كتب عبد الله العروي حول مفهوم التاريخ والدولة والحريّة، ونحت مفهوم الأُدلُوجة والتاريخانيّة. وكتب في العقد الأخير، عن السيّاسة والدّين والإصلاح والتحديث. وترجم نصوصًا فلسفيّة وتاريخيّة، بالنظر إلى ضرورتها لرفع الوعي العربي إلى مستوى أرقى، يمكّننا من التحاور مع الحضارة البشريّة الأخرى. ويستحضر في تأصيله لهذه المفاهيم، المقاربة الفلسفيّة والتاريخيّة والقانونيّة. وذلك بهدف استقراء التداول العربي القديم والمعاصر، لفهم ميكانيزمات حضورها في فكرنا الراهن.
تمثل لحظة هيغل، نقطة مِفصليّة في تاريخ الفكر الفلسفي في نظر العروي؛ لأنه يمثل أحسن من لخّص أقوال أفلاطون ومكيافيلي في الدولة، وأحسن من فند أقوال أوغسطين وروسو وكانط. فعند هيغل: «تتوحد كل الجداول القديمة، ومنه تتفرع المذاهب العصريّة». أي «نقطة الوصل بين الفلسفة الكلاسيكيّة والفلسفة العصريّة». ولا يمكن الاستغناء عنه أبدا لفهم اللحظة الانتقاليّة.
يشدِّدُ العروي على مكانة مفهوم الحريّة عند هيغل، لجهة أن الدولة هي من يقرر حريّة الفرد بما هي حرية الذات. ولا تقف أمام تلك الحريّة التي تُمنح للفرد: «يمكن أن نعتبر أن الدولة عامة، تزداد كمالاً كلما كان ما يترك لمبادرة الفرد، لكي يعمل فيه حسب رأيه الخاص، أقل أهميّة مما ينجز جماعيًّا» (هيغل). لا تقوم الدولة على التضحيّة، وليست في خدمة الفرد، لأنه لا يمكن تصور أخلاق فوق الدولة أو مجتمع فوق الدولة. وفي الوقت عينه، وإن كانت الدولة غير مبنيّة على المصلحة، فإنها لا تقف في وجه هذه المصلحة. لكنها لا تتعداها بالنظر إلى احتضانها منظمات مكلفة بالسهر عليها.
بدأ سؤال الدولة عند هيغل، في كتابه: «دستور ألمانيا». وفيه قارن بين الدولة الألمانيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة، واصفا ألمانيا بأنها مجرد مجموعة إنسانيّة لا تملك تصورًا عقليًّا (الدفاع عن الحدود مثلا)، وبالتالي ليست دولة. وتطور في كتبه اللاحقة، وخاصة، في «مبادئ فلسفة الحق» حيث يعرف الدولة بقوله: «الدولة هي الفكرة الأخلاقيّة الموضوعيّة إذ تتحقق، هي الروح الأخلاقيّة بصفتها إرادة جوهريّة تتجلى واضحة لذاتها، تعرف ذاتها وتفكر بذاتها وتنجز ما تعرف لأنها تعرفه». وهو تعريف مجرد لا يتعلق بدولة ما، بل بمفهوم الدولة كما تطور عبر التاريخ من البداية إلى النهاية. ينتقل من خلاله هيغل من الاجتماعيات والتاريخ والقانون إلى الفلسفة. يختزل هذا التعريف، تصورًا مثاليًا ومطلقًا للدولة. حيث التطابق بيّن بين فكرة الدولة بوصفها تصورا، والتجسيد العقلي للدولة، بما هي دولة في ذاتها. وهذا ما دفع العروي إلى التساؤل: هل هذا التصور الذي يختزل الدولة «في الدولة في ذاتها»، ينظر إلى الدولة بوصفها دولة عقليّة علميّة أم أن الدولة خرافيّة، أسطوريّة؟
يعود العروي إلى أرنست كاسيرر، لإبراز أطروحة أعداء «الدولة في ذاتها». لأن دولة هيغل هي الدولة العقلانيّة التي لا تستسلم للنزوات الفرديّة. تربي الناشئة حسب آرائها. توحد التنظيمات وتجسد الروح القوميّة، أو حقيقة الجنس وليس روح الفرد. كما يعود إلى تأويل إريك فايل، الذي حكم على هيغل حكمًا مغايرًا للذين يصنفونه، في مقابل كانط، ويجعل من هيغل، لا موقفا أسطوريًا، بل نظريّة علميّة حول الدولة، كما هي الآن، وكما ستكون باستمرار، ما دامت ضروريّة للإنسان: «إن نظرية هيغل في الدولة صحيحة، لأنها تحلل بكيفية صحيحة، الدولة القائمة في عصره وفي عصرنا. يمكن تجاوزها ولا يمكن بتاتا تنفيذها» (مفهوم الدولة، 28)، لكن كيف يمكن تجاوز الدولة حسب فايل؟
أولا، يرى فايل أن الدولة يمكن تجاوزها أولاً، داخل الجدل التاريخي ذاته: عن طريق الحرب. فالمجتمع العام بالنسبة للدولة المستقلة، هو الذي سيؤدي إلى ظهور منتظم دولي عالمي، بعد أن تسأم المجتمعات المستقلة من الحروب الطاحنة المتواليّة.
