، من بينهم باحثون وعلماء وروّاد أعمال، ومستثمرون، وقادة مجتمعات محلية.

كان للموضة نصيب الأسد في هذا المؤتمر، إذ شارك فيه فيديريكو ماركيتي، رئيس فرقة العمل المعنيّة بالموضة، وجوزيبي مارسوتشي، ممثل عن دار «جورجيو أرماني»، وبرونيللو كوتشينللي، الرئيس التنفيذي لشركة «برونيللو كوتشينللي». وتحدَّث هذا الأخير عن التقدّم الذي أحرزته الشركة الإيطالية حتى الآن في إطار دعم قيم الاقتصاد الدائري، وحماية البيئة، فضلاً عن تعزيز مفاهيم الأزياء والسياحة المستدامة، مستشهداً بدفعات أولية من «باشمينا»، استخدمت فيها مواد خام من مناطق واقعة في جبال الهيمالايا.

ويُعدّ مشروع الهيمالايا، الذي وُلد من رؤية مشتركة بين «برونيللو كوتشينللي» و«فيديريكو ماركيتي»، من المشروعات التي تحرص على ضمان إنتاج يُعنى برفاهية الإنسان، من دون أي تأثيرات سلبية على الطبيعة والبيئة. وحتى الآن يُحقق المشروع نتائج إيجابية مهمة، لكن دعم الملك تشارلز الثالث له يُضفي عليه زخماً لا يستهان به.