الفرق بين المصمم النجم والمصمم الموظف.. إصرار ومثابرة

زها حديد ودروس قيّمة لمصممين شباب في زمن التحديات الكبيرة؟

الالتواءات والانحناءات في «مركز حيدر علييف الثقافي».. فنية بكل المقاييس تجعل من كل المبنى لوحة فنية معاصرة
الالتواءات والانحناءات في «مركز حيدر علييف الثقافي».. فنية بكل المقاييس تجعل من كل المبنى لوحة فنية معاصرة
TT

الفرق بين المصمم النجم والمصمم الموظف.. إصرار ومثابرة

الالتواءات والانحناءات في «مركز حيدر علييف الثقافي».. فنية بكل المقاييس تجعل من كل المبنى لوحة فنية معاصرة
الالتواءات والانحناءات في «مركز حيدر علييف الثقافي».. فنية بكل المقاييس تجعل من كل المبنى لوحة فنية معاصرة

لا يختلف اثنان على أن لعبة الكراسي، التي كانت تجعلنا نتجادل ونحلل لأشهر كلما خرج مصمم من أي دار أزياء ودخلها آخر، ونحن غير مصدقين، فقدت عنصري المفاجأة والإثارة على حد سواء، ولم تعد تثير فينا ساكنا. فقد أصبحت عادية في زمن أصبحت فيه المجموعات المالكة للبيوت الكبيرة تقيس نجاحها بالأرقام، ولا تمنح مصممها وقتا طويلا لتحقيق الهدف. نعم، قد تكون استقالة راف سيمونز من دار «ديور» وإقالة ألبير إلباز من «لانفان» في العام الماضي آخر المفاجآت، ومع ذلك، لا يمكن القول أن وقع هذين الخبرين كان زلزالا غيّر ثقافة الموضة، أو نظرتنا إليها. خبر خروج هادي سليمان من «إيف سان لوران» في المقابل، واختيار البلجيكي أنطوني فاكاريللو خليفة له، لم يكن مفاجأة على الإطلاق، وقوبل بهدوء أقرب إلى الفتور، بعد أن لاكته الألسنة منذ أشهر عدة، وأصبحنا نعرف طريقة تفكير المجموعات المالكة لبيوت الأزياء. فالواضح حاليا، أن مالكي هذه البيوت لم يعودوا يريدون مصممين «نجوما» يطمحون لتنفيذ أفكار فنية أو جديدة بالمطلق، بقدر ما يريدون مصممين «موظفين» يضمنون لهم الربح، وفي الوقت ذاته، يتقيدون برموز الدار وموروثاتها. من هذا المنطلق، كانت إقالة ألبير إلباز بعد 15 عاما في «لانفان» مفهومة. فعلى الرغم من أن فضلا كبيرا في إنعاش «لانفان» وإخراجها إلى الضوء يعود إليه، إلا أن مبيعات الدار شهدت تراجعا في مبيعاتها في السنوات الأخيرة، ما زاد من الضغوط عليه، واحتداد الأمر بينه وبين المالكين للدار، إلى أن فاض الكأس، وكان ما كان. ما يثير الحيرة في خروج هادي سليمان، أن هذا المنطق لا يسري عليه، فمجموعة «كيرينغ» المالكة لـ«إيف سان لوران» تعترف بأنه أخرجها من دائرة الخسارة إلى الربح منذ أن التحق بها منذ 4 سنوات، حيث سجلت في العام الماضي إيرادات تقدر بـ974 يورو (1.08 مليار دولار)، أكثر مما حققته في عام 2014، بـ707 ملايين يورو، ومن المتوقع أن تزيد النسبة هذا العام، مما يجعل هادي سليمان، مصمما بلمسة ميداسية.
لهذا؛ فإن خروجه من «إيف سان لوران» ووصف فرانسوا هنري بينو، الرئيس التنفيذي لمجموعة «كيرينغ» للأمر، بكل بساطة، بأنه «مجرد نهاية فصل من تاريخ الدار»، يثير أسئلة مثل: ماذا يجري في عالم الموضة حاليا؟ وهل المصممون المبدعون أصبحوا مجرد بيادق في أيادي المجموعات الكبيرة التي تستغل حاجتهم إلى مستثمر يساعدهم على الانتشار والتوسع في زمن العولمة، وتستغني عنها بمجرد أن تتضخم «الأنا» عندهم؟. إذا كان الأمر كذلك، فإن خطوة راف سيمونز، واختياره عدم تجديد عقده مع «ديور» لكي ينأى بنفسه عن هذا الجو، يستدعي الاحترام. فقد أشار إلى أنه يطمح لإبداع موضة «على نار هادئة»، أي موضة يتخيلها ثم يرسمها ويختبرها، قبل أن ينفذها ويطرحها في الأسواق، وهو ما لا تتيحه ضغوط العمل في دار أزياء كبيرة. في حال كتب له النجاح، فإن مصممين آخرين قد يحذون حذوه، لكن الوقت لا يزال مبكرا على هذا.