ثانيا، يمكن تجاوز الدولة بسبب جدلها الداخلي ذاته: فالدولة العاقلة في رأي فايل، لا تمثل الدولة المطلقة عند هيغل؛ لأن الروح المطلق لا يتحقق إلا في دولة كاملة الإنسانيّة لا تعرف التناقض.
تحيلنا انتقادات فايل لهيغل إلى مسألتين أساسيتين:
1 – في مفهوم الدولة العالميّة: إن الفكر عامة، ليس فكرًا مجردًا، وتأملات الفلاسفة ليست تأملات من فراغ. بل تظل محكومة بمنطق ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. وعلى الرغم من أن ما ينبغي أن يكون قد يكون مصبوغًا بيوتوبيا، فإنه من الصعوبة التكهن بتحققها. وهي في واقع الأمر، تأملات تستوجب الوعي سابقا بنتائجها. وهذا لا يعني أننا أمام تفكير مستقبلي سابق لأوانه. بل العكس، يعني ذلك عدم تبخيس التأملات التي لا تلزم في نهاية المطاف إلا من يجعلها اعتقادًا إلى جانب صاحبها. والجدل حول الدولة العالميّة، ليس فقط متجاوزًا آنذاك، وإنما يصعب حتى الحديث عن الفكرة بشكل ملموس. وما يقع الآن في العالم من جدل حول نهاية الدولة المحليّة وولادة الدولة القوميّة «الاتحاد الأوروبي مثلا»، ومختلف الاتحادات الجهوية، تسير في طريق توحيد أمة تحت تنظيم واحد، في تراتبية متعددة في مشاربها وانحداراتها الوطنيّة. ولكن ينبغي ألا نغفل هنا، أن المؤسسات يجمعها دوما رابط آيديولوجي، أو بلغة غي روشي، لا وجود لحركة اجتماعيّة كتنظيم ومؤسسة إلا بوجود مبدأي الهويّة وقوة ضغط. فالهويّة تجسد الأرضيّة التي في ضوئها يتعين الهدف ويتحدد الانتماء الاجتماعي وترسم المطالب. وفي القوة تتجسد المقاومة والسعي نحو شرعنة المطالب. والمخاض الأوروبي الحالي، جنين لم يتحدد شكله بعد، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بمصيره. وما يصدق على الدولة القوميّة – الجهويّة، يصدق أيضًا على الدولة العالميّة. فالسؤال اليوم، لم يعد سؤالاً حول دور الدولة المحليّة (الوطنية)، على الرغم من وجود اتفاقات تجاريّة تحاول إماطة اللّثام عن السلطة المحليّة، وتسعى إلى التدخل في الشؤون المحليّة. وهنا يطرح علينا السؤال حول الدولة العالمية: هل لدينا حكومة عالميّة، وتنظيمات ومؤسسات أمميّة تنظم تدخلها كاملاً، ولها مشروعيّة سيّاسيّة حقيقية؟
إن سيرورة تطور النظام الرأسمالي العالمي، أفضى إلى أداة تحكم عالميّة، حيث وجود منظمات دوليّة لها اليد الطولى في كل السيّاسات المحليّة. وعلى الرغم من التشكيك في مكانة الدولة الوطنيّة، فإن مصير الدولة العالميّة مهم للغاية بالنظر إلى اللّبس الذي يكتنف هذا المفهوم. لقد تجاوز هيغل التناقض المحلي إلى المؤسسة العالميّة. كما تجاوز التاريخ إلى التاريخ الكوني أو تاريخ العالم. وهذا ما يقتضيه منطقه التركيبي. فالتناقض بين القضيّة ونقيضها يولد الجديد. ففي «العقل في التاريخ» ينظر منظورًا جديدًا يتجاوز بكثير أطروحة «فلسفة الحق». وإن صح القول، فإن للعروي الحق كاملاً في عدِّه تأويل فايل تأويلاً يطابق بين هيغل وماركس. فكل الانتقادات ما هي إلا الخيوط الأولى التي رسمها هيغل، على الرغم من أن فهم ماركس لمفهوم الدولة، سيصبح متجاوزًا مع الربع الأول من القرن العشرين، بعد صدور كتاب لينين «الدولة والثورة»، الذي رسم فيه أفق الدولة الاشتراكيّة التي ينبغي أن تسير نحو الاضمحلال.
