الإنثروبولوجيا.. وعلاقة الشباب بالإرهاب

ثمة حاجة إلى دراسات عربية ميدانية ومفسرة

عناصر من داعش في الرقة السورية
عناصر من داعش في الرقة السورية
TT

الإنثروبولوجيا.. وعلاقة الشباب بالإرهاب

عناصر من داعش في الرقة السورية
عناصر من داعش في الرقة السورية

تعرَّض الوضع السياسي العام على امتداد الجغرافية العربية في السنوات الأخيرة لهزات عنيفة، لم تعهدها طبيعة البنيات وخصائصها المستمدة من السلوك التقليدي الديني. ولم يعد ممكنا في عصر ما بعد الحراك المجتمعي العربي تحليل أنماط السلوك والفعل بالتحليل النظري المفترض المألوف عند الباحثين حول الدين والشباب؛ بل أصبح لزاما الانتقال من التصورات القبلية للواقع الذي فرضته فترة استغلال المعرفة من طرف السياسة بشكل ضيق، إلى النظر العلمي في الواقع المعيش وفاعلية الفاعلين فيه.
ومن تلك المواضيع التي تفرض على الباحثين العرب مسحا إثنوغرافيا سوسيولوجيا، مسألة ارتباط الشباب بالدين والعنف. فلم يعد من الممكن الاكتفاء المرضي بخلاصات الدراسات الغربية في هذا المجال، سواء صدرت من مراكز أبحاث فرنكوفونية أم أنغلوساكسونية، أو حتى تلك التي أصدرها خبراء غربيون في هذا المجال. ذلك أن معرفة النسق الاجتماعي وما يتعلق بالحياة المادية التنظيمية، وجزئيات الحياة الاجتماعية، يتطلب الخروج من التعميم السائد في الدراسات الإنتربولوجية الاستشراقية التي تؤكد أن المجتمع العربي المعاصر يعيش تحت سطوة الدين، بالمعنى الذي يجعل من المجتمع، وقوته الشبابية مجرد أسير في زنزانة شيدها الإسلام لتكون حياة مغلقة وعنيفة.
وتبعا لذلك فإن دراسة علاقة الدين بالإرهاب، وتزايد انخراط جزء من الشباب العربي المسلم في مسلسل العنف «الداعشي» بعد 2011م، يتطلب من المثقف العربي، العودة منهجيا على الدراسة والعمل الحقلي. فلا يكاد الباحث يجد دراسة أكاديمية عربية مبنية على المنهجية التي تقوم عليها الإنتربولوجيا وهي الإثنوغرافية، بما هي مشاركة للباحث في المعيش اليومي لظاهرة معينة، وما يتطلبه ذلك من مراقبة وتسجيل، تحقق النظر إلى الواقع كما هو.
صحيح أنه من الصعب على الإنتربولوجيين العرب الانخراط العملي في صفوف التنظيمات الإرهابية، ومعاينة طريقة الاستقطاب والتجنيد، لكنه يملك إمكانات دراسة «عينات» من «الإرهابيين الشباب التائبين»، ويمكن الانطلاق من التجربتين السعودية، والموريتانية الناجحتين في هذا المجال.
فارتباط المثقف بالحقل الإنتربولوجي، يدعم التوجه العقلاني الديني الذي يسير فيه المجتمع العربي المعاصر، وتدعم من فرص فهم ظاهرة «داعش» و«القاعدة» وعلاقتهما بالدين، وبالجيل الجديد من الشباب «الداعشي» العربي أو الغربي المولد والدراسة والثقافة.
ورغم أن الإرهاب ظاهرة مفتوحة ومعقدة، وتتطلب دينامية فكرية توازي دينامية وفاعلية التنظيمات الدينية العنيفة، من ناحية تطورها وتوسعها. فإن تناول الظاهرة عبر البحث الميداني العملي، قادر على تسليط الضوء على دور كل العوامل المعقدة المنتجة للإرهاب؛ سواء كانت ذات طبيعة سياسية، أو اجتماعية، أو دينية، أو نفسية، أو ثقافية أو غير ذلك.
هذا المسلك المنهجي الإنتربولوجي يمكننا من التحليل الدقيق للظاهرة، كما يوصلنا إلى معرفة سياق تطور العنف، بوصفه دينامية داخلية لمجتمع معين (العراقي أو اليمني، مثلا)، وكونه مرتبطا بدينامية خارجية أوسع، تتعلق بتكوين الهوية والقيم المجتمعية العامة العربية. فالسياق الداخلي للجماعة الدولة، يختلف عن سياق الهوية الدينية الجامعة الأمة، كما أن الاستعداد الفطري البشري للعنف لا يرتبط بالعنصر الوراثي، أو الديني، بقدر ما يرتبط بالسياق المجتمعي، وما يدور بداخله وخارجه من تفاعلات، تنمي العنف وتجعل منه نسقا ثقافيا رائجا.
إن الهوية والنسق القيمي لا ينفكان عن التماسك الاجتماعي وعن سلسة الإدراك وشبكة التصورات القبلية للمجتمع. وعنف الدينامية الخارجية في علاقتها بالعولمة والصراعات الدولية، جعل القيمة الدينية تتعرض لخلخلة من جهة الإدراك بشكل لم يكن معروفا عند الأجيال السابقة. إن «جيل الإنترنت» - كما يسميه دون تابسكوت - لم يتجاوز فقط الإدراك التقليدي للدين، بل يستغل إنتاجيات العقلانية والتحديث لخلق تماسك اجتماعي مبني على تقديس استعمال العنف، ضد الدولة والمجتمع، وضد الغرب بوصفه «الآخر»، ولو كان «جيل الإنترنت» نفسه من مواليد هذا «الآخر» المتخيل.
