ابن قدامة المقدسي وذم التأويل والاجتهاد العقلي

مؤلفاته متنوعة وتشهد على اهتمامات أهل العلم في عصره

ابن قدامة المقدسي وذم التأويل والاجتهاد العقلي
TT

ابن قدامة المقدسي وذم التأويل والاجتهاد العقلي

ابن قدامة المقدسي وذم التأويل والاجتهاد العقلي

أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الجماعيلي والدمشقي الصالحي الحنبلي (541 - 620 هـ)، المعروف، اختصارًا، بابن قدامة المقدسي، ولد بجماعيل (نابلس - فلسطين). ورحل إلى دمشق في عقده الأول مع أهله وعائلته. وتلقى علومه من كبار مشايخ دمشق وعلمائها. وسافر إلى بغداد أربع سنوات لتلقي العلوم، ليعود إلى دمشق، حيث عاش إلى أن وافته المنية، ودُفن في دمشق بجبل قاسيون، خلف الجامع المظفري.
ترك مؤلفات متنوعة تشهد على اهتمامات أهل العلم في عصره، منها: «العمدة»، و«المقنع»، و«الكافي»، و«المغني»، و«الاستبصار»، و«في الأنساب»، و«الاعتقاد»، و«التوابين»، و«ذم الوسواس»، و«روضة الناضر وجنة المناظر»، و«فضائل الصحابة»، و«القدر»، و«لمعة الاعتقاد»، و«مسألة في تحريم النظر في علم الكلام»، و«مناسك الحج»، و«ذم التأويل» وغيرها. ويعد الأخير (نشر عن: «الدار السلفي» - الكويت، في طبعته الأولى سنة 1406، وهو من تحقيق: بدر بن عبد الله البدر)، واحدًا من كتب التراث التي تؤسس لتحريم التأويل والاجتهاد، سيرًا على هدي شيوخه.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أبواب: بيّن في الأول مذهب السلف الصالح وسبيلهم. وحث في الثاني، على اتباعهم ولزوم أثرهم. وفي الثالث، أبان صواب ما صار إليه السلف، وأن الحق فيما كانوا عليه. ويهدف في ذلك إلى إبراز قول السلف في أسماء الله وصفاته، وينصح بضرورة اتباعهم ومحبتهم، والرد على الشقاق عن الرسول باعتبار مآلهم نار جهنم.
يشدد المقدسي على ذم التأويل، مستندًا في ذلك على نصوص قرآنية وأحاديث نبوية، وبعض الأخبار المتداولة في التراث الشفوي في مساجد بغداد ودمشق، ليخلص إلى أن:
التأويل من أهل جهنم والزنادقة (ويقصد تحديدًا المعتزلة والجهميين والفلاسفة).
التأويل ليس بواجب بالإجماع، ولو كان كذلك، فالنبي وأصحابه أخلُّوا بهذا الواجب. وهذا محال، وغير جائز قوله.
يتعين تحريم التأويل.
لا يُلزِم أحدًا الكلام في التأويل.
ينبغي أن يُعلم أن الأخبار الصحيحة التي ثبت بها صفات الله تعالى، هي الأخبار الصحيحة الثابتة بنقل العدول الثقات، التي قبلها السلف ونقلوها ولم ينكروها ولا تكلموا فيها. وأما الأحاديث الموضوعة التي وضعها الزنادقة ليلبسوا بها على أهل الإسلام، أو الأحاديث الضعيفة، إما لضعف رواتها أو جهالتهم، أو لعلةٍ فيها لا يجوز أن يقال بها ولا اعتقاد ما فيها، بل وجودها كعدمها، وما وضعته الزنادقة، فهو كقولهم الذي أضافوه إلى أنفسهم.
طريقة السلف رحمة الله عليهم جامعةٌ لكل خير.
يدعو الشيخ السلفي إلى ضرورة الإيمان بصفات الله، سيرًا على نهج السلف الصالح، وهي الصفات التي وصف بها نفسه في آياته وتنزيله وعلى لسان الرسول، من غير زيادةٍ ولا نقصان ولا تجاوز لها ولا تفسير ولا تأويل، بما يخالف ظاهره.
ويعتبر أن السلف لم يقبلوا التأويل، بدليل أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم وأخبار الرسول نقل مصدقٍ لها مؤمنٍ بها، قابلٍ لها، غير مرتاب فيها، ولا شاكّ في صدق قائلها. ويحاج بسيل من الروايات والمحكيات، لبيان صدق وصحة أهل السلف، في عدم الدعوة إلى التأويل، وخصوصًا صفات الله. لذلك يقول: «أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، حيث أنبأنا أبو الحسن محمد بن مرزوق ابن عبد الرازق الزعفراني، أنبأنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الطيب قال: (أما الكلام في الصفات، فإن ما روي منها في السنن الصحاح، مذهب السلف رضي الله عنهم، إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها). والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرعٌ على الكلام في الذات. ويُحتذى في ذلك حذوه ومثاله. فإذا كان معلومًا أن إثبات رب العالمين تعالى، إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف. فإذا قلنا لله تعالى يد وسمع وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله تعالى لنفسه. ولا نقول إن معنى اليد القدرة. ولا إن معنى السمع والبصر العلم. ولا نقول إنها الجوارح. ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح، وأدوات الفعل. ونقول إنما ورد إثباتها، لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، الشورى (11). وقوله تعالى: (ولم يكن له كفوا أحد). الإخلاص (الآية 4)».
ويذهب إلى أن المعتزلة والجهمية أصحاب تحريف وتشبيه. وكل من لم يؤمن بصفات الله، كما هي ظاهرة في النص، فهو كافر: «حرام على العقول أن تمثل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل، إلا ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان نبيه». وحجته في ذلك، أن العقل قاصر عن إدراك باطن النص القرآني، ولا يجوز له التعقل. ومن زعم غير ما أقره ظاهر النص، فهو معطلٌ جهمي. وأكثر من ذلك، يعتبر السؤال عن النص بدعة: «والسؤال عنه بدعة لأنه سؤال عما لا سبيل إلى علمه، ولا يجوز الكلام فيه، ولم يسبق في ذلك في زمن رسول الله ولا من بعده من أصحابه». والحجة هنا حجة ضعيفة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ارتباط النص بسياقٍ تاريخي واجتماعي وسياسي ما، يحكم مضمونه، كإجابة عن متطلبات تلك الشروط. ولو أن الكلام في النص في زمن الرسول وفي زمان الصحابة من بعده، لم يتم، فهذا لا يعني أن الجواز باطل، لأن سياق ظهور علم الكلام والكلام في الصفات والآيات المتشابهات والمحكمات، مختلف تمامًا عن السياق الذي يتحدث عنه ابن قدامة. ولأنه محال أن تكون الشروط متطابقة عبر أزمنة مختلفة، وإن كان ذلك ممكنًا فما الذي يجعلها كذلك؟
يذهب أيضًا، إلى أن قول الفلاسفة بدعة، لأنه قول في الأعراض والأجسام، مستندًا في ذلك على حكي ورواية تطرح أكثر من سؤال: «وروى نوح الجامع قال قلت لأبي حنيفة رحمه الله ما تقول فيما أحدث الناس من كلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة». فأهل السنة يقتدون ولا يبتدون. ويتبعون ولا يبتدعون. ولا يزعمون بل عليهم بالعتيق وبلزوم السنة والسلف. فقد ثبت وجوب اتباع السلف رحمة الله عليهم، بالكتاب والسنة والإجماع، والعبرة دلت عليه. فإن السلف لا يخلون من أن يكونوا مصيبين أو مخطئين. فإن كانوا مصيبين وجب اتباعهم، لأن اتباع الصواب واجب، وركوب الخطأ في الاعتقاد حرام. ولأنهم إذا كانوا مصيبين، كانوا على الصراط المستقيم، ومخالفهم متبع لسبيل الشيطان الهادي إلى صراط الجحيم. وقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وصراطه ونهى عن اتباع ما سواه، فقال: «وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون» (الأنعام: 15).
لم يشر المقدسي إلى أي فيلسوف ولا لأي نص من نصوص الفلاسفة. بل اكتفى بالحديث عن روايات تذم قول الفلاسفة في التشبيه ونفي الصفات، من دون أن يبحث في الحجج التي قدمها الأشاعرة والجهميون في ذلك. بل ويتحاشى حتى قراءة أثرهم واجتهاداتهم بدعوى أنها بدعة.
في القرآن آيات متشابهات وآيات محكمات. ومن اتبع التشابه إنما في قلبه زيغ يبتغي التأويل. في حين أن التأويل لله وحده «هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله» (آل عمران: 7).
ومن يبتغِ تأويل التشابه يقترن بمن يريد الفتنة، وذلك بين من خلال تفسيره للآية أعلاه. فالله ذم مبتغي التأويل. ولو كان معلومًا للراسخين لكان مبتغيه ممدوحًا غير مذموم، والنبي قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فهم الذين عنى الله فاحذروهم»، الناس قسمان: الزائغون المتبعون للمتشابه والراسخون في العلم، ويجب أن يكون كل قسم مخالفًا للآخر فيما وُصف به، فيلزم، حينئذ، أن يكون الراسخون مخالفين للزائغين في ترك اتباع المتشابه، مفوضين إلى الله تعالى، بقولهم: «آمنا به كل من عند ربنا» تاركين لابتغاء تأويله، وعلى قولنا يستقيم هذا المعنى، ومن عطف الراسخين في العلم أخل بهذا المعنى، ولم يجعل الراسخين قسمًا آخر ولا مخالفين للقسم المذموم فيما وصفوا به فلا يصح، لو أراد الله في هذه الآية العطف لقال ويقولون بالواو، لأن التقدير والراسخون في العلم، يعلمون تأويله ويقولون، قولهم آمنا به كل من عند ربنا، كلام يشعر بالتفويض والتسليم لما لم يعلموه لعلمهم بأنه من عند ربهم، كما أن المحكم المعلوم معناه من عنده، إذا رأى الصحابة من يتبع المتشابه، ويسأل عنه، استدلوا على أنه من أهل الزيغ، وأخيرًا لو كان معلومًا للراسخين لوجب أن لا يعلمه غيرهم، لأن الله تعالى نفى علمه عن غيرهم، فلا يجوز حينئذ أن يتناول إلا من ثبت أنه من الراسخين، ويحرم التأويل على العامة كلهم والمتعلمين الذين لم ينتهوا إلى درجة الرسوخ والخصم، في هذا يجوز التأويل لكل أحد، فقد خالف النص على كل تقدير. يخلص المقدسي من خلال تأويله لهذه الآية، إلى أن «تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى، وأن متبعه من أهل الزيغ وأنه محرم على كل أحد».
لا تدرك الصفات - في نظر ابن قدامة - بالعقل، على عكس ما يذهب إليه المعتزلة، لذا يقول: «صفات الله تعالى وأسماؤه لا تُدرك بالعقل، لأن العقل إنما يعلم صفة ما رآه أو رأى نظيره، والله تعالى لا تدركه الأبصار ولا نظير له ولا شبيه، فلا تعلم صفاته وأسماؤه إلا بالتوقيف»، ويحاج على ذلك بالآية 33 من سورة الأعراف: «قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون».
نجد أنفسنا أمام عقلٍ يذم التأويل ويحجر على العقل، بدعوى أن الإحساس البشري لا يمكنه إدراك الخالق. وبذلك نجد أن هذا النص الفقهي - السني لا يقيم اعتبارًا للميز بين الحجج العقلية والحجج المادية، كما فعل أهل النظر والاجتهاد العقلي في التراث العربي الإسلامي. ويتضح مما سبق أن صاحبنا عمل جاهدًا على رفض التأويل، كما عمل غيره من أهل السلف. وإن كانت محاولته لا تنطوي على أي تقدم بخصوص ذم التأويل. إذ إن عمله ما هو إلا جرد واجترار لدلائل السلف. وان كان الأولون عليه من سلفه قد ساجلوا أهل «القول بالصفات» و«التشبيه» و«التجسيم»، فإنه في عمله هذا يكتفي فقط، بإصدار الأحكام في عموميتها، دون أن يخوض في سجال مع من ينتقدهم، فالسجال والمعاندة بالنقاش المبني، خير سبيلٍ لتفضيل هذا عن ذاك، ولمقارعة هذه الفكرة بتلك، وفي غياب التداول يستحيل الحوار.

* أستاذ فلسفة



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.