فلسطينيو المناطق «ج».. على خط النار

احتلال بالقوة وقوانين قضائية وأغراض عسكرية.. وزعران المستوطنين تسعى لتهجيرهم والسيطرة على أرضهم

فلسطينيو المناطق «ج».. على خط النار
TT

فلسطينيو المناطق «ج».. على خط النار

فلسطينيو المناطق «ج».. على خط النار

بين عامي 1947 و1949 قامت الجماعات اليهودية العسكرية بطرد أو تشريد، نحو 726 ألف فلسطيني مسلم ومسيحي، أي نحو 75 في المائة من السكّان العرب الأصليين، والتي أصبحت لاحقا إسرائيل. طالت الحرب الإسرائيلية آنذاك 400 قرية وبلدة فلسطينية. واليوم فإن الذين طردوا وذرياتهم أصبحوا يُقدّرون بأكثر من 7 ملايين نسمة ويمثلون أقدم وأكبر مجموعة لاجئين حيث يشكلون أكثر من ربع اللاجئين في العالم.
لم يعودوا بطبيعة الحال لقراهم وبلداتهم ولم تتوقف إسرائيل بكل الوسائل عن ملاحقة آخرين في قرى وبلدات أخرى ما زالت قائمة في الضفة الغربية. والحرب على الفلسطينيين في ثلثي مساحة الضفة الغربية أي المناطق «ج» تأخذ أشكالا مختلفة عسكرية وقانونية وعبر زعران وإرهاب المستوطنين. وهي تستهدف مثلما كانت قبل 70 عاما السيطرة على الأرض والتخلص من سكانها. إنها عقلية الإرهاب والتهجير التي جاءت بدولة إسرائيل وتؤسس لبقائها.
لا يأمن كثير من الفلسطينيين الذين يعيشون في مناطق «ج» في الضفة الغربية على مكان سكناهم الذي يمكن أن يتحول إلى غير قانوني أو أرض دولة أو مكان لتدريب الجيش الإسرائيلي في أي لحظة وبقوة القانون والمحاكم، ولا تأمن البقية الباقية على حياتهم بسبب هجمات المستوطنين المتكررة. وفيما يصر الفلسطينيون على البقاء والبناء في أرضهم يصر الإسرائيليون على الهدم والسيطرة. وهذه تختصر معركة المعارك في المناطق «ج».
أدوات السيطرة والتهجير
تختلف باختلاف المنطقة المستهدفة، ففي منطقة حدودية مثل الأغوار تستخدم إسرائيل كل الإمكانيات، جنودا واستيطانا ومياها وقوانين وقضاء للسيطرة على المنطقة، وفي أراض وقرى استراتيجية قريبة من المستوطنات تستخدم إسرائيل قوانين قديمة وأخرى حديثة ومسوغات عسكرية لطرد الناس، وفي قرى أقل قيمة، ترسل زعران المستوطنين لترهيب وتخويف الناس.
الأغوار.. أم المعارك
(المنطقة الأكثر انخفاضا عن سطح البحر) أو كما يحلو للبعض تسميتها قاع العالم، هي في الحقيقة مركز صراع مستمر منذ 50 عاما، وفجر أكثر من مفاوضات بين الطرفين آخرها المفاوضات التي حاول إحياءها وزير الخارجية الأميركي جون كيري.. ويتخذ الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي في منطقة الأغوار، شكلا مختلفا منذ عشرات السنين. إنه صراع يدور على كل متر مربع في المنطقة التي تشكل نحو 28 في المائة من مساحة الضفة الغربية المحتلة.
ويقول الفلسطينيون إنهم لن يتنازلوا عن متر واحد من منطقة الأغوار، لأنها على الأقل أرض فلسطينية، وهي بوابة الدولة العتيدة إلى العالم، ويقول الإسرائيليون إنهم لن يتراجعوا عن المنطقة التي تشكل عمقا أمنيا وبوابة الحراسة والطمأنينة الشرقية لمواطنيها. وتبلغ مساحة الأغوار، 2070 كيلومترا، بواقع 1.6 مليون دونم، وتمتد المنطقة على مسافة 120 كيلومترا، بعرض يتراوح بين ثلاثة كيلومترات و15 كيلومترا، من شمال البحر الميت جنوب فلسطين إلى بردلة عند مدخل بيسان شمالا. ويعيش فيها نحو 50 ألف فلسطيني مقابل 7000 مستوطن إسرائيلي يسيطرون على أغلبية الأراضي هناك.
وقال صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين، لـ«الشرق الأوسط» في أوقات سابقة «بعد قيام الدولة لن نقبل بوجود جندي إسرائيل واحد في الضفة وفي الأغوار، لا برا ولا بحرا ولا جوا ولا على المعابر». وكان عريقات يرد ضمنا على مقترحات مختلفة لبقاء القوات الإسرائيلية في المنطقة لـ10 سنوات مع تخفيض عددها، وزرع أجهزة دفاعية وأخرى للإنذار المبكر، وإدارة مشتركة على المعابر، وهو ما رفضه الفلسطينيون. والمفارقة العجيبة أن الإسرائيليين رفضوا نفس المقترحات.
وقال وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعالون: «الانسحاب من الضفة سيمس بحرية عمل الجيش الإسرائيلي، وسيؤدي إلى انهيار حكم الرئيس الفلسطيني محمود عباس». وأضاف: «إن من شأن تطبيق سيناريو الانسحاب من غزة، في الضفة، تثبيت أقدام حماس، والإطاحة بأبو مازن».
وهذه المعركة السياسية جزء من أخرى على الأرض.
