ليبيا.. السويحلي رجل «مفترق الطرق»

رئيس مجلس الدولة يسحب البساط من المؤتمر الوطني

ليبيا.. السويحلي رجل «مفترق الطرق»
TT

ليبيا.. السويحلي رجل «مفترق الطرق»

ليبيا.. السويحلي رجل «مفترق الطرق»

من النادر أن تجد اسم عبد الرحمن السويحلي، الذي عُيّن أخيرًا رئيسًا لـ«المجلس الأعلى الدولة» الليبي، في المواقف العادية، إذ إنه يظهر عادة في الظروف الصعبة، أو كما يقال هنا: حين يكون هناك مفترق طرق، وحين يسود الارتباك، ستراه واقفًا لحسم الأمر وتوجيه الدفة، بغض النظر عن أي حسابات. السويحلي، ابن مدينة مصراتة الليبية، هو أول رئيس للمجلس الذي جرى انتخابه قبل أسبوعين رغم اللغط والانتقادات. ولقد ولد في أواخر أربعينات القرن الماضي، لأسرة معروفة شاركت في إرباك الاحتلال الإيطالي لليبيا. ومثل مصراتة، ارتبط اسم السويحلي بالكثير من المنعطفات التي مرت بها ليبيا بما في ذلك سنوات حكم معمر القذافي، ثم عام 2011 التي قامت فيها ميليشيات من المدينة بتهجير سكان بلدة تاورغاء المجاورة لها، بعد اتهام السكان هناك بمساندة نظام القذافي. وبعد ذلك شاركت ميليشيات من مصراتة في شن هجوم عسكري في عام 2012 على بلدة بني وليد، في عملية ارتبطت على ما يبدو بالرغبة في تصفية ثأر قديم وعملية انتقامية تركت جراحًا لم تندمل بعد. وبعد ذلك ظهرت مصراتة على الواجهة مجددًا من خلال «قوات فجر ليبيا»، التي شنت حروبا ضد خصومها، أشهرها معركة المطار ومناطق غرب طرابلس.
يمتلك عبد الرحمن السويحلي، بغض النظر عن كل شيء، تجربة سياسية قديمة تعود لسنوات المد القومي في سبعينات القرن الماضي. وقتها كان القذافي يغيّر موازين القوى الداخلية تحت شعارات، منها الاشتراكية والوحدوية، وتحت حماية «اللجان الثورية» التي أسست في ذلك الوقت لدعم نظام الحكم والسيطرة على الغضب الطلابي في الجامعات، وتطبيق نظريات السلطة التي عُرفت فيما بعد بمنهج «الكتاب الأخضر».
في تلك السنوات التي كانت فيها منطقة الشرق الأوسط ما زالت تدور في دوامة تداعيات حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، بدأ السويحلي، قبل أن يتخطى عامه الثلاثين، ينشط في الأوساط السياسية حين انتقل للدراسة خارج البلاد، معتمدًا في ذلك على علاقاته القديمة مع طلاب المرحلتين الثانوية والجامعية ممن انتقلوا لاستكمال الدراسة في أوروبا، خصوصًا من أبناء مدينته.
من السيرة الطويلة لهذا الرجل، يمكن أن تلاحظ أنه يحسب خطواته.. قبل أن ينتقل من مكانه ينظر أمامه وينظر خلفه، ثم يتخذ القرار حتى لو لم تكن نتائجه مضمونة تمامًا. لهذا يبدو أنه أدرك، حين كان يقيم في العاصمة البريطانية لندن، حيث كان يتابع دراسته، استحالة تغيير نظام القذافي من خلال حركة طلابية صغيرة تنحصر غالبية أنشطتها بعيدا عن أرض الوطن. وعليه قرر في أواخر ثمانينات القرن الماضي العودة إلى ليبيا والابتعاد عن العمل السياسي، رغم ما كان في هذه العودة من مخاطر.
حدث هذا بينما كانت المعارضة الليبية في الخارج، سواء تلك التي اتخذت من لندن مقرًا لها، أو التي كانت مبعثرة في العالم، تزداد نشاطًا وقوة، مقابل ارتفاع وتيرة الملاحقات من جانب النظام ضد المعارضين في الداخل. ولهذا كان من المستغرب، لدى كثرة من السياسيين المطارَدين في البلدان الغربية، أن يتخذ الشاب السويحلي النشيط في خصومته لحكم القذافي، قرارًا بالعودة إلى ليبيا.
في نهاية المطاف.. وحين تنظر إلى تلك الأيام، حين كانت المعارضة في الخارج تعاني من الفقر والعراقيل، يمكن أن تفهم قرار السويحلي بالرجوع إلى بلاده. في تلك الفترة أيضًا ظهر اسم رجل الجيش خليفة حفتر، قائدًا للجيش الوطني الليبي في المنفى. كان حفتر قائدًا في القوات البرية الليبية أثناء الحرب بين ليبيا وتشاد، وتعرض للأسر وانتقل بواسطة إقليمية ودولية إلى الولايات المتحدة، لينضم بعد ذلك إلى «جبهة إنقاذ ليبيا» و«التحالف الوطني» وغيرهما من مسميات المعارضة.
لم يستمر الأمر طويلاً. دبت الخلافات بين عدد من قادة المعارضة الليبية في الخارج، وتوزعت ولاءات كثير منهم بين هذه الدولة وتلك، وبين هذا التيار وذاك. كان مفترق طرق يقف فيه قوميون وجماعة الإخوان وماركسيون وليبراليون ومشارب سياسية مختلفة. وفي هذه الأثناء كان السويحلي قد حصل على شهادة الدكتوراه في الهندسة المدنية من بريطانيا، وعاد إلى بلاده ليدخل في منعطف جديد، حيث أصبح رجل أعمال يدير مكتبه الاستشاري الخاص في أعمال الهندسة.
مدينة مصراتة، التي ينتمي إليها السويحلي، معروفة تاريخيًا بأنها مدينة الصناعة والثراء والميل إلى التيار المحافظ. ويبدو أن هذه الخلفية أثرت في تكوين شخصيته. ومن الطرائف أن بعض قيادات التيار الديني تصنّفه على أنه من «العلمانيين»، بينما يصنفه البعض في التيار المدني ضمن التيار الديني. ويقول عنه بعض المحايدين إنه «سياسي يجيد استخدام ما لديه من أوراق». وللعلم، تقع مصراتة على بعد نحو 200 كيلومتر إلى الشرق من طرابلس، وشهدت عواصف سياسية وعسكرية مرت على البلاد. ولقد كان لها مكانة خاصة في قلب القذافي منذ انتقل لاستكمال دراسته الثانوية فيها آتيًا من مدرسته في سبها في الستينات. (مدينة سرت، مسقط رأس القذافي، تقع إلى الشرق من مصراتة بنحو 200 كيلومتر أيضًا).
وفي مصراتة نفسها، شكّل القذافي «خلايا ثورية» رئيسية، وأقنع الكثير من الدارسين باستكمال التعليم عسكريًا في الكلية الحربية التي كانت تتخذ من مدينة بنغازي مقرا لها. ومن هناك انطلقت الحركة التي عرفت فيما بعد باسم «ثورة الفاتح عام 1969»، لتتولى حكم البلاد، وكان لرجال مصراتة نصيب في النظام الجديد، رغم اعتماد القذافي على التوزيع القبلي لكثير من المناصب خصوصًا الأمنية والعسكرية.
بعدها مرّت مصراتة ومعها كبار أثرياء ووجهاء المدينة، بمفترق طرق جديد يعد من المنعطفات المهمة التي أثرت بطريقة أو بأخرى على مسيرة السويحلي، وطريقته في النظر إلى الأمور، ووضع التصورات للمستقبل، بعد رجوعه إلى ليبيا ببضع سنوات. وهذا المنعطف يرتبط بشكل مباشر بالعلاقة التاريخية المضطربة بين مصراتة ومدينة بني وليد معقل قبيلة ورفلّة.
أولا.. تتذكر كثرة من الليبيين أن أصل الخلاف بين ورفلة ومصراتة يرجع إلى نحو مائة سنة مضت. وكان يدور في الأساس بين رجلين صديقين؛ أحدهما من أجداد السويحلي، اسمه رمضان السويحلي، وكان زعيمًا كبيرًا لقبائل مصراتة، والآخر هو عبد النبي بالخير، زعيم قبيلة ورفلّة. كان الرجلان ممن أسهموا في تأسيس أول جمهورية عربية، هي جمهورية طرابلس، إلا أن تباين الرؤى في التعامل مع المحتل الإيطالي وقتذاك، دفع السويحلي الجدّ إلى شن هجوم عسكري كبير على ورفلّة، لكن المعارك انتهت بمقتله، وانتهت أيضًا باختفاء بالخير من ليبيا.
ومضت السنون، وظلت كوادر من الجانبين، أي من مصراتة وورفلّة، يتربّص بعضها ببعض، رغبة في الثأر والانتقام وحسم الخلاف القديم، مع أن غالبية كل من مصراتة وورفلّة ما أرادتا أبدا أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، لكن هكذا كانت الظروف تسير بالجميع إلى الأمام.
واستمرت الأحوال على هذا المنوال إلى أن بدأت الانتفاضة المسلحة ضد نظام القذافي في مطلع 2011. ومن جديد وجدت مصراتة وقياداتها - ومن بينهم رجل الأعمال والسياسي القديم عبد الرحمن السويحلي - نفسها عند مفترق طرق جديد.. هل يقفون مع ثورة 17 فبراير، أم ينتظرون إلى أن تتضح الآفاق الجديدة؟ بيد أن الأمم المتحدة، وأطرافًا إقليمية ودولية أخرى، كانت قد تواصلت مع «الثوار»، وبدا أنها عزمت على تغيير الأوضاع في ليبيا إلى الأبد. ووجد السويحلي نفسه من بين المتهمين بالتحريض على الثورة، وزجّ به القذافي في السجن مع عدد من أفراد أسرته.
ومن المفارقات العجيبة أن قبيلة ورفلّة، خصوصًا في مدينة بني وليد، ورغم الظلم الذي وقع على أبنائها من نظام القذافي، وقفت ضد تدخّل حلف الـ«ناتو» في البلاد. ولهذا جرى تصنيف المدينة وسكانها باعتبارهم من الموالين لنظام القذافي، رغم أن هذا لا يُعد دقيقًا بأي حال، فكبار رجال القبيلة يقولون إنهم ما كانوا مع القذافي بل مع مبدأ عدم التحالف مع الأجنبي للتدخل في شؤون البلاد الداخلية، أيًا ما كانت طبيعة الخلافات بين أبناء الوطن الواحد.
في أي حال، تمكن المنتفضون على حكم القذافي من تحرير عبد الرحمن السويحلي ومَن معه من السجن، لتواصل المدينة رحلتها في التحرّر من قبضة قوات النظام الذي فرض عليها حصارًا من جميع الجهات لعدة أشهر. وتكوّنت عدة ميليشيات وكتائب في مصراتة شاركت بقوة في ملاحقة رجال النظام السابق، إلى أن وصلت إلى مقر إقامته في ذلك الوقت في مسقط رأسه بمدينة سرت. وبعد قتله، نُقِل جثمانه إلى مصراتة لكي يُدفن في مكان لم يُعلن عنه حتى الآن.
في البداية، أي بعد مقتل القذافي بعدة أشهر، أسس السويحلي حزب «الاتحاد من أجل الوطن» في عام 2012، ثم فاز في انتخابات «المؤتمر الوطني العام» (البرلمان السابق، وهو الأول بعد سقوط نظام القذافي) عن مدينة مصراتة، التي أجريت خلال شهر يوليو (تموز) من تلك السنة، ليترأس فيه لجنة «الدفاع والأمن القومي». وفي هذا التوقيت، أدت الظروف والانقسامات التي تمر بها البلاد، إلى جانب الخوف من عودة رجال النظام السابق إلى الحياة السياسية والعسكرية، إلى اتخاذ «المؤتمر الوطني» السابق قرارًا بشن هجوم مسلح على مدينة بني وليد، بزعم أنها تناصر أنصار القذافي، وتخبئ بعض القيادات المطلوبة. وظهرت على السطح اتهامات بوجود رغبة في الانتقام والثأر لمقل الجدّ رمضان السويحلي، خصوصًا أن كثيرًا من الميليشيات التي شاركت في الهجوم كانت محسوبة على مصراتة وقادتها، بمن فيهم عبد الرحمن السويحلي، حفيد الجدّ رمضان.
ومع ذلك فاز السويحلي في الانتخابات الجديدة للبرلمان في يونيو (حزيران) عام 2014، عن مصراتة أيضًا، لكنه رفض الالتحاق بالعمل في البرلمان الذي اضطر لعقد جلساته في مدينة طبرق بشرق البلاد. وسبب رفضه هو صدور حكم للمحكمة الدستورية العليا يخص بطلان إجراءات اتخذت في البرلمان السابق، إلا أن تفسير خصوم البرلمان الجديد، ومنهم السويحلي، أن قرار المحكمة يقضي بحل البرلمان الجديد من الأساس. وعلى ذلك عاد الرجل لمواصلة عمله في البرلمان السابق، الذي واصل عقد جلساته في طرابلس.
استمر هذا الوضع إلى أن بدأت «معركة طرابلس» التي أدت لحرق مطار العاصمة الليبية الدولي، وتدمير الطائرات الجاثمة فيه. ومجددًا اتهمت ميليشيات مصراتة، بإيعاز من بعض قادتها، بأنهم وراء هذه القوة التي استولت على طرابلس، تحت اسم «قوات فجر ليبيا». وبعد هذه الواقعة دخلت الأمم المتحدة على الخط، من جديد، لأول مرة منذ قرارها بإعطاء الضوء الأخضر للـ«ناتو» في 2011 بالتدخل في ليبيا. وبدأت منذ أواخر 2014 سلسلة من المفاوضات الصعبة لإيجاد حكومة توافقية بين بعض الخصوم الليبيين. واختير عبد الرحمن السويحلي ضمن الفريق الممثل للبرلمان السابق. واستمرت هذه المفاوضات ما بين بلدة الصخيرات المغربية وعدة مدن عربية وأجنبية أخرى إلى أن انتهت في أواخر العام الماضي، بالإعلان عن «مجلس رئاسي» برئاسة فايز السرّاج، وحكومة مقترحة لم تحصل على ثقة البرلمان بعد، مع إنشاء «مجلس أعلى للدولة» يتكون من أعضاء من «المؤتمر الوطني» (البرلمان السابق) يكون له الصفة الاستشارية، مع البرلمان الحالي المعترف به دوليًا وصاحب الاختصاص الأصيل في التشريع والرقابة.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.