ولذلك يحصل «جيل الإنترنت» على تمثيل معنوي ورمزي لذاته ومستقبله، وفي الوقت نفسه يخلق لنفسه عالما يعده أصيلا يجب فرضه «بالإرهاب». وكما يذهب إلى ذلك بعضهم الباحثين، فإن هذا التماسك الاجتماعي الذي يخلقه الجيل الشبابي، يجعل من الدين نظرية جاذبة في عالم مضطرب؛ مما يضمن لأفراد الجيل قدرة على المقاومة والاستمرار في جماعة دينية قابلة للتوسع، وخلق رمزية كبيرة تفتح التماسك الاجتماعي الديني على آفاق عالمية، تتخذ من الإرهاب قيمة لاحمة للمشترك الجماعي لعالم «جيل الإنترنيت».
ولعل هذا التوجه العلمي «الميداني» هو الذي منح أعمال الإنتربولوجي الأميركي سكوت أتران، مدير الأبحاث الإنتربولوجية في المركز الوطني للبحث العلمي في باريس، أهمية بالغة في هذا المجال. فقد أصبحت أبحاثه، وبالتالي توجيهاته، في مجال الإرهاب وعلاقة الشباب بالتنظيمات الإرهابية محل حفاوة علمية في أكبر مراكز الأبحاث العالمية ولدى مختلف الحكومات الغربية والأمم المتحدة. ويمثل كتابه «الحديث إلى العدو: الدين والأخوة وصناعة الإرهابيين وتفكيكهم» الذي صدر عام 2010م واحدا من الأبحاث الإنتربولوجية الميدانية التي اشتغلت على «مجموعة من الإرهابيين السابقين»، وخرجت بخلاصات علمية تتعلق بطرق تكوين وإنتاج الجيل الجديد من الإرهابيين، وطرق تشكيل الوعي ونوعية التصورات والسلوكيات التي يمارسونها، داخل جماعتهم الداخلية، ومع المحيط الخارجي الذي يعدونه عالم الكفر.
انطلاقا من هذه الخلفية البحثية، ينتهي مدير الأبحاث الإنتربولوجية في المركز الوطني للبحث العلمي في باريس، إلى أن قضايا الإرهاب والعنف والدين في العالم الإسلامي معقدة، ويرى أن مجمل الشباب الذين يلتحقون بالحركات الإرهابية، يقومون بذلك بدافع قناعاتي تصوري، مبني على الإيمان بقضية والإخلاص لها، و«لعائلاتهم المتخيلة». وهم يعدون أنفسهم في جماعة عقدية متحدة، في شكلها الأصيل المتضامن بشكل إنساني بدائي، وهذا بدوره يفسر سهولة التجنيد المبني على القرابة العائلية، والانتماء لأصدقاء المعسكر، والمدرسة، ورفاق الرياضة، وزملاء العمل. مما يعني أن نحو ثلاثة أرباع التجنيد لفائدة التنظيمات الإرهابية يكون خارج مؤسسة المسجد، التي أصبح تأثيرها شبه غائب في هذا المجال، ولعل تطورات الهجمات الإرهابية لباريس في سنة 2015. وتلك التي ضربت بروكسل يوم 22 مارس (آذار)، التي أسفرت عن 31 قتيلا.
ينبهنا كذلك الباحث الإنتربولوجي الكبير أتران، أن الشباب لا ينخرطون في موجة الإرهاب؛ لأنهم منتقمون استثنائيون وفقراء غير مبالين بالحياة، ويعشقون الحور العين، بل إنهم جيل لا يخلو من العقلانية، على الرغم من القناعة الدينية الشمولية المدمرة التي يؤمن بها هذا الجيل الجديد من الشباب، المتعلم والواعي.
ثم يعود أتران ليؤكد أنه ليس كل الانتحاريين لهم دافع ديني، والمجموعات العلمانية قامت بتفجيرات انتحارية عدة، ومنها «نمور التاميل» في سريلانكا، وهي تنظيم قومي هندوسي، كما وقعت مثل تلك الهجمات في السابق في لبنان، ونفذها قوميون وعلمانيون. فالقضية - حسب أتران - ليست دينية، ولا هي حرب شاملة، يخوضها شباب متعطش للدماء ضد العالم. إنه جيل من الشباب، يجب علينا مواجهته، بخلق أنماط وصور جديدة عن أبطال يمثلون تصوراته ورغباته غير المفصولة عن الواقع، فهو جيل طموح ومبادر، ويسعى إلى البروز. لذلك فالتعامل معه لا يجب أن يكون بالقنابل والرصاص، ولا بالإثارة الإعلامية التي تجعل منهم أبطالا وقادة يقودون الحروب باسم «داعش». فالواقع ما زال يؤكد أنهم أقلية هامشية، ويجب أن يبقوا كذلك كما هم فعلا.
هذه هي خلاصة غير عربية، لمجموعة من أبحاث مدير مركز باريس، سكوت أتران، الذي اشتغل ميدانيا مع زملائه على مقابلات مباشرة مع مقاتلين من «جبهة النصرة» وجماعات مقاتلة أخرى في سوريا، وكذلك «داعش» في العراق. وحاول الإجابة فيها على أسئلة مركزية من مثل لماذا ينضم الشباب للجماعات الإرهابية؟ وما قناعات وطرق تفكير هذا النوع من البشر؟ وما الأسباب والعوامل التي تدفع الشباب المسلم المولود بأوروبا، الذي عاش وتربى ودرس فيها، إلى «الهجرة» والالتحاق «بداعش»؟
*أستاذ العلوم السياسية
جامعة محمد الخامس الرباط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