بطولات حقيقية وأخرى وهمية في مسار سينما وطنية

مع الحرب وضد الحرب وبين بين

جون واين في «القبعات الخضر»
جون واين في «القبعات الخضر»
TT

بطولات حقيقية وأخرى وهمية في مسار سينما وطنية

جون واين في «القبعات الخضر»
جون واين في «القبعات الخضر»

تقترب ست دبابات من الموقع. يرصدها الملازم أول فيأمر جنوده بالتراجع وإخلاء المكان، حفاظًا على أرواحهم، فقوّة جنوده النارية لن تستطع مقاومة نيران تلك الدبابات. لكنه وفي غمرة تأمين انسحاب رجاله، وجد، وهو على خط الدفاع الأول، أن إحدى الدبابات أصبحت على مقربة أمتار منه. سارع إلى تسلقها وأخذ يطلق النار على طاقمها. حين التفت وجد أن ثلاث دبابات سارعت صوبه. أخذ طواقمها يطلقون النار عليه. أصيب. لكنه استخدم المدفع الرشاش الذي يعتمر الدبابة التي تغلب عليها وأخذ يطلق النار على الدبابات المتقدّمة. هذه توقفت عن التقدم ثم أخذت تتراجع بعدما أصابت طلقاته بعض أفرادها. لوحده أنقذ الموقع من السقوط ولو إلى حين وبناء عليه تم منحه أعلى وسام عسكري أميركي.
ما سبق ليست مشاهد من فيلم حربي، بل تلخيصًا للواقعة الفعلية التي خاض غمارها شاب أميركي كان التحق بالجندية وتم نقله أولاً إلى المغرب ثم إلى تونس وبعد ذلك على خط التماس خلال الحرب العالمية الثانية، حيث وقعت المعركة المذكورة في الثلاثين من يناير (كانون الثاني) سنة 1946.
حين عاد إلى الولايات المتحدة وفي أعقاب نيله ذلك الوسام الرفيع أجرت معه مجلة «لايف» (التي كانت تصدر أسبوعيًا آنذاك) مقابلة طويلة ووضعت صورته على الغلاف. بات حديث الأمّة، ووسامته جعلته نجمًا بين المراهقين والمراهقات. هوليوود لم تكن بعيدة عنه فاقتنصته كما كان يقتنص هو الدبابات.
هذا الجندي هو إيدي مورفي، الذي ذكر ما سبق وسواه في كتابه «إلى الجحيم والعودة» الذي كان كذلك عنوان أحد الأفلام الحربية التي قام ببطولتها (1955). ومع أنه لعب عشرات أفلام الوسترن في الخمسينات وحدها، إلا أن ذلك الفيلم الحربي احتل عنده وعند آخرين مكانة خاصة كونه أقرب إلى السيرة الذاتية.

إنها الحرب
في عمومها هي الحكاية ذاتها التي تصدّى لنقلها إلى السينما الممثل برادلي كوبر فاشترى الحقوق وبحث عن المخرج، وبعد أن تمنّْع ديفيد أو راسل وستيفن سبيلبرغ وافق كلينت إيستوود على القيام بالمهمة وحققها تحت عنوان «أميركان سنايبر» («قناص أميركي»، 2014).
هي الحكاية نفسها من حيث إن كوبر لعب أيضًا شخصية بطل عسكري حقيقي اسمه كريس كايل منح وساما أو أكثر لبطولته في أرض الحرب. عُرف بقتله 160 عراقيًا خلال الغزو الأميركي للعراق: الرقم الأعلى الذي سجله أي محارب فرد في أي حرب خاضتها الولايات المتحدة.
على ذلك، الفروقات كثيرة، ومن أهمها أن أميركا استقبلت البطل مورفي على غير ما استقبلت البطل كايل. في الأساس كريس كايل لم ينتقل من رحى الحرب إلى الاستوديوهات بنفسه، بل قام ممثل بتشخيصه، لذا فإن النجومية ذات مصدرين مختلفين: بطل قومي حط الرحال في هوليوود أواخر الأربعينات بعد أن أدّى دوره الوطني وبطل عسكري يؤديه ممثل لم يشترك في أي مهمّة قتالية في حياته.
الاختلاف البيّن الأكبر هو أن مورفي نشأ عندما كانت أميركا موحّدة والحرب كانت مهمّة وطنية لا غبار عليها. هذا على عكس ما أخذت تتلقفه الحروب الأميركية من ردات فعل مناوئة منذ أواخر الستينات، أي خلال الحرب الفيتنامية وإلى اليوم. معسكر واحد وقف وراء الحرب ضد النازية ومعسكرات متعددة بعضها مع الحرب وبعضها ضد الحرب فيما تلا من حروب، وخصوصًا الحرب العراقية.
لكنها الحرب كيفما نظرت إليها. قد تقع في أي مكان وفي أي زمن. تبدأ وتنتهي لدوافع مختلفة. دور السينما كان دائمًا منقسمًا حيالها ما بين التأييد والمعارضة وفي أحيان، هي لا مع ولا ضد، بل مجرد إظهار لواقع لا يود المخرج أن يحدد موقفه منه.
أحد تلك الأفلام الكبيرة التي اندمجت في شرخ بين التأييد والحياد كان «تورا.. تورا.. تورا» أحد الأفلام التي أرادت أن تروي كيف واجه الأميركيون الضربة الكبرى التي حلت على قاعدة بيرل هاربور العسكرية. الفيلم، الذي قام ريتشارد فلايشر بإخراجه مع مخرجَين يابانيَين لضمان نقل وجهة نظر الطرف الآخر، يمهد بكيف راوغ اليابانيون القيادة السياسية الأميركية بينما كانوا خططوا لتدمير القاعدة الكبيرة.
مشاهد الغارة على بيرل هاربور كلها تنضح بنجاح التفاصيل الكثيرة المتروكة بيد صانعي الفيلم لإدارتها من بدء الغارة إلى القصف وانفجار البوارج وحاملات الطائرات إلى محاولة التصدي المستميتة للدفاع عنها. أحد أكثر المشاهد تأثيرا هو ذلك المشهد الذي نرى فيه رجلاً من مشاة البحرية يتصدى للطائرات بمدفعه وهو مصاب. في الفيلم لا ذكر للممثل الذي يؤديه، لكن في الواقع هو شخص حقيقي اسمه جون ويليام فِن لم يشأ ترك موقعه والمدفع من يده إلا بعد أن أسقط واحدة من الطائرات اليابانية. لكن وإن لم يذكر الفيلم من قام بتمثيله، كما لم يذكر اسمه في عداد المعلومات أيضًا، إلا أن المشهد كان ما استحوذ على إعجاب المشاهدين من بين تلك المشاهد الصغيرة في الفيلم الكبير.

الحرب
حتى ذلك الحين كان الأميركيون جميعًا مع أي قرار تتخذه القيادة السياسية والعسكرية لدخول أي حرب يقرر البيت الأبيض دخولها، فما البال بمعركة تعرضت فيها أميركا لهجوم؟ «تورا.. تورا.. تورا» جاء، سنة 1970، ليتحدث عن الحرب الأميركية اليابانية في الأربعينات، لكن حضوره آنذاك لم يكن في فترة سلام. بل حط في صالات السينما بينما كانت الحرب الفيتنامية دائرة منذ سنوات (ولم تنتهِ إلا بعد سنوات أخرى) مما جعل الفيلم ينأى بنفسه عن أن يكون أكثر من وسيط ناجح بين المشاهد وبين ما وقع (أو جانبًا مما وقع في أضعف الاحتمالات).
قبله كانت الأفلام التي تقع حول أتون الحرب الفيتنامية قد بدأت تتوالى. وهذه بدأت تنقسم إلى معسكرات بعضها مع الحرب وبعضها الآخر ضدها.
الرأي العام الأميركي كان منقسمًا بشدة ما بين تأييد أميركا التي تدافع عن العالم الحر ضد سيطرة النظام الشيوعي على فيتنام الجنوبية وبين من أخذ يحصي عدد الجنود الأميركيين العائدين إما مشوّهين أو قتلى، مرددًا أن فيتنام بعيدة وما يدور فيها لا يهمنا كأميركيين. لذلك في حين عبّر «قبعة خضراء» لجون واين (1968) عن موقف مؤيد لتلك الحرب بلا استثناءات، انتقدتها، على نحو مباشر أو غير مباشر، أفلام كثيرة أخرى أولها فيلم خرج في نفس السنة بعنوان «صفحة ممزقة لمجد» لبوبي ديفيز.
في السبعينات تنوّعت الأفلام ما بين معارضة وأخرى تقع في صميم المعارك من دون تحبيذ لأي من جانبي الحرب. من الأفلام المناهضة «العودة إلى الوطن» لهال أشبي (1978) و«سفر الرؤيا» لفرنسيس فورد كوبولا (1979) ومن تلك التي صوّرت عنف القتال من دون تحبيذ لها أو عليها «اذهب واخبر الأسبرطة» لتد بوست (1978) و«همبرغر هِل» لجون إرفين.
لكن معارضة الحرب لم تتوقف على أفلام الحرب ذاتها، ذلك لأن السينما طرحت تأثير هذه الحرب على الناشئة في «الخاسرون» لجاك ستاريت مثلاً) أو رمزت إليها في أفلام مختلفة كما في فيلم الوسترن «جندي أزرق» لرالف نلسون (1970) حيث يقوم الجنود الأميركيون بإبادة الهنود الحمر في تذكير بأن الحرب هي ذاتها وإن اختلفت الضحايا.
مع بدء الحرب العراقية التفتت السينما الأميركية إلى وجهة بعيدة عنها. لم تشأ تحقيق أعمال سريعة بصرف النظر عن رسالات تلك الأفلام. لكن هذا الحذر كان لا بد أن يتداعى وشهدت السينما منذ مطلع القرن الحالي زيادة في عدد الأفلام التي تتناولها بما فيها «قناص أميركي» الذي اعتبره البعض مناوئًا للعنف والحرب واعتبره البعض الآخر مؤيدًا لها. بالإضافة إليه شاهدنا أفلامًا أكثر وضوحًا في معاداتها مثل «ستوب - لوس» لكمبرلي بيرس (سنة 2008) و«منقح» لبرايان دي بالما (2007). في أفلام أخرى شهدنا التزاما بالحديث عن تضحية الجندي الأميركي خلال الحرب وبعد عودته منها كشأن منفصل، «خزنة الألم»، لكاثرين بيغيلو، 2008 أو «المرسال» لأورين موفرمان، 2009.
كل حرب خاضتها الولايات المتحدة تم صنع كثير من الأفلام عنها، وعبر ملاحظة هذه الأفلام حربًا وراء حرب يمكن استطلاع ما هو أكثر من رأي كل فيلم على حدة، ذلك لأن كل فيلم إنما يتوجه لجمهور مختلف، بعضه مع الحرب والآخر ضده وفريق ثالث لم يتخذ قراره بعد.



أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
TT

أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)

بعد أكثر من سنة على عرضه في مهرجاني «ڤينيسيا» و«تورونتو»، وصل فيلم المخرجة البولندية أغنييشكا هولاند «حدود خضراء» إلى عروض خاصّة في متحف (MoMA) في نيويورك. «لا يهم»، تقول: «على الأفلام التي تعني لنا شيئاً أن تشقّ طريقاً للعروض ولو على مدى سنة أو أكثر».

فيلمها الأخير «حدود خضراء» نال 24 جائزة صغيرة وكبيرة واجتاز حدود نحو 30 دولة حول العالم. ترك تأثيراً قوياً منذ افتتاحه في المهرجان الإيطالي، حيث نال جائزةَ لجنة التحكيم الخاصة وفوقها 8 جوائز فرعية.

مردّ ذلك التأثير يعود إلى أن الفيلم (بالأبيض والأسود) تحدّث عن مهاجرين سوريين (ومهاجرة من أفغانستان) علِقوا على الحدود بين بروسيا وبولندا، وكلّ حرس حدود كان يسلبهم شيئاً ومن ثمّ يعيدهم إلى حيث أتوا. الحالة لفتت نظر جمعية بولندية أرادت مساعدة هؤلاء الذين تناقص عددهم بعدما اختفى بعضهم وسُجن آخرون. الدراما كما قدّمتها هولاند (75 سنة حالياً) نابعة من مواقف ونماذج حقيقية وأحداثٍ وقعت عالجتها المخرجة بأسلوب تقريري غير محايد.

نقطة حياة: «حدود خضراء» (مترو فيلمز)

لحظات إنسانية

> حال مشاهدتي لفيلم «حدود خضراء» في «مهرجان ڤينيسيا» خطر لي أنه يلتقي مع أفلام سابقة لكِ تناولت قضايا مهمّة وحادّة مثل «يوروبا، يوروبا» و«الحديقة السّرية» و«أثر» (Spoor) الذي عُرض في «برلين». كيف تُصنّفين أفلامك؟ وكيف تختارين قضاياها؟

- أفلامي السابقة تنوّعت كثيراً في موضوعاتها باستثناء أنني قصدت دوماً تناول ما اعتقدت أنه أجدى للمعالجة. والأفلام التي ذكرتها هي بالنسبة لي من بين أهم ما أخرجته. اخترتها لجانبها الإنساني أو، أُصحّح، لقضاياها الإنسانية. اخترتها لأن الأحداث وقعت في لحظات تاريخية ليست فقط مهمّة، بل هي لحظاتٌ بدت فيها الإنسانية بمنحدرٍ. هناك كثيرٌ ممّا يحدث في هذا العالم، وما حدث سابقاً يشكّل صدمة لي ولملايين الناس والفيلم هو صلتي مع هذه الأحداث. رأيي فيها.

«حدود خضراء» الفرار صوب المجهول (مترو فيلمز)

> «حدودٌ خضراء» هو واحد من أفلام أوروبية تناولت موضوع المهاجرين، لكن القليل منها انتقد السّلطات على النحو الذي ورد في فيلمك.

- أنا لست في وارد تجميل الأحداث. ولا أريد الكذب على المشاهد وأقول له إن ما تعرّض له مهاجرون مساكين على الحدود التي لجأوا إليها بحثاً عن الأمان غير صحيح، أو أنه حدث في شكل محصور. ومهنتي هذه استخدمها لقول الحقيقة، ولأفيد المشاهد بما أصوّره ولا يمكنني الكذّب عليه أو خداعه. ما شاهدته أنتَ على الشّاشة حصل وربما لا يزال يحصل في دول أوروبية أخرى.

نحو المجهول

> كيف كان رد فعل الجمهور البولندي حيال فيلمك؟

- إنها تجربة مهمّة جداً بالنسبة لي. سابقاً كان هناك حذرٌ من قبول ما أقدّمه لهم من حكايات. كثيرون قالوا إن هذا لا يمكن أن يحدث. نحن في أوروبا والعالم تغيّر عمّا كان عليه. والآن، مع هذا الفيلم، وجدتُ أن غالبية النّقاد وقراء «السوشيال ميديا» يوافقون على أن هذا يحدث. هناك من يأسف وهناك من يستنكر.

> نقدُك لحرس الحدود البولندي والبروسي في هذا الفيلم يؤكّد أن المعاملة العنصرية لا تزال حاضرة وربما نشطة. اليمين في أوروبا يجد أن طرد اللاجئين الشرعيين أو غير الشرعيين بات أولوية. صحيح؟

- نعم صحيح، لكن الاكتفاء بالقول إنه موقف عنصريّ ليس دقيقاً. نعم العنصرية موجودة ولطالما كانت، وعانت منها شعوب كثيرة في كل مكان، ولكن العنصرية هنا هي نتاج رفض بعضهم لقاء غريبٍ على أرض واحدة، هذا رفض للإنسانية التي تجمعنا. للأسف معظمنا لا يستطيع أن يمدّ يده إلى الآخر في معاملة متساوية. الحروب تقع وتزيد من انفصال البشر عن بعضهم بعضاً. ثم لديك هذا العالم الذي يسير بخطوات سريعة نحو المجهول في كل مجالاته.

> هل تقصدين بذلك التقدم العلمي؟

- بالتأكيد، لكني لست واثقة من أنه تقدّمَ حقاً. الذكاء الاصطناعي؟ هذا وحده قد يذهب بما بقي من ضوابط أخلاقية ومجتمعية. أعتقد أن التأثير الأول لذلك أننا نعيش في زمن نعجِز عن فهم تغيّراته، والنتيجة أننا بتنا نهرب إلى حيث نعتقده ملجأً آمناً لنا. نهرب من التّحديات ونصبح أكثر تقوقعاً معتقدين أن ذلك خير وسيلة للدفاع عن مجتمعاتنا.

ضحايا

> عمَدتِ في «حدود خضراء» إلى تقسيم الفيلم إلى فصول. هذا ليس جديداً لكنه يطرح هنا وضعاً مختلفاً لأننا ننتقل من وضع ماثلٍ ومن ثَمّ نعود إليه لنجده ما زال على حاله. ما الذي حاولتِ تحقيقه من خلال ذلك؟

- هذه ملاحظة مهمّة. في الواقع هناك قصصٌ عدة في هذا الفيلم، وكل شخصية تقريباً هي قصّة قابلة للتطوّر أو التوقف. وهناك 3 فرقاء هم الضحايا والمسعفون ورجال السُّلطة. بعضُ هذا الأسلوب المطروح في الفيلم مشتقٌ من العمل الذي مارسته للتلفزيون وهو يختلف عن أسلوب السّرد السينمائي، وقد اعتمدت عليه هنا لأنني وجدته مناسباً لفيلمٍ يريد تقديم الأحداث في شكلٍ ليس بعيداً عن التقريرية.

> هناك أيضاً حربٌ أوروبية دائرة على حدود بولندا في أوكرانيا. هل يختلف الوضع فيما لو كان أبطال فيلمك أوكرانيين هاربين؟

- نعم. يختلف لأنّ الرموز السياسية للوضع مختلفة. البولنديون يشعرون بالعاطفة حيال الأوكرانيين. السلطات لديها أوامر بحسن المعاملة. لكن هذا لم يكن متوفراً وليس متوفراً الآن للاجئين غير أوروبيين.