2 – يشير العروي إلى الفكرة الفوضويّة حول الدولة، وهي تحتاج إلى توضيح. لقد ارتبطت الفوضويّة أو التحرريّة، بالفرنسي بيير جوزيف برودون (1809 - 1865). وعلى الرغم من أن ماركس وإنجلز وقفا أمام أطروحات برودون في الاقتصاد السيّاسي وفي الفلسفة، فإن فكرة الفوضويّة تتمثل أساسًا في نكران الدولة، وعدم الحاجة إليها. فإذا كانت الدولة في نظر الفوضويّة سلطة للقمع الطبقي، فإن الحاجة إليها لم تنشأ إلا لأداء وظيفة القمع، وإن نقيض البرجوازيّة لا يستطيع أن يشتغل بجهاز تكمن وظيفته في القمع، فتلك الوظيفة، الحاجة التي جعلت فكرة الدولة تظهر تاريخيًّا، يستغني عنها المجتمع الاشتراكي النّقيض، ولعل النقاش الذي أثارته التجربة السوفياتيّة حول «ديكتاتوريّة البروليتاريا»، أعمق، ويعيد أفكار ماركس إلى المحك. ونقف هنا عند فكرة الفوضويين لبيان الاختلاف القائم بين الاتجاهات المتعددة في الفكر الماركسي. فإن كانت أغلب التيارات الماركسيّة تنهل من «أصلٍ واحد» وهو كتابات ماركس وإنجلز، فإن وجهات النّظر تختلف حتى في أكثر المسائِل وضوحًا لدى المؤسسين. فالدولة ينبغي أن تكون من وجهة نظر الحزب اللّينيني دولة تسير نحو الاضمحلال، لأن الأسُس التي تجعلها قائمة أول الأمر، بعد الثورة المضادة، لم تعد مبررة بعد تسلم الحكم. هكذا تم تبرير وجود الدولة لعامة السوفياتات في عهد لينين. إلا أن التجربة أبانت عن نقاش آخر، سيمتد طويلاً منذ منتصف العشرينات إلى اليوم والذي سُمّي بالنقاش حول «البيروقراطيّة».
إن الغاية كل الغاية حول هاتين المسألتين المهمتين ليست قراءة العروي بما لا يحتمل، ولا تحايلا على القراءة، بل، فقط، لإبراز أهميّة هذا النقاش حول مفهوم يبدو مجردًا، فلسفيًا، لكنه في حقيقة الأمر، يظل حاضرًا وملازمًا للواقع الراهن.
يلخص العروي مجمل قوله في الفصل الأول، ببيان ثلاثة اتجاهات رئيسيّة في نظريّة الدولة:
1 - الاتجاه الديني الميتافيزيقي: أوغسطين
2 - الاتجاه اللّيبرالي. الأخلاقي مع كانط
3 - الاتجاه اللاديني ـ اللأخلاقي مع هيغل
فهيغل عمل على نقد اليوتوبيا، أي نقد الآيديولوجيا السّابقة. ولذلك يمثل في نظر العروي، نقطة الالتقاء والتحول بين القديم والحديث. وهنا أهميته. فنكران هذا الموقف لن يكون إلا عودة إلى الطوبى حيث يقول: «إذا قررنا أن نظريّة هيغل مبنيّة على التمثل بالواقع، مهما كان حكمنا على نتائجه، وجب القول: إن رفضها يعني بالضرورة عودة إلى الطوبى» (نفسه، 32).
تأخذ نظرية الدولة عند هيغل طابعًا تعميميًا، وكأننا نسعى فقط إلى تبرير، لماذا ينبغي الحديث عن الدولة بوصفها واقعا إنسانيا، أو ظاهرة سياسيّة لا يصح مناقشتها من الخارج؟ لأنه لا يمكن تجاوزها. بل هي نابعة من ضرورة كونها متطلبة تاريخيًا، وتجاوزها لا يستقيم وغايتَها في ذاتها، مع عدم إغفال أن الدولة - حسب هيغل - ليست – فقط - فكرة عقليّة أخلاقيّة خارجيّة، بل تتطور من خلال تجارب الإنسانيّة. وما تتبُع هيغل للقانون ولفلسفة القانون في التشريعات الأوروبيّة وخاصة تشريعات الرومان، منذ البندكت - المدونة، مرورًا بروح القوانين لمونتسكيو، إلا تبريرا لعقلانيّة وإطلاقيّة وتعالي فكرة الدولة.
الأساس الفلسفي للدولة عند عبد الله العروي
تطور النظام الرأسمالي العالمي أفضى إلى أداة تحكم عالمية
الأساس الفلسفي للدولة عند عبد الله العروي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة