عبد الله العثيمين .. باحث عنيزة وطالب أدنبرة يودع الحياة

تولى أمانة جائزة الملك فيصل 29 سنة ويعد أحد أبرز الوجوه العلمية والأكاديمية

د. عبد الله بن صالح العثيمين
د. عبد الله بن صالح العثيمين
TT

عبد الله العثيمين .. باحث عنيزة وطالب أدنبرة يودع الحياة

د. عبد الله بن صالح العثيمين
د. عبد الله بن صالح العثيمين

غيَّب الموت، أمس، الدكتور عبد الله الصالح العثيمين، أمين عام جائزة الملك فيصل الخيرية، وأحد أبرز الوجوه العلمية والأكاديمية والثقافية السعودية والعربية، وعلى الرغم من كونه ولد في أسرة دينية، فشقيقه العلامة الشيخ الراحل محمد بن عثيمين، أحد أبرز المشايح، لكن الدكتور عبد الله اختار أن يشق لنفسه طريقًا ثالثًا بين المسار الديني المحافظ، والآخر المتحرر، فكان يجمع بين المحافظة والانفتاح، حتى أصبح أيقونة خاصة تميز حضوره في المنتديات والملتقيات الثقافية والفكرية.
ولد في عنيزة في القصيم، واختار أن يحمل تراثها الديني إلى بريطانيا، وكان موضوع أطروحته في جامعة إدنبرة باسكوتلندا عام 1972 عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان عنوانها: «الشيخ محمد بن عبد الوهاب، دراسة لحياته، وتحليل لإنتاجه العلمي، وإيضاح لعقيدته وأفكاره، وآراء معارضيه».
لم تتمكن اسكوتلندا أن تصيغ هويته، ولا عنيزة المعروفة بانفتاحها أن تتخلى عن تأثيرها. كتب زميله في إدنبرة الدكتور محمد بن عبد الرحمن الهدلق، قبل سنوات، أنه كان يرسل إليه الكمأ «الفقع» عبر البريد، حتى ظنه ساعي البريد الاسكوتلندي «بطاطس فاسدة».
ولد بن عثيمين في عنيزة عام 1936، وفيها تعلَّم مبادئ القراءة والكتابة، ثم التحق بالتعليم الحكومي سنة 1950. وتخرج في قسم التاريخ في جامعة الملك سعود بالرياض سنة 1962، وأصبح بعد حصوله على الدكتوراه من اسكوتلندا عضوا في هيئة التدريس بقسم التاريخ بجامعة الملك سعود، ثم ترقى إلى درجة أستاذ عام 1982، وتم تعيينه عضوا في مجلس الشورى من عام 1999 حتى 2009، ثم عين أمينا عاما لجائزة الملك فيصل العالمية منذ عام 1987 حتى وفاته.
طفولته لم تكن ميسرة، فقد اضطر في سن الثانية عشرة إلى أن يعمل دلالا «سمسارا»، لمدة عام ونصف وكان ذلك في الرياض، ثم أقفل عائدا إلى عنيزة يعمل فلاحًا في الزراعة، قبل أن يلزمه والده التعلم في المدرسة، حتى حاز الشهادة الابتدائية، ومن ثم دخل المعهد العلمي بعنيزة، وحصل على الشهادة الثانوية من المعهد العلمي بعنيزة (منتسبا)، كما حصل على شهادة المعهد العلمي السعودي بمكة (منتسبا)، ثم التحق بجامعة الملك سعود بالرياض.
يروي الدكتور محمد الهدلق في مقال له، نشره في العام 2013 في «الجزيرة»، أن العثيمين حين كان في السنة الأولى في جامعة الرياض كتب مقالا نقد فيه بعض أعضاء هيئة التدريس فاشتكاه الأساتذة إلى إدارة الجامعة وطالبوا بفصله، وفعلا فصله مجلس الجامعة. وكان يتولى الإشراف على الجامعة في ذلك الوقت الراحل الشيخ ناصر المنقور، وبعد شفاعات ووساطات عُدِّلَ قرارُ الفصل ليكون لمدة ثلاثة أسابيع فقط. وفي نهاية السنة الثانية من دراسته في الجامعة تعين سكرتيرا لوكيل الجامعة آنذاك الدكتور عبد العزيز الخويطر، وصار بحكم هذا العمل يحضر مجلس الجامعة لا بصفته عضوا بالطبع، وإنما ليضبط محاضره بوصفه سكرتيرا لوكيل الجامعة.
أما مؤلفاته، فمن بينها: «الشيخ محمد بن عبد الوهاب»، «تاريخ المملكة العربية السعودية»، «بحوث وتعليقات في تاريخ المملكة»، «محاضرات وتعليقات في تاريخ المملكة»، «نشأة إمارة آل رشيد»، «العلاقة بين الدولة السعودية الأولى والكويت»، «معارك الملك عبد العزيز المشهورة لتوحيد المملكة»، إلى جانب تحقيقاته وترجماته عن الإنجليزية.
إلى جانب أبحاثه في حقول التاريخ والأدب والتراث، فهو أيضًا شاعر، ومن دواوينه الشعرية: «عودة الغائب» 1401 هـ، «بوح الشباب» 1415 هـ، «لا تسلني» 1415هـ، «دمشق وقصائد أخرى»، «صدى البهجة»، «عرس الشهباء وقصائد أخرى»، «في زفاف العروس»، «لا تلوموه إذا غضبا»، «مشاعر في زمن الوهج».
وشعره يتسم بنبرة عروبية ثورية، وحس وطني، منه قصيدة عنوانها (ثورة لبنان، 1958) يقول فيها:

مثلما ينطلق الإعصار مجتاحا مهيبا
مثلما يقتحم الضرغام فتاكا غضوبا
مثلما ينفجر البركان مهتاجا رهيبا
قذفت ثورة شعب الأرز نارا ولهيبا
تصطلي من بات للدولار عبدا وربيا
يا جبال الأرز قد دوت نداءات الجراح
وتعالت كهزيم الرعد صيحات الكفاح
وانبرى الأحرار كالسيل إلى حمل السلاح
يا جبال الأرز ما أنت سوى حقد وثورة
ضد نكس رام أن يلهب فوق الشعب جوره
من رأى في الغرب معبودا ولن يعبد غيره
وعميل سوف يستأصل هذا الشعب أمره
ومن قصيدة: «الأســاطــيـــر»
حينما كنت صبيا
كنت أصغي للأساطير فأطرب
لم أكن وحدي الذي يصغي فيطرب
كل طفل في بلادي كان مثلي
يسمع الجدة تجترَّ أساطير عجيبة فيصدِّق
كل شيء كانت الجدة تحكيه يصدقْ
الخفافيش التي صارت أسودا
والثعابين التي صارت حمائم
لم تكن تستهدف التضليل بالقول المنمَّق
لم يكن يصدر ما جاءت به عن سوء نية



ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.