فمنذ عشرات السنين نفذت إسرائيل خططا كثيرة في سبيل تهجير الفلسطينيين من الأغوار، وفي الأعوام الأخيرة تحولت الهجمة الإسرائيلية إلى مسعورة ومجنونة، راحت إسرائيل معها تجرب كل شيء ممكن من أجل التخلص من الفلسطينيين نهائيا.
أعلنت الأراضي هناك منطقة عسكرية مغلقة وأراضي دولة، وحولت الأراضي إلى مستوطنات ومصانع ومزارع ومواقع للتدريب الحي، منعت المزارعين والبدو والأهالي من استثمار أراض كثيرة للرعي أو الزراعة أو البناء، قطعت المياه عن تجمعات الفلسطينيين وأراضيهم، وسيطرت على كل الآبار الجوفية في المكان، هدمت بيوتا وأنذرت الأخرى، وعزلت المنطقة عن بقية الضفة الغربية، وأخذت تمنع دخولها لغير أهلها الذين يحملون هويتها.
ويقول فتحي خضيرات، منسق اللجان الشعبية لمناهضة الاستيطان في الأغوار ومسؤول حملة «أنقذوا الأغوار»، لـ«الشرق الأوسط»، إن الاهتمام الإسرائيلي في منطقة الأغوار يوازيه اهتمام فلسطيني للأسباب نفسها، موضحا: «إنها تشكل ثلث مساحة الضفة الغربية، وهي أحد أقطاب مثلث الماء الفلسطيني وتشكل نحو 47 في المائة من مصادر المياه الجوفية الفلسطينية، وهي المعبر الوحيد للفلسطينيين نحو العالم الخارجي، وهي عصب الاقتصاد الفلسطيني المستقبلي الذي يتمثل في الزراعة، وهي المكان الذي يمكن فيه توسيع القدس الشرقية، وهي المكان الذي يمكن فيه أيضا استيعاب اللاجئين حال عودتهم».
أما الرئيس الفلسطيني محمود عباس فيرى أهمية أخرى للمنطقة بالنسبة لإسرائيل، إذ قال غير مرة، إن إسرائيل تجني 620 مليون دولار سنويا من استثمارها للأغوار الفلسطينية، وإن ادعاءاتها بالسيطرة على الأغوار لدوافع أمنية كاذبة، مضيفا: «إنه استثمار استيطاني».
وتقيم إسرائيل في المنطقة أكبر مزارع نخيل في البلاد، ومشاتل ورود وخضراوات وفواكه، إضافة لمزارع ضخمة للدواجن والأبقار والديك الرومي، وخمس برك اصطناعية لتربية التماسيح من أجل استخدام جلودها في الأحذية والحقائب.
وعلى سبيل المثال، احتفل الإسرائيليون عام 2010 بزراعة النخلة رقم 1.000000 (مليون) في الأغوار. وحسب تقرير مجلس المستوطنات لعام 2012 فقد ربحت المستوطنات من الأغوار نحو 650 مليون دولار سنويا.
وقال عريقات في جولة حديثة مع سفراء وقناصل دول أوروبية: «تريد إسرائيل البقاء 40 سنة في الأغوار، لماذا لا تبقى هناك 400 سنة إضافية، مع كل هذه الأرباح».
وأنشأت إسرائيل 36 مستوطنة في المنطقة يعيش فيها نحو 7000 مستوطن يسيطرون على خيرات المنطقة، وأقدم المستوطنات هي «جفاعوت»، و«بينيت» منذ 1972 و«روتم» و«منجون» و«تيرونوت» و«روعي» و«شدمان» و«منجولا».
أما التجمعات العربية الفلسطينية فلا يزيد سكانها على 5130 نسمة وأهمها أبزيق والمالح وخربة الحمصة وكردلة وبردلة وخربة الرأس الأحمر وعين البيضا والحديدية والفارسية والحمة والعقبة وغيرها، في حين كان العدد يزيد على 300 ألف فلسطيني قبل الاحتلال.
وقال تقرير لمحافظة طوباس والأغوار الشمالية: «إن المستوطنات والمجلس الإقليمي الاستيطاني تحتل مساحة 1.344.335 دونم من أراضي الأغوار، كما تحتل أراضي الدولة 748.965 دونم، أما المناطق العسكرية المغلقة فتصل إلى 743.626 دونم وتقع 334.614 دونم ضمن ما يسمى محميات طبيعية، أما المناطق التي أغلقت بفعل الجدار العنصري فتصل إلى 2.505 دونم، ليصبح المجموع الصافي 1.372.695 دونم، ما يعادل 85.17 في المائة من مساحة الأغوار وشمال البحر الميت و24.5 في المائة من مساحة الضفة و97 في المائة من مساحة المنطقة «ج» ليبقى الباقي الممزق وغير المتواصل والمحروم من الخدمات والموارد في يد الفلسطينيين في تجمعات معزولة تنازع على البقاء والصمود في وجه الجرافات الإسرائيلي.
وحتى هذه المناطق لا تسلم من الهجمات المتكررة التي ترميهم خارجا بعد هدم منازلهم ومن ثم يعودون لبنائها وهكذا دواليك. هدم وبناء وتشريد وعودة وبناء وهدم
«القانون» في قرى وبلدات أخرى
تختلف الوسائل التي تحاول من خلالها إسرائيل تهجير الفلسطينيين في القرى والبلدات في مناطق «ج» وبخلاف الأغوار التي لا تنفي أن وجودها فيها هو احتلال، تستخدم إسرائيل «القانون» لطرد الفلسطينيين من باقي المناطق «ج»
ومن بين القرى المعرضة للهدم والتي تصر إسرائيل على إزالتها من على الوجود، قرية سوسيا من بين 8 قرى فلسطينية جنوