قضية الأدب الإسلامي في عصر الحداثة.. ترف ثقافي أم محاولة للاستقصاء؟

ظهر المصطلح قبل 3 عقود وأسست له رابطة عالمية انتقلت من الهند إلى السعودية

د. حسن الهويمل  -  د. مرزوق بن تنباك  -  د. معجب العدواني
د. حسن الهويمل - د. مرزوق بن تنباك - د. معجب العدواني
TT

قضية الأدب الإسلامي في عصر الحداثة.. ترف ثقافي أم محاولة للاستقصاء؟

د. حسن الهويمل  -  د. مرزوق بن تنباك  -  د. معجب العدواني
د. حسن الهويمل - د. مرزوق بن تنباك - د. معجب العدواني

ظهر مصطلح الأدب الإسلامي قبل أكثر من ثلاثة عقود من خلال دعوة بعض الأدباء الإسلاميين إلى التفكير في إنشاء مظلة تجمع صفوفهم وترفع صوتهم وصولاً إلى تحقيق التأصيل للأدب الإسلامي، ونقد المذاهب الأدبية العالمية، ومناهج النقد الحديثة، وإيضاح ما فيها من إيجابيات وسلبيات، وتوج ذلك بإنشاء رابطة الأدب الإسلامي العالمية، اتخذت من بلكنو الهندية مقرًا لها وذلك عام 1986، ثم انتقل المقر إلى الرياض عام 2000.
«الشرق الأوسط» طرحت قضية الأدب الإسلامي ومدى صلاحية هذا التصنيف في هذا العصر الموسوم بعصر الحداثة، ودور هذا النوع من الأدب في أدلجة الأدب بعموميته، وتعويم تيارات الإسلام السياسي، وماذا يمكن أن يقدمه هذا الأدب لمجتمعات تنشد حداثتها، واستطلعت بهذا الخصوص رأي بعض الأدباء والنقاد من السعودية فكانت هذه الحصيلة.
يشدد الدكتور مرزوق بن تنباك الباحث والأكاديمي والأديب السعودي وعضو في هيئة التدريس بقسم اللغة العربية - كلية الآداب - جامعة الملك سعود، على أن المرحلة الحالية تجاوزت الدعوة لأدب إسلامي أو غيرها، لافتًا بالقول: «نحن اليوم دخلنا فيما هو أهم بكثير من الدعوة للأدب أيا كان نوعه، وأصبحنا في مرحلة البحث عن الوجود وما تراه يعصف في المحيط العربي والإسلامي، وهو لا يترك فرصة للترف الثقافي والاختلاف حول المناهج التي كانت سائدة في العقود الماضية. الفرز الكبير والتصنيفات الآيديولوجية الدينية والسياسية المعاصرة كانت أكبر من التوقف عند جنس من الأدب أو موضوعه، وقد انشغل الأدباء والمثقفون من كل طرف بما آلت إليه أحوال العرب في البلاد وأنت ترى أن هناك عددا من البلاد العربية أصبحت بلا حكومة ولا نظام مستقر وانتقل الحال من التنظير للأدب إلى الانخراط الفعلي فيما يسمى العمل الجهادي، وأسميه الفتنة الكبرى، وأصبح كل من كان ينظر له مشغولا فيما هو أكبر مما كان يدعو إليه.
وبخصوص اعتقاد دعاة الأدب الإسلامي باستمرارية مثل هذا الأدب في هذا العصر، يقول بن تنباك: «كانت الدعوة إلى الأدب الإسلامي في تلك الفترة مما يرونه ومن حقهم أن يروا ما شاءوا، وليس الاعتراض على صلاحه أو عدم صلاحه. الاعتراض كان على مبدأ تصنيف الأدب إلى إسلامي وغيره، وقد كان رأيي ينطلق من هذا المعنى. فرفضي في ذلك الوقت كان رفضًا للتصنيف من حيث المبدأ ولم أنظر للمضمون، لأن المضمون في الأدب يعبر عنه في جملته وضمن المعنى العام. وقد وجدت المعاني والمضامين الإسلامية وغير الإسلامية منذ القدم ولم يعترض النقاد على الاتجاهات أيا كان موضوعها، وإنما التصنيف هو موضوع الاعتراض. وقد وصفت بداية محاولات التصنيف تلك بأنها بدعة ونشرت ذلك في مجلة (المسلمون)، التي كانت تصدرها جامعة الإمام ويرأس تحريرها داود الشريان. في تلك الفترة قد بلغت الصحوة أوجها، ولم يستطع أحد أن يقف في طريق مدها الجارف حيث نشط دعاة الأدب الإسلامي بالندوات والمحاضرات وتأليف الكتب وتجميع المؤيدين لنظرية الأدب الإسلامي».
وبخصوص رؤيته بشأن الأدب الإسلامي وهل يعد غطاء لأدلجة الأدب، وتعويم تيارات الإسلام السياسي. ويضيف ابن تنباك: «ليس المراد هو التفتيش عن نيات الناس، المقصود أن هناك حراكا قويا للفرز، وهذا ما لم يحدث في كل العصور الإسلامية بغض النظر عن الغاية من ذلك وكان من الموضوعية ومن الرؤية النقدية المجردة أن يعترض النقد على قضية أدبية طرحت للنقاش ورأيت أن لي رأيا في هذه القضية، فحاولت أن أمارس حقي في نقد الاتجاه الذي حمل رؤية يدلس بها حتى يقبلها المجتمع وتجد من الأنصار الكثير، حيث إن ظاهر الحركة النقدية مبرر بالميل الطبيعي من الشعب المسلم الذي يحب أن يرى الإسلام وشعره، وكل ما فيه صالحا ومفيدا ونافعا وهو الشيء الذي جعل الكثير ممن له رؤية نقدية يحجم عن مناقشة دعاة الأدب الإسلامي، والأمر مفهوم من وجهة النظر الموضوعية، لكن التخصص ومعرفة بواطن الأمور يجعل المرء لا يقف مع الناس على حساب التخصص، ومعرفة المناهج التي سار عليها القدماء من النقاد الذين قبلوا مجمل الأدب إسلامية وغير إسلامية. وقد كان أدب الجاهلية قبل الإسلام هو المثل الأعلى للمسلمين ولم يناقض ذلك إسلامهم ولم يجدوا في دراسته وتفضيله على كثير من أدب المسلمين بأسا ولا ممنوعا، لا شرعا ولا عقلا، وقد كانت قصائد الجاهليين هي النموذج الأعلى في كل ما خلفه النقاد المسلمون من تراث ما زلنا نعيش عليه ونردده في كل ما يتعلق في جمال الشعر وقيمه الخالدة، كما لم تجعل النماذج الرائعة من الشعر الإسلامي القديم النقاد المسلمين يعزلونها ويخرجونها من مسار الأدب العام إلى مسارات تخصها وتنكر غيرها.
وزاد بالقول: «أما التعويم كما ذكرت، فالاتجاه الذي سلكه دعاة التصنيف المحدثون في نخل الشعر القديم وتوظيف النصوص لما يوافق رؤيتهم شيء طبيعي أن يبحثوا عما يؤيد حجتهم ورأيهم الذي يرون وهو أمر مقبول في البحوث العلمية ولا تنسى أن الشعر في القديم كان هو الأداة الفاعلة والمؤثرة، بل كان هو الصحيفة الناطقة في لسان السياسيين والمعين القوي لهم، وليس هناك حزب سياسي في تراثنا القديم إلا كان الشعر وكان الشعراء هم الذين ينشرون الدعوة لهذا الحزب أو لذاك، وقد انغمس الشعراء في القديم في الخلافات السياسية وعبر كل فريق منهم عن رأي حزبه الذي ينتمي إليه وجماعته التي يدافع عنها ومارسوا السياسة مبكرا ودافعوا عن الساسة وحطبوا في حبلهم وبرروا مواقفهم وحروبهم وانتصرت كل مجموعة من الشعراء لتيار سياسي يرون أنه يخدم مصالحهم السياسية وباختصار لا يمكن عزل الشاعر ولا الشعر عن السياسة، لأن السياسة إدارة المجتمع وهم جزء مهم من مجتمعاتهم التي يعيشون فيها ولهم رأيهم فيما يعمل الناس وما يقبلون وما يرفضون.
وحول ما يمكن أن يقدم الأدب الإسلامي لمجتمعات تنشد الحداثة، يشير الدكتور مرزوق بن تنباك إلى أن الأدب بغض النظر عن مضمونه إسلاميًا أو غير إسلامي، يقدم أشياء كثيرة ومهمة لأنه بالمردود العام هو تصور للحياة التي يعيشها المجتمع وتفاعل وجداني لا تمنع وحدانية المبدع للأدب من مشاركة المجتمع له فيما يبدع فيه، وميزة الأدب أن المبدع فرد أو أفراد والمتلقي هم الجمهور العريض الذي يتفاعل مع ما يقدمه الأديب ويستجيب سريعا معه ويتفاعل في كل ما يطرح المفكرون. الأدب أوسع العلوم الإنسانية مساحة للتفاعل الإيجابي في كل الأحوال وتأثيره كبير على العامة والخاصة وفي العصر الحديث لم يتزحزح الأدب عن مكانته التي كانت له في كل العصور. ولعل ما تراه الآن ويصلك بالناس من الشرق والغرب هو الأدب أكثر من أي شيء آخر، فالإعلام والشعر والقصة والرواية والأفلام وما على خشبة المسرح من تمثيل للحياة بكل تفاصيلها صغيرها وكبيرها وما يقبل منها وما يرفض هو في مجمله داخل ضمن الإطار الضخم الذي نسميه الأدب الكبير ولا تستغني الحداثة عما لا يستغني الناس عنه.
ومع أنني أعترض منذ القديم على تصنيف الأدب، إلا أنني لا أصادر حق المبدعين في مضامين الأدب ورسالته الإنسانية إن كان محتواه يحمل رؤية إسلامية فمن حق المبدع أن يرسم إبداعه وموضوع أدبه ولا أرى تحريم ذلك الحق ولا تجريمه، فالفكر الإسلامي ثري في تاريخه كله ومملوء بالجوانب المشرقة التي أبدعها الأدباء المسلمون والفلاسفة، ولم يحدث أن منع الناس العقل من الإنتاج الفكري من أجل أنه إسلامي، الإسلام قدم للبشرية عباقرة في كل العلوم النظرية، والأدب أهم هذه العلوم وأكثرها انتشارا في الآفاق، وقد عرف العالم أدب المسلمين وتتلمذوا على الجميل منه، وحسبك أن تعرف أن «ألف ليلة وليلة» هي أدب للمسلمين وتراث لهم، وتعرف مكانتها في التراث العالمي ولو لم يكن للاعتراض على تصنيف الأدب الإسلامي إلا أن «ألف ليلة وليلة» ستخرج منه حسب شروط منظريه لكفى ذلك سببًا للاعتراض.
ومن جانبه يرى الدكتور معجب العدواني، أستاذ النقد والنظرية المشارك في قسم اللغة العربية وآدابها - كلية الآداب - جامعة الملك سعود في الرياض، أن الإشكال ليس في كون المصطلح (الأدب الإسلامي) أطلّ علينا في عصر موسوم بالحداثة، وتهيمن عليه آفاق ما بعدها فحسب، بل في كونه مصطلحًا يتناقض أوله مع آخره، وفي كونه يصنف المنتج الإبداعي ويضعه في صندوق مغلق، ووفقًا لذلك يعارض ما هو غير إسلامي، وفي كونه منطلقًا من تفكير أحادي (غير حواري)، وغير منتم إلى أساس فكري؛ يقدس المضمون، ويهمل التركيب، ولنبدأ من المفردة الأولى (الأدب)؛ وهي مفردة تشير إلى جانب الكتابة الإبداعية التي لا تقف لدى ما هو مألوف ومعتاد في اللغة، وتسعى إلى نمو المجتمعات الإنسانية بما يتوافق مع مبادئ الحق والخير والجمال.
ويضيف: «أما المفردة الأخرى (الإسلامي) فقد وضعت في غير سياقها في حقبة سابقة؛ نتيجة جهود بعض الدعاة في ترسيخها؛ فظهر لدينا زواج إسلامي وزي إسلامي وشريط إسلامي، وغير ذلك من القوالب التي لم يسبق لها سابقة في التاريخ الإسلامي والإنساني، ولا تشي إلا برؤية أحادية، تستبعد الآخر القريب، وتقصي البعيد. وتبلورت تلك الأفكار المشتتة في اتجاه بدا جاهزًا للتطرف، وكان أكثر قابلية للصراع. وبالنظر إلى موقع رابطة الأدب الإسلامي الشبكي يمكننا تأكيد أزمة صياغة هذا المصطلح، وضعف منجزه إبداعًا ونقدًا، مع كثرة الوعود وندرة النتائج».
ويؤكد العدواني على أن وصف هذا الأدب بـ«الإسلامي» يستبعد لدى من يؤسس لذلك النظر إلى تراثنا الشعري والسردي؛ فالمعلقات أدب غير إسلامي، وكتاب «ألف ليلة وليلة» ومثله كتاب «كليلة ودمنة» والسير العربية القديمة لا علاقة لها بالأدب. وهذا يحدث نوعًا من الارتباك لدى الأجيال العربية، ويؤثر على الدارسين من الأمم الأخرى، إلى جانب خلق فجوة في تلقينا لآداب الشعوب الأخرى في شرق الأرض وغربها؛ فهل يمكن استبعاد تلقي تلك الآداب نظير تلقينا لمصطلح صيغ بصورة تهمل البعد الفني مقابل الاحتفاء بالأبعاد المضمونية.
واعتبر الدكتور معجب العدواني أن مصطلح «الأدب الإسلامي» وقع في خطأ «الجزئية» الذي يرسخ له في مبدأ القبول والرفض، وكان اتجاههم - ولا يزال - مرسخًا ملامح فكر أحادي، لا يمكن القبول به في حقل الأدب الذي يعارض الأحادية، ويدعو إلى التعددية؛ ولو عدنا إلى الحضارة العربية سنلمح الخطأ الكبير الذي وقع فيه بعض دارسي الإعجاز القرآني، وتداركه من تبعهم من الباحثين المتميزين في الثقافة العربية؛ إذ إن تقديس القرآن الكريم والرغبة في تبجيله واحترامه قاد بعض الأوائل مثل الرماني والخطابي والباقلاني إلى قولبة إعجاز القرآن في أبعاد مضمونية؛ مثل: الإخبار عن أحوال الأمم السابقة، والتنبؤ بما يقع للأمم اللاحقة، مما جعل هذا يقود إلى إشكالية كبرى في تناول درس الإعجاز؛ وتضع هذا التصور غير العلمي في وضع أخطر، ويتمثل ذلك في كون الإعجاز سيظل في بعض القرآن، وليس كله، ولذلك كان الباحثون من الأجيال اللاحقة أكثر وعيًا ومعرفة؛ فما وجدوا وسيلة أفضل في إبراز الإعجاز من التركيز على اللغة؛ فبنى القاضي عبد الجبار الأسد آبادي نظرية «الضم»، المعتمدة على أن الإعجاز يكمن في ضم الكلام إلى بعضه بصفة مخصوصة، وتلاه عبد القاهر الجرجاني صاحب نظرية «النظم»، وكلتا النظريتين تتجاوزان أزمة «الجزئية» في الإعجاز إلى مبدأ الشمولية. وهو ما يغيب عن هذا الاتجاه، ولذلك أتساءل كيف يصنف الأسد آبادي والجرجاني في منظور هذا المصطلح؟ وفي اتجاه أصحابه؟
ويرى الدكتور حسن بن فهد الهويمل، رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية، والناقد والأكاديمي المعروف، وعضو مجلس أمناء مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، أن «مؤشرات الثراء تعدد الخطابات، وتنوع الاتجاهات، والعصر يتسع لكل القيم والمبادئ التي تخدم الإنسان في دنياه وأخراه. ولا يمكن مصادرة أي خطاب بهذه القطعيات. الصلاح وعدم الصلاح. الأدب الإسلامي مرتبط بالكلمة الطيبة، والقول السديد، وبقاؤه معزز ببقاء الفضيلة، والذكر الحكيم. وأخطاء المنتمين لأي خطاب - لا نحمّل المبادئ - يجب أن نفرق بين المبادئ والممارسات. وكيف لا يكون الأدب الإسلامي صالحًا، وما سواه صالح. هذه مصادرة، وإقصاء».
