الإنثروبولوجيا.. وعلاقة الشباب بالإرهاب

ثمة حاجة إلى دراسات عربية ميدانية ومفسرة

عناصر من داعش في الرقة السورية
عناصر من داعش في الرقة السورية
TT

الإنثروبولوجيا.. وعلاقة الشباب بالإرهاب

عناصر من داعش في الرقة السورية
عناصر من داعش في الرقة السورية

تعرَّض الوضع السياسي العام على امتداد الجغرافية العربية في السنوات الأخيرة لهزات عنيفة، لم تعهدها طبيعة البنيات وخصائصها المستمدة من السلوك التقليدي الديني. ولم يعد ممكنا في عصر ما بعد الحراك المجتمعي العربي تحليل أنماط السلوك والفعل بالتحليل النظري المفترض المألوف عند الباحثين حول الدين والشباب؛ بل أصبح لزاما الانتقال من التصورات القبلية للواقع الذي فرضته فترة استغلال المعرفة من طرف السياسة بشكل ضيق، إلى النظر العلمي في الواقع المعيش وفاعلية الفاعلين فيه.
ومن تلك المواضيع التي تفرض على الباحثين العرب مسحا إثنوغرافيا سوسيولوجيا، مسألة ارتباط الشباب بالدين والعنف. فلم يعد من الممكن الاكتفاء المرضي بخلاصات الدراسات الغربية في هذا المجال، سواء صدرت من مراكز أبحاث فرنكوفونية أم أنغلوساكسونية، أو حتى تلك التي أصدرها خبراء غربيون في هذا المجال. ذلك أن معرفة النسق الاجتماعي وما يتعلق بالحياة المادية التنظيمية، وجزئيات الحياة الاجتماعية، يتطلب الخروج من التعميم السائد في الدراسات الإنتربولوجية الاستشراقية التي تؤكد أن المجتمع العربي المعاصر يعيش تحت سطوة الدين، بالمعنى الذي يجعل من المجتمع، وقوته الشبابية مجرد أسير في زنزانة شيدها الإسلام لتكون حياة مغلقة وعنيفة.
وتبعا لذلك فإن دراسة علاقة الدين بالإرهاب، وتزايد انخراط جزء من الشباب العربي المسلم في مسلسل العنف «الداعشي» بعد 2011م، يتطلب من المثقف العربي، العودة منهجيا على الدراسة والعمل الحقلي. فلا يكاد الباحث يجد دراسة أكاديمية عربية مبنية على المنهجية التي تقوم عليها الإنتربولوجيا وهي الإثنوغرافية، بما هي مشاركة للباحث في المعيش اليومي لظاهرة معينة، وما يتطلبه ذلك من مراقبة وتسجيل، تحقق النظر إلى الواقع كما هو.
صحيح أنه من الصعب على الإنتربولوجيين العرب الانخراط العملي في صفوف التنظيمات الإرهابية، ومعاينة طريقة الاستقطاب والتجنيد، لكنه يملك إمكانات دراسة «عينات» من «الإرهابيين الشباب التائبين»، ويمكن الانطلاق من التجربتين السعودية، والموريتانية الناجحتين في هذا المجال.
فارتباط المثقف بالحقل الإنتربولوجي، يدعم التوجه العقلاني الديني الذي يسير فيه المجتمع العربي المعاصر، وتدعم من فرص فهم ظاهرة «داعش» و«القاعدة» وعلاقتهما بالدين، وبالجيل الجديد من الشباب «الداعشي» العربي أو الغربي المولد والدراسة والثقافة.
ورغم أن الإرهاب ظاهرة مفتوحة ومعقدة، وتتطلب دينامية فكرية توازي دينامية وفاعلية التنظيمات الدينية العنيفة، من ناحية تطورها وتوسعها. فإن تناول الظاهرة عبر البحث الميداني العملي، قادر على تسليط الضوء على دور كل العوامل المعقدة المنتجة للإرهاب؛ سواء كانت ذات طبيعة سياسية، أو اجتماعية، أو دينية، أو نفسية، أو ثقافية أو غير ذلك.
هذا المسلك المنهجي الإنتربولوجي يمكننا من التحليل الدقيق للظاهرة، كما يوصلنا إلى معرفة سياق تطور العنف، بوصفه دينامية داخلية لمجتمع معين (العراقي أو اليمني، مثلا)، وكونه مرتبطا بدينامية خارجية أوسع، تتعلق بتكوين الهوية والقيم المجتمعية العامة العربية. فالسياق الداخلي للجماعة الدولة، يختلف عن سياق الهوية الدينية الجامعة الأمة، كما أن الاستعداد الفطري البشري للعنف لا يرتبط بالعنصر الوراثي، أو الديني، بقدر ما يرتبط بالسياق المجتمعي، وما يدور بداخله وخارجه من تفاعلات، تنمي العنف وتجعل منه نسقا ثقافيا رائجا.
إن الهوية والنسق القيمي لا ينفكان عن التماسك الاجتماعي وعن سلسة الإدراك وشبكة التصورات القبلية للمجتمع. وعنف الدينامية الخارجية في علاقتها بالعولمة والصراعات الدولية، جعل القيمة الدينية تتعرض لخلخلة من جهة الإدراك بشكل لم يكن معروفا عند الأجيال السابقة. إن «جيل الإنترنت» - كما يسميه دون تابسكوت - لم يتجاوز فقط الإدراك التقليدي للدين، بل يستغل إنتاجيات العقلانية والتحديث لخلق تماسك اجتماعي مبني على تقديس استعمال العنف، ضد الدولة والمجتمع، وضد الغرب بوصفه «الآخر»، ولو كان «جيل الإنترنت» نفسه من مواليد هذا «الآخر» المتخيل.
ولذلك يحصل «جيل الإنترنت» على تمثيل معنوي ورمزي لذاته ومستقبله، وفي الوقت نفسه يخلق لنفسه عالما يعده أصيلا يجب فرضه «بالإرهاب». وكما يذهب إلى ذلك بعضهم الباحثين، فإن هذا التماسك الاجتماعي الذي يخلقه الجيل الشبابي، يجعل من الدين نظرية جاذبة في عالم مضطرب؛ مما يضمن لأفراد الجيل قدرة على المقاومة والاستمرار في جماعة دينية قابلة للتوسع، وخلق رمزية كبيرة تفتح التماسك الاجتماعي الديني على آفاق عالمية، تتخذ من الإرهاب قيمة لاحمة للمشترك الجماعي لعالم «جيل الإنترنيت».
ولعل هذا التوجه العلمي «الميداني» هو الذي منح أعمال الإنتربولوجي الأميركي سكوت أتران، مدير الأبحاث الإنتربولوجية في المركز الوطني للبحث العلمي في باريس، أهمية بالغة في هذا المجال. فقد أصبحت أبحاثه، وبالتالي توجيهاته، في مجال الإرهاب وعلاقة الشباب بالتنظيمات الإرهابية محل حفاوة علمية في أكبر مراكز الأبحاث العالمية ولدى مختلف الحكومات الغربية والأمم المتحدة. ويمثل كتابه «الحديث إلى العدو: الدين والأخوة وصناعة الإرهابيين وتفكيكهم» الذي صدر عام 2010م واحدا من الأبحاث الإنتربولوجية الميدانية التي اشتغلت على «مجموعة من الإرهابيين السابقين»، وخرجت بخلاصات علمية تتعلق بطرق تكوين وإنتاج الجيل الجديد من الإرهابيين، وطرق تشكيل الوعي ونوعية التصورات والسلوكيات التي يمارسونها، داخل جماعتهم الداخلية، ومع المحيط الخارجي الذي يعدونه عالم الكفر.
انطلاقا من هذه الخلفية البحثية، ينتهي مدير الأبحاث الإنتربولوجية في المركز الوطني للبحث العلمي في باريس، إلى أن قضايا الإرهاب والعنف والدين في العالم الإسلامي معقدة، ويرى أن مجمل الشباب الذين يلتحقون بالحركات الإرهابية، يقومون بذلك بدافع قناعاتي تصوري، مبني على الإيمان بقضية والإخلاص لها، و«لعائلاتهم المتخيلة». وهم يعدون أنفسهم في جماعة عقدية متحدة، في شكلها الأصيل المتضامن بشكل إنساني بدائي، وهذا بدوره يفسر سهولة التجنيد المبني على القرابة العائلية، والانتماء لأصدقاء المعسكر، والمدرسة، ورفاق الرياضة، وزملاء العمل. مما يعني أن نحو ثلاثة أرباع التجنيد لفائدة التنظيمات الإرهابية يكون خارج مؤسسة المسجد، التي أصبح تأثيرها شبه غائب في هذا المجال، ولعل تطورات الهجمات الإرهابية لباريس في سنة 2015. وتلك التي ضربت بروكسل يوم 22 مارس (آذار)، التي أسفرت عن 31 قتيلا.
ينبهنا كذلك الباحث الإنتربولوجي الكبير أتران، أن الشباب لا ينخرطون في موجة الإرهاب؛ لأنهم منتقمون استثنائيون وفقراء غير مبالين بالحياة، ويعشقون الحور العين، بل إنهم جيل لا يخلو من العقلانية، على الرغم من القناعة الدينية الشمولية المدمرة التي يؤمن بها هذا الجيل الجديد من الشباب، المتعلم والواعي.
ثم يعود أتران ليؤكد أنه ليس كل الانتحاريين لهم دافع ديني، والمجموعات العلمانية قامت بتفجيرات انتحارية عدة، ومنها «نمور التاميل» في سريلانكا، وهي تنظيم قومي هندوسي، كما وقعت مثل تلك الهجمات في السابق في لبنان، ونفذها قوميون وعلمانيون. فالقضية - حسب أتران - ليست دينية، ولا هي حرب شاملة، يخوضها شباب متعطش للدماء ضد العالم. إنه جيل من الشباب، يجب علينا مواجهته، بخلق أنماط وصور جديدة عن أبطال يمثلون تصوراته ورغباته غير المفصولة عن الواقع، فهو جيل طموح ومبادر، ويسعى إلى البروز. لذلك فالتعامل معه لا يجب أن يكون بالقنابل والرصاص، ولا بالإثارة الإعلامية التي تجعل منهم أبطالا وقادة يقودون الحروب باسم «داعش». فالواقع ما زال يؤكد أنهم أقلية هامشية، ويجب أن يبقوا كذلك كما هم فعلا.
هذه هي خلاصة غير عربية، لمجموعة من أبحاث مدير مركز باريس، سكوت أتران، الذي اشتغل ميدانيا مع زملائه على مقابلات مباشرة مع مقاتلين من «جبهة النصرة» وجماعات مقاتلة أخرى في سوريا، وكذلك «داعش» في العراق. وحاول الإجابة فيها على أسئلة مركزية من مثل لماذا ينضم الشباب للجماعات الإرهابية؟ وما قناعات وطرق تفكير هذا النوع من البشر؟ وما الأسباب والعوامل التي تدفع الشباب المسلم المولود بأوروبا، الذي عاش وتربى ودرس فيها، إلى «الهجرة» والالتحاق «بداعش»؟
*أستاذ العلوم السياسية
جامعة محمد الخامس الرباط



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.