إيران: طريق سري إلى القنبلة النووية يمر عبر كوريا الشمالية

امتلاك الحرس الثوري لصواريخ باليستية خطر على الأمن الدولي * تتباهى قيادات الحرس الثوري بقدرتها على نقل خبراتها الصاروخية إلى الجماعات التابعة لها

إيران: طريق سري إلى القنبلة النووية يمر عبر كوريا الشمالية
TT

إيران: طريق سري إلى القنبلة النووية يمر عبر كوريا الشمالية

إيران: طريق سري إلى القنبلة النووية يمر عبر كوريا الشمالية

منذ الاتفاق النووي في يوليو (تموز)، أجرى الحرس الثوري عدة اختبارات لإطلاق الصواريخ الباليستية كان آخرها في بداية مارس الماضي في استفزاز واضح لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة؛ حيث يتباهى الحرس الثوري بتحديه للولايات المتحدة ومقاومته للعقوبات. وفي الوقت نفسه يعمل على تعزيز إمكانياته من خلال تطويره لبرنامج الصواريخ الباليستية، كما أن بإمكانه أيضا الحصول على الصواريخ الباليستية العابرة للقارات.
مما لا شك فيه أن امتلاك الحرس الثوري للصواريخ الباليستية يمثل خطرا شديدا على الأمن الدولي.

وكانت الجمهورية الإسلامية تواجه صعوبات شديدة في العثور على مصادر موثوق بها لتحديث جيشها، ومن ثم منحت طهران أولويتها الأولى للحصول على أنواع مختلفة من الصواريخ وتطويرها لكي تعوض ذلك العجز.
كان الغرب قد توقف عن بيع المعدات العسكرية إلى إيران بعد ثورة 1979. وهو ما مثل مشكلة جدية للقوات المسلحة الإيرانية التي تتبنى النموذج الأميركي. ومن ثم، تراجعت القدرات العسكرية التقليدية لإيران إلى حد كبير خلال فترة الحرب الإيرانية - العراقية (1980 - 1988). واليوم، أصبح برنامج الصواريخ الباليستية للحرس الثوري من الأعمدة الرئيسية للاستراتيجية العسكرية للجمهورية الإسلامية.
فمنذ الحرب الإيرانية - العراقية، عملت طهران بلا كلل على تطوير برنامجها للأسلحة الباليستية حتى أصبحت اليوم تمتلك أكبر ترسانة في الشرق الأوسط. ويخضع البرنامج لسلطة الحرس الثوري الإيرانية وتحديدا لقوات الفضاء.
عملت قوات الحرس الثوري على توسيع نطاق وجودة صواريخها؛ حيث استثمرت إيران في تصنيعها محليا وفي تطوير البنية المحلية لتقليل الاعتماد على المصادر الأجنبية. ورغم أنها ما زالت تحتاج إلى استيراد بعض المكونات الرئيسية، فإنها أصبحت قادرة على إنتاج الصواريخ. ورغم أن العقوبات الدولية عرقلت مساعي الحرس الثوري للحصول على الصواريخ الباليستية وأجبرته على الاعتماد على مصادر بديلة أقل مصداقية للحصول على تكنولوجيا الصواريخ، فإن هذه العقوبات سيتم رفعها بعد الاتفاقية النووية مما يفتح أمامه أبواب القنوات الشرعية للشراء.
جدير بالذكر أن الحرس الثوري يمتلك حاليا صواريخ قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى يتراوح مداها بين 300 و2000 كيلومتر قادرة على ضرب أهداف في الشرق الأوسط. وتتكون معظم ترسانته من الصواريخ قصيرة المدى التي يصل نطاقها إلى 500 كيلومتر مثل «شهاب1» و«شهاب2» اللذين تم تصميمهما على غرار النموذجين السوفياتيين «سكود بي» و«سكود سي». وتتضمن ترسانتهم من الصواريخ الباليستية متوسطة المدى صواريخ «شهاب3» الذي يصل مداه إلى 1280 كيلومترا. ومؤخرا، قام الحرس الثوري باختبار صاروخ «عماد» الذي تفيد التقارير بأن مداه يصل إلى 1700 كيلومتر. وأعلن الحرس الثوري أن إنتاج هذا الصاروخ سيكون على نطاق واسع، مستعرضا مخزونه من صواريخ «عماد» المخزنة في قبو تحت الأرض في يناير (كانون الثاني) الماضي. تستطيع الصواريخ الباليستية بعيدة المدى الموجودة حاليا لدى الحرس الثوري مثل «سجيل2» وأحد نسخ «شهاب3» أن تصل إلى مسافة 2000 كيلومتر. وقد أكد مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية أن الصواريخ الباليستية الموجودة حاليا لدى إيران خاصة الصواريخ متوسطة وطويلة المدى «قادرة» على حمل رؤوس نووية.
كما تمكن الحرس الثوري من إنشاء شبكات من مستودعات ومخازن الصواريخ تحت الأرض وفي الجبال في جميع أنحاء البلاد واستعرضهم في عرض بثته التلفزيونات المحلية. ومن جهة أخرى، سعت إيران إلى تعزيز دفاعها الجوي لتعزيز قدرة صواريخها على الصمود إذا ما تعرضت لهجمات استباقية.
تعد الصواريخ الباليستية محورية لاستراتيجية إيران العسكرية التي تعتمد على تجنب أو ردع النزاعات التقليدية بينما تستعرض قوتها بالخارج من خلال العمليات بالوكالة. وبمعنى آخر، فإنها تخدم غرضا دفاعيا كما تعمل كغطاء يمكن طهران من استئناف مساعيها لتحقيق أهدافها الثورية التي تسعى لتغيير الأوضاع الراهنة في العالم الإسلامي والحلول محلها.
تعتمد سياسة الردع الإيرانية على القدرة على تهديد الملاحة في مضيق هرمز، وشن هجمات إرهابية على عدة قارات وشن هجمات بالصواريخ بعيدة المدى على القوات الأميركية وحلفائهم في المنطقة. كما تتباهى قيادات الحرس الثوري بأنها تستطيع نقل خبراتها الصاروخية إلى الجماعات التابعة لها.
تمكنت الجمهورية الإسلامية من خداع المجتمع الدولي بشأن أبحاثها وعملها على تطوير الأسلحة النووية لأكثر من عقدين. وتأكدت الشكوك بشأنها بعدما أصدرت «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» تقريرها حول الأبعاد العسكرية المحتملة لبرنامج إيران النووي في ديسمبر (كانون الأول)؛ حيث وجدت «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» أن طهران كانت تجري تجارب على تزويد الصاروخ الباليستي «شهاب3» برأس نووي وهي التقنية التي تستطيع إيران تطويرها واستخدامها في الصواريخ طويلة المدى.