وبشأن مصطلح الأدب الإسلامي، وهل يعد غطاء لأدلجة الأدب، وتعويم تيارات الإسلام السياسي، يعلق الدكتور الهويمل بالقول: «لست معنيًا بصراع المفاهيم، وتطاحن (الآيديولوجيات)، أنا عربي، مسلم، لي تراثي، وقيمي».
وأضاف: «همي حماية الأدب بكل أنواعه وأشكاله من العهر، والكفر، وأدب الاعتراف الشائن. قضيتي الكلمة الطيبة، تحت أي لافتة، والحداثة عصفت بمشاهدنا، وفرقت كلمتنا وأنشأت الأحقاد، والضغائن، ثم ثوت في أرض المنشأ ليأتي (ما بعد الحداثة)».
ويشدد رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية، على القول: «أنا أربأ بنفسي أن أكون بوقًا لأي طارئ. الكلمة الطيبة باقية، ما بقي الذكر الحكيم الذي تعهد الله بحفظه، وليس لدي اعتراض على المتغيرات الشكلية، والفنية، والدلالية متى استجابت لذوائقنا، وسدت حاجاتنا، وكرست وجودنا بوصفنا ننتمي إلى (حضارة عربية إسلامية)، سطعت شمسها على الغرب باعتراف المنصفين منهم، والحق ضالتنا فإذا كان في الوافد حق، فهو قضيتنا تحت أي مسمى، ليكن حداثيًا أو ليبراليًا أو ماركسيًا. ولكن ليس شرطًا أن يحمل مسماه لا بد أن نذيبه في كياننا، وأن يحمل مسمياتنا. وفي النهاية نحن جزء من الحضارة الإنسانية، وإن حرصنا على الاستقلالية، والحضور بسماتنا وخصوصياتنا. وهدفي ألا نكون متذيلين طاعمين، كاسين، نرقب المنعم المتفضل، وعندنا ما يغني، ويقيني، ومشاهدنا ترحب بكل قادم. متى ما عرف لنا حقنا، وأتاح لنا فرصة الندية، والوجود الكريم».
واعتبر الهويمل أن الفرق بينه وبين «المتحدثنين» أننا معًا رتعنا في منجزات الغير. «وأضفت المنتج لمكتسَبي متعدد المصادر». فيما أضاف غيري نفسه إلى مكتسبه، ملغيًا ذاته، متنكرًا لتراثه، معاد لعشيرته، «فأنا حداثي شعاره الأصالة، ودثاره المعاصرة، و(المتحدثن) شعاره ودثاره الحداثة».
وحول ما يمكن للأدب الإسلامي أن يقدمه لمجتمعات تنشد حداثتها، أجاب رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية بقوله: «الحداثة خطاب من مئات الخطابات، ولا يمكن إعطاؤها أكبر من حجمها. ثم إنها مصطلح انطفأ بعد ضربات مصطلح (البعديات) ما بعد الحداثة. ما بعد البنيوية سمعنا بمذاهب و(آيديولوجيات) هيمنت، ورحلت، دون أن تترك أثرًا. ومصطلح الأدب الإسلامي، مصطلح من هذه المصطلحات، لا يمكن أن يحتكر رهاناتنا، ولا أن يلغي تطلعاتنا. إنه رؤية لمجموعة من الأدباء الأكاديميين، يسعى لتكريس الكلمة الطيبة، والقول السديد. واهتمامي به لا يلغي اهتمامي بما سواه. سؤالي الملح. ما الحداثة التي تتطلبها الأمة؟، هل هي قطع الصلة بالتراث، والأصالة، والكلمة الطيبة. أم هي مجرد التجديد، والتحديث؟، مؤكدًا على أن التجديد مطلوب في كل شيء حتى في الدين. الحداثة مصطلح غربي له مكونات قد لا يكون تحقيقها في صالحنا، فلنأخذ منها ما يوافق حضارتنا العربية الإسلامية، ولننبذ ما لا يوافق مكوناتنا».



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.