اللافت، أن خروج هادي سليمان من «إيف سان لوران» لم يثر كثيرا من الجدل والتحليل، ليس فقط لأننا تعودنا على لعبة الكراسي وتحركاتها المستمرة، أو لأن خروجه كان متوقعا تهامست به أوساط الموضة منذ فترة، بل لأن الإعلان عنه تزامن مع وفاة المعمارية العراقية العالمية، زها حديد، التي يمكن القول «إنها أعظم مصممة في عصرنا». فقد تختلف الوسائل واللغات والمواد المستعملة، لكن الإبداع يبقى واحدا، وبالتالي يمكن لمصممين شباب أن يتعلموا من تجربتها ومسيرتها. فهي مبدعة لن يجود الزمان بمثلها، وستظل المعالم التي صممتها شاهدة على عبقريتها لأجيال طويلة. الدرس الذي يمكنهم أن يتعلموه منها أنها لم تتنازل أو تخضع لإملاءات الغير، ولم تقبل ما هو متعارف عليه وجاري به العمل للوصول إلى مبتغاها. كانت تعرف أن الطريق لن يكون سهلا، وبأن البعض سيفسر تشبثها بأسلوبها عنادا، ومع ذلك فضلت أن تبقى مجرد معمارية على الورق، كما كان ينعتها بعض المتحاملين عليها، بحجة أنها معقدة وغير قابلة للتنفيذ، على أن تسبح مع التيار وتكون معمارية عادية. ما يُحسب لها، أنها لم تجلس مكتوفة الأيادي ومحبطة تنتظر من يدق بابها، بل استغلت هذه السنوات العجاف في تعلم المزيد عن التكنولوجيا، والقيام باختبارات جديدة كانت سلاحها فيما بعد. والنتيجة يعرفها الجميع، فقد أقنعت العالم بأسلوبها السابق لأوانه. أسلوب تتعرف إليه العين من بعيد، جمعت فيه الفن المعاصر بسلاسة الانحناءات وقوة الخط العربي، وزاوجت فيه الخارج بالداخل ليصبحا امتدادا لبعضهما بعضا، وفي كل مرة تستشعر تلك اللمسة المستقبلية القوية التي تريد أن تحضنك. من بعيد، تبدو مبانيها أحيانا وكأنها ترقص وتتلوى مثل درويش، أو تذكر بتلك الصورة الأيقونية لمارلين مونرو بفستانها الأبيض ذي البليسيهات المتعددة وهو يتطاير مع الهواء. فالانسيابية التي ضختها في فن العمارة منحتها شاعرية كانت غائبة عنها سابقا.
كانت زها حديد تقول: «إن الهندسة المعمارية لا تُدرس بالمفهوم التقليدي». لكنها، وحتى بعد مماتها، يمكنها أن تعلم المصممين الشباب أن الإبداع لا يقبل التنازلات ويستحق المحاربة من أجله، وربما هذا هو الفرق بين المصمم النجم والمصمم الموظف مهما ارتقى مركزه واشتهر. من جهة أخرى، لا يمكن أن نظلم بعض المصممين ممن ليست لهم الإمكانيات الكافية للاستقلال بأنفسهم، وبالتالي لا يملكون ترف رفض عروض مغرية من المجموعات الكبيرة، تعدهم بالتوسع وتوفير كل ما يحتاجونه من لوجيستيات؛ لكي يتفرغوا للتصميم فقط. هؤلاء مضطرون للقبول، رغم أنهم يعرفون أن الثمن غال يتمثل في تقديم تنازلات، والعمل ليل نهار لتصميم ما لا يقل عن 6 تشكيلات في السنة أحيانا. وهذا ما اشتكى منه كل من ألبير إلباز وراف سيمونز. هذا الأخير صرح علنا في أحد لقاءاته بأن عدم توافر الوقت لاختبار الأفكار ومناقشتها قبل تنفيذها يؤثر في الابتكار سلبا. أمثال راف سيمونز يعيشون في زمن غريب عليهم، زمن تغيرت فيه ثقافة الموضة مقارنة بما كانت عليه في عهد إلسا سكاباريللي، كريستيان ديور، إيف سان لوران، وغيرهم ممن كانوا يملكون بيوتهم ولهم كامل الحرية في إطلاق العنان لخيالهم، ويتبارون على الإبداع، متجاهلين الجانب التجاري، ومعتبرين أنفسهم فنانين؛ لهذا أتحفونا بتشكيلات فنية نذكر منها تشكيلة الراحل إيف سان لوران المستلهمة من الفنان بيت موندريان في عام 1965، وغيرها. في زمننا لا بد أن نذكر أعمال جون غاليانو خلال عهده في «ديور» التي كانت تلعب على السريالية، ورغم ما يقال أن خط الـ«هوت كوتير» في عهده لم يكن يحقق أي أرباح تُذكر مقارنة براف سيمونز الذي خلفه، إلا أنه ترك بصمات درامية لا يمكن أن تُنسى بسهولة. هل يمكن أن نقول الشيء نفسه عن هادي سليمان رغم الأرباح التي حققها لـ«إيف سان لوران»؟. من الصعب الإجابة عن هذا السؤال في الوقت الحالي، وربما تتضح الصورة أكثر حين يُعلن عن وجهته التالية.
فقد حقق ثروة لا بأس بها، ويمكنه أن يؤسس داره الخاصة ليبدع فيها كيفما شاء، إلا أننا لا نستبعد إغراء العمل مع دار معروفة، مثل «شانيل» إذا صحت الشائعات المتداولة في أوساط الموضة، رغم تصريحه في أحد لقاءاته النادرة بأن ما يحفزه أكثر «هو عنصر الاكتشاف.. وأن تكون فضوليا ومتفتحا على أي شيء جديد». الجديد بالنسبة له قد يكون أي شيء من ممارسة هواية التصوير الفوتوغرافي إلى تصميم الأزياء، وإلى ذلك الحين، فإننا سنتذكره عاشقا للموسيقى والديكورات، وطبعا، مصمما يفهم قوة الصورة وتأثيرها.



غادر هادي سليمان «سيلين» وهي تعبق بالدفء والجمال

توسعت الدار مؤخراً في كل ما يتعلق بالأناقة واللياقة لخلق أسلوب حياة متكامل (سيلين)
توسعت الدار مؤخراً في كل ما يتعلق بالأناقة واللياقة لخلق أسلوب حياة متكامل (سيلين)
TT

غادر هادي سليمان «سيلين» وهي تعبق بالدفء والجمال

توسعت الدار مؤخراً في كل ما يتعلق بالأناقة واللياقة لخلق أسلوب حياة متكامل (سيلين)
توسعت الدار مؤخراً في كل ما يتعلق بالأناقة واللياقة لخلق أسلوب حياة متكامل (سيلين)

بعد عدة أشهر من المفاوضات الشائكة، انتهى الأمر بفض الشراكة بين المصمم هادي سليمان ودار «سيلين». طوال هذه الأشهر انتشرت الكثير من التكهنات والشائعات حول مصيره ومستقبله. ولحد الآن لا يُحدد المصمم هذا المستقبل. لكن المؤكد أنه ضاعف مبيعات «سيلين» خلال الست سنوات التي قضاها فيها مديراً إبداعياً. غادرها وهي قوية ومخلفاً إرثاً لا يستهان به، يتمثل في تأسيسه قسماً جديداً للعطور ومستحضرات التجميل. فهو لم يكن يعتبر نفسه مسؤولاً عن ابتكار الأزياء والإكسسوارات فحسب، بل مسؤولاً على تجميل صورتها من كل الزوايا، ومن ثم تحسين أدائها.

العطور ومستحضرات التجميل جزء من الحياة ولا يمكن تجاهلهما وفق هادي سليمان (سيلين)

نجح وفق تقديرات المحللين في رفع إيراداتها من 850 مليون دولار حين تسلمها في عام 2018، إلى ما يقرب من 3.27 مليار دولار عندما غادرها. الفضل يعود إلى أسلوبه الرشيق المتراقص على نغمات الروك أند رول من جهة، وإدخاله تغييرات مهمة على «لوغو» الدار وإكسسواراتها من جهة أخرى. هذا عدا عن اقتحامه مجالات أخرى باتت جزءاً لا يتجزأ من الحياة المترفة تعكس روح «سيلين» الباريسية، مثل التجميل واللياقة البدنية.

اجتهد في رسم جمال الدار في عام 2023 وكأنه كان يعرف أن الوقت من ذهب (سيلين)

بعد عام تقريباً من تسلمه مقاليد «سيلين» بدأ يفكر في التوسع لعالم الجمال. طرح فعلاً مجموعة من العطور المتخصصة استوحاها من تجاربه الخاصة والأماكن التي عاش أو عمل فيها. استعمل فيها مكونات مترفة، ما ساهم في نجاحها. هذا النجاح شجعه على تقديم المزيد من المنتجات الأخرى، منها ما يتعلق برياضة الـ«بيلاتيس» زينها بـ«لوغو» الدار.

يعمل هادي سليمان على إرساء أسلوب حياة يحمل بصماته ونظرته للجمال (سيلين)

مستحضرات التجميل كان لها جُزء كبير في خطته. كان لا بد بالنسبة له أن ترافق عطوره منتجات للعناية بالبشرة والجسم تُعزز رائحتها وتأثيرها. هنا أيضاً حرص أن تشمل كل جزئية في هذا المجال، من صابون معطر يحمل رائحة الدار وكريمات ترطيب وتغذية إلى بخاخ عطري للشعر وهلم جرا.

في عام 2019 طرح مجموعة عطور متخصصة أتبعها بمنتجات للعناية بالبشرة والجسم (سيلين)

كانت هذه المنتجات البداية فقط بالنسبة له، لأنه سرعان ما أتبعها بمستحضرات ماكياج وكأنه كان يعرف أن وقته في الدار قصير. كان أول الغيث منها أحمر شفاه، قدمته الدار خلال أسبوع باريس الأخير. من بين ميزاته أنه أحمر شفاه يرطب ويلون لساعات من دون أن يتزحزح من مكانه. فهو هنا يراعي ظروف امرأة لها نشاطات متعددة وليس لديها الوقت الكافي لتجدده في كل ساعة.

بدأ بأحمر شفاه واحد حتى يجس نبض الشعر ويُتقن باقي الألوان لتليق باسم «سيلين» (سيلين)

حتى يأتي بالجودة المطلوبة، لم تتسرع الدار في طرح كل الألوان مرة واحدة. اكتفت بواحد هو Rouge Triomphe «روج تريومف» على أن تُتبعه بـ15 درجات ألوان أخرى تناسب كل البشرات بحلول 2025 إضافة إلى ماسكارا وأقلام كحل وبودرة وظلال خدود وغيرها. السؤال الآن هو هل ستبقى الصورة التي رسمها هادي سليمان لامرأة «سيلين» وأرسى بها أسلوب حياة متكامل يحمل نظرته للجمال، ستبقى راسخة أم أن خليفته، مايكل رايدر، سيعمل على تغييرها لكي يضع بصمته الخاصة. في كل الأحوال فإن الأسس موجودة ولن يصعب عليه ذلك.