ورغم إصرار إيران المستمر على أنها لم تسع أبدأ للحصول على الأسلحة النووية، يؤكد التقرير أن طهران كان لديها بالفعل برنامج نووي، وهو البرنامج الذي استمر لعدد من السنوات يزيد على العدد الذي أعلنته من قبل الاستخبارات الأميركية.
ولكن التقرير لم يكن مكتملا لأن إيران رفضت أن تقدم إجابات كاملة عن أسئلة الوكالة بشأن نشاطات «الأبعاد العسكرية المحتملة» كما لم يصمم مفاوضو الصفقة النووية على أن تقدم إيران إجابات كاملة. فمن جهة، لم يكن السعي لتحقيق «الأبعاد العسكرية المحتملة» يمثل اتهاما محرجا يدفع الجمهورية الإسلامية للاعتراف. ومن جهة أخرى، كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بحاجة إلى أن تعرف إلى أي مدى ذهبت إيران في مسار التسليح لكي تؤسس نظاما فعالا للتأكد من الحقيقة. فمن دون أسس واضحة، لن تتمكن الوكالة من رصد حركة استئناف أنشطة التسليح.
تعمل الجمهورية الإسلامية على تطوير برنامج صواريخ باليستية عابرة للقارات تحت غطاء العمل على برنامج إطلاق فضائي، نظرا لاعتماد كلا البرنامجين على تكنولوجيا مشتركة. وأخذا في الاعتبار أوجه التشابه بين البرنامجين، وتاريخ إيران من الخداع، من المنطقي أن تحوم الشكوك حول ما إذا كان برنامج الإطلاق الفضائي يتم استخدامه كغطاء لبرنامج تطوير الصواريخ الباليستية العابرة للقارات. ومما لا شك فيه أن الصواريخ الباليستية العابرة للقارات ليس لها سوى غرض واحد وهو حمل رؤوس نووية.
وسوف يعمل برنامج الصواريخ الباليستية العابرة للقارات على تعزيز قدرة الجمهورية الإسلامية على تنفيذ ضربات بعيدة المدى تصل إلى أكثر من 5500 كيلومتر وربما تصل إلى الولايات المتحدة نفسها. ومع ذلك هناك صعوبات تقنية كبرى تقف أمام تطوير برنامج الصواريخ الباليستية العابرة للقارات والبرنامج القادر على نقل الرؤوس النووية.
ومن جهة أخرى، نجحت طهران من خلال برنامجها الفضائي في إطلاق أول صاروخ مداري وهو «السفير» في عام 2010. ويشبه برنامج إيران الفضائي الجديد الذي يحمل اسم «سميرغ» برنامج صواريخ كوريا الشمالية «أونها» ويمكنه إرسال أطباق اصطناعية أكبر إلى مدارات أعلى. وتفيد التقارير بأن طهران كانت تسعى منذ فبراير (شباط) إلى إطلاق قمر اصطناعي من خلال صاروخ «سميرغ»؛ وهو ما يمكن أن يمثل خطوة مهمة في تقدم برنامج الصواريخ الباليستية العابرة للقارات وقدرتها على حمل رؤوس نووية.
مما لا شك فيه أن هناك تعاونا باليستيا طويل المدى بين الجمهورية الإسلامية وكوريا الشمالية؛ فقد ساعدت الأخيرة الحرس الثوري على تطوير الصواريخ الباليستية. ووفقا لبعض التقارير، سافر وفد من كوريا الشمالية إلى إيران لحضور فعاليات إجراء الاختبار الذي أجراه الحرس الثوري في فبراير 2014.
وتفيد التقارير بأن وفدا من العلماء الإيرانيين قد دفع قدرا سخيا من الأموال لحضور الاختبار النووي الذي أجرته كوريا الشمالية في فبراير 2013. وفي مذكراته، أشار الرئيس الإيراني السابق آية الله علي أكبر هاشمي، مؤسس البرنامج النووي الإيراني، إلى «عملية نقل تكنولوجية» غير محددة من كوريا الشمالية في 1991 وتلقي «بضائع خاصة» عبر قنوات الاستخبارات بعد ذلك بسنة.
ومن ثم فهناك طريق سري إلى القنبلة النووية يمر عبر كوريا الشمالية. ووفقا للاستخبارات الأميركية قد قالت في أواخر مارس (آذار) إن بيونغ يانغ ربما تكون قد تمكنت من تصغير قنبلة نووية يمكن حملها على الصواريخ الباليستية العابرة للقارات. وكانت بيونغ يانغ تسعى مؤخرا بجدية أكبر لتحقيق طموحاتها النووية؛ حيث قامت بإجراء اختبار لتفجير قنبلة نووية أخرى في يناير.
في بداية مارس، أجرى الحرس الثوري على مدار أسبوع كامل اختبارات لسلسلة من الصواريخ الباليستية في حدث تم بث وقائعه على شاشات التلفزيون المحلي. وفي مقطع الفيديو الذي تم بثه، ظهرت صواريخ باليستية يتم إطلاقها من قواعد صاروخية.
وكان هذا هو ثالث اختبار للصواريخ الباليستية منذ الاتفاق النووي الذي تم توقيعه في الصيف الماضي. ففي أكتوبر (تشرين الأول)، اختبرت إيران الجيل الجديد من صواريخ «عماد» الباليستية التي تزعم أن مداها يصل إلى 1700 كيلومتر ويمكنها حمل 750 كيلوغراما ومزودة بمركبات عودة حديثة التصميم ونظم أكثر تطورا للتحكم والتوجيه. وفي بداية ديسمبر (كانون الأول)، أعلن الحرس الثوري أنه أجرى اختبارا إضافيا في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني).
ورغم أن هذه الاختبارات تنتهك الكثير من قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإن لغة ووضع تلك القرارات تغيرا إلى حد كبير منذ الاتفاق النووي الذي تم توقيعه في الصيف. فكان قرار 1929 الذي تم إصداره في 2010 يفرض عقوبات مشددة على طهران نظرا لعدم تعاونها مع المجتمع الدولي في ضمان الطبيعة السلمية لبرنامجها النووي. كما يحظر القرار تطوير صواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية بما في ذلك تكنولوجيا إطلاق الصواريخ الباليستية. وهو ما يرجع أساسا إلى أن صواريخ إيران الباليستية لديها القدرة على حمل الرؤوس النووية.
ولكن العمل بقرار 1929 انتهى في يناير 2016. عندما أكدت «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» أن إيران أوفت بجميع التزاماتها النووية، وبدأ العمل بقرار 2231 الذي يحتفي بالاتفاق النووي. ولكن قرار 2231 ما زال يطالب إيران بعدم انتهاك القيود المفروضة على برنامجها للصواريخ الباليستية لمدة ثماني سنوات من تاريخ التنفيذ.
كان رد فعل الولايات المتحدة على تلك الانتهاكات هادئا؛ فهي لم تذهب بالانتهاكات التي قامت بها طهران في اختبارات أكتوبر، ونوفمبر إلى مجلس الأمن عندما كان قرار 1929 ما زال ساريا رغم أن تقرير الأمم المتحدة في ديسمبر (كانون الأول) أفاد بانتهاك هذين الاختبارين للقرار. ورغم أن الولايات المتحدة أخذت الانتهاك الذي قامت به إيران في مارس إلى مجلس الأمن، استخدمت روسيا حق الفيتو على ذلك الإجراء.
كما أرسلت واشنطن أيضا إشارات على أنها ليست جادة بشأن اتخاذ إجراءات عقابية تجاه انتهاكات طهران. فعندما دار الحديث حول نية الولايات المتحدة فرض بعض العقوبات في ديسمبر، سرعان ما استنكر المسؤولون بالحكومة والقادة العسكريون العقوبات المحتملة واعتبروها انتهاكا للاتفاقية النووية، وأصدر الرئيس حسن روحاني أوامره إلى وزير الدفاع بالإسراع في عملية إنتاج الصواريخ. ومن ثم تراجع البيت الأبيض معلنا أنه سيؤجل العقوبات لحين إجراء «مراجعات داخلية».
واتضح لاحقا أن طهران هددت البيت الأبيض بوقف المفاوضات المستمرة لتحرير خمسة إيرانيين - أميركيين معتقلين في إيران إذا ما تم فرض عقوبات جديدة عليها. ويعد هذا مثالا على الكيفية التي ستستفيد بها الجمهورية الإسلامية من الصفقة النووية وإمكانية أن تهدد بالانسحاب منها إذا ما قررت الولايات المتحدة أن تتخذ إجراء عقابيا ضد برنامجها للصواريخ الباليستية.
وفرضت الولايات المتحدة في يناير، ومارس عقوبات محدودة على عدة كيانات وأفراد شاركوا في برنامج الصواريخ الباليستية. ولكن هذه العقوبات المحدودة لن تؤثر في الواقع على البرنامج الصاروخي للحرس الجمهوري؛ وذلك حيث إن الحرس الثوري أسس إمبراطورية اقتصادية تخترق كافة قطاعات الاقتصاد الإيراني وتهيمن على كبرى الحصص في الصناعات التي تدعم برنامج الصواريخ الباليستية مثل التعدين والمواد الكيماوية والطاقة.
ونظرا للإحباط الذي شعر به المشرعون الأميركيون تجاه ما يرون أنه سلبية البيت الأبيض، فإنهم طرحوا إجراءات لفرض عقوبات على القطاعات الاقتصادية الإيرانية التي تدعم البرنامج الصاروخي. ولكن وزير الثقافة الإيراني أخبر وسائل الإعلام مؤخرا أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري أخبر وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف بألا يقلق تجاه إجراءات الكونغرس.
*زميل ومحلل أبحاث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية بواشنطن
ينشر بالتزامن مع الشقيقة مجلة (المجلة) .. أضغط على الرابط التالي



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!