شعرية الطفولة وألعابها الخطرة

«شهقة ضوء» للسورية بسمة شيخو

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

شعرية الطفولة وألعابها الخطرة

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

في مجموعتها الشعرية «شهقة ضوء»، تلعب الشاعرة السورية الشابة بسمة شيخو (كردية مواليد دمشق 1986) بخيال خصب، وتعيد ألعابها إلى مكانها الصحيح، لتعود إليها تفككها، وتعيد إليها علاقات ليس من نسيجها المألوف، إذ عدا تحطيم النسيج ثمة وعي تشكيلي يقارب حكمة اليافعين، لتبدو مثل طفلة لبست حذاء أمها، لكنها لا تثير الضحك، بل تحيل الضيوف إلى تلك الحرية التي يفتقدونها.
الشاعرة الشابة التي تقيم في «دمشق الحرائق» لم تفقد رباطة جأشها، إزاء ما يحدث من دم وعظام وهجرات، ولم تتخل عن إرادتها في كتابة قصيدة جديدة تقاوم بها أسمال الحرب وأنتيك اللغة القديمة في سوق الوراقين النجوم.
«الإنسان اللاعب» مفهوم قديم طرح منذ القرن التاسع عشر موقفًا في الفن والأدب والفكر، يقوم على فكرة «التخلي» عن وقار المعرفة المصطنع، وهذا الإنسان لم يزل لاعبًا في مدخل قرننا الحالي، بأشكال عدة، حيث اللعب ليس أسلوبًا للتسلية، بل سلوكًا لاستفزاز السكون وشيخوخة العالم.
ربما بسمة شيخو في قصائدها، التي تقوم على اللعب، ليست مدركة لفكرة «الإنسان اللاعب» أو لم تسمع بها مطلقًا، غير أنها «تنتجها» بأسلوبها الخاص، الذي يحمل مواعيد خضرًا باكتمال اللعبة، لو مضت على وفق ما اقترحته علينا، ولم تخن تلك المواعيد لأسباب خارجة عن إرادة الشعر والشاعرة.
تفتح الفتاة الدمشقية نافذة غرفتها، قبل أن تتناول قهوتها، لتطل على المدينة، مدينتها، لترى إلى «طبيعة صامتة»، كما في المناظر الطبيعية للرسامين، لكنها تفتح عينيها على الحرب، وبالخوف، كله، تضع يدها على فمها وبعينين مفتوحتين على سعتهما تضرع بالدعاء:
«ببضع قصائد اشتريت آلاف الأمنيات
وضحكة عالية على ثغر الكون
بكل ما أملك، أحاول أن أطولَ وأطولَ لأمسك غيمة حبّ وأعصرها فوق أراضينا القاحلة
يا الله..
لست متطلبة، أحتاج فقط خوذة ضخمة لهذه المدينة».
تنمو القصيدة من أمنيات وضحكة عالية وغيمة حب، لتبلغ ذلك التضرع الذي غالبًا ما يعقب لحظة خوف أو رجفة رعب حتى تحيل نصها إلى مكان آخر في «خوذة ضخمة»، وهي صورة مكبرة للحماية ودرء الموت، حيث الخوذ، عبر التاريخ، من عدة الحروب.
انتقال الجملة إلى جملة، والفكرة إلى فكرة، والصورة إلى صورة، معالجات تقنية تأتيها الشاعرة لتبديد ضجر المكان والزمان، وهي تنوء بإملاءات الآخرين وتوجيهاتهم، أولئك الذين «يوقظونني منتصف الليل/على صخب احتفالاتهم/يسحبونني من عملي لنوم يحتاجونه..». وبدلاً من الرضوخ لهم: «أشعر أنني أستطيع الطيران/أتجه للشرفة وأحاول/لا بدّ هنالك عصافير تسكنني/أرمي نفسي في بركة الماء/أحاول أن أنقذ الأسماك داخلي».
«أدقّ على صدري وأصرخ/هل من أحد هنا؟/قهقهة عالية تدوم/دقائق، ساعات، أيام (كذا!) سنوات/ولا إجابة/إلا تجاعيدهم التي بدأت تظهر على وجهي».
تسجل الشاعرة لحظة الرومانس بنبرة مشوبة بتقليدية الغرام والشوق، لكنها لا تفتقر إلى الحيوية، رغم انتصار سطوة المشاعر على فكرة الشعر، بينما على الشاعر التمسك بفلسفته التصويرية، في الحرب والحب، معًا، أي الإمساك بلغة القصيدة والتحكم بمسارها على وفق تقنيتها الخاصة بكل حال وصورة وعاطفة، على أن القارئ النقدي يرى إلى الشاعر في قصيدته الصاعدة، لا الهابطة، لأن الشاعر الذي يبرع في بلوغ درجة ما من الجودة قادر على بلوغها مجددًا، رغم قصائده الضعيفة، هذا إذا اشتد عوده وتمكن من استثمار الطاقة الفائقة لموهبته، مكفولاً، عدا الموهبة وحدها، معرفة بما يشتغل عليه من أفكار أو صور، وسائر مكونات قصيدة تدعو إلى التأمل والدهشة.
.. ولأن القصيدة الحديثة لا تتكرس لأحد أغراض الشعر، كما في الأزمنة الغابرة، مثل المديح والغزل والرثاء والفخر والحماسة.. إلخ، لأنها قصيدة مركبة يقتحم عالمها كثير من اللامتوقع في الحياة المعاصرة، على الشاعر أن يرى المشهد برمته، حيث اختلاط المكونات القاسية في النص، على ضوء اختلاط المكونات القاسية في الحياة، فقصيدة هذه الشاعرة الموهوبة، وهي ترسم الرومانس العربي لا تقدم نصّها الغرامي مثل حلقة عاطفية تشتبك بحلقات أخرى متعددة، وهي المواطنة التي حلمت بـ«خوذة ضخمة لهذه المدينة»، ليجيء نصها «جميل أنت» مناجاة حبيبين في معزل عن عالم يحترق، رغم أن في هذا النص موجات دافقة تعلو حينا وتهبط أحيانًا، لكننا نقرأ فيه أجمل ما فيه:
«أسير تحت ضياء مصابيح عتيقة/ظلالها تتكئ على بعضها/لتقوى على الوقوف».
ثمة، أعلاه، فكرة شعرية جميلة تلك التي ترى في الظلال اتكاء على بعضها لتقوى على الوقوف.
لكن شيخو تعود لإدراك ما طلبناه بصدد القصيدة المركبة لتذكرنا بموهبتها: «الفرح يتعثر في صدري/غزال أعور/فقأت الحرب عينه/أعطاه الحب طريقًا ضيقًا/لا يسعه/مليء بحبات البن/يلتهمها/فتزداد المرارة لذة في فمي».
تكتب شيخو قصيدتها وهي في حالة حزن قصوى على العالم، لكأنها موكلة بحروبه وقسوته وشيخوخته، تكتب قصيدة النثر بإيجاز خبرة وإن كانت فتيّة، إذ لم يزل كثير أمامها لتحذف وتمحو وتتخلى. نحن أمام نص حيوي يحمل كثيرًا من الأمل لقرائه، على أن ألعاب الطفولة المغامرة قدر ما تختزن من خطورة فنية فإنها تنطوي على حرية داخلية لا تتوفر في كثير ممن يكتبون الشعر، ذكورًا وإناثًا، في مجتمعنا العربي المحافظ، حيث «النقد الأخلاقي» يجلد الجميع، والشواعر هن من يضفن على شعرنا تلك الروح العذبة التي تخترق بحنان الشعر تعاليم العالم العاقل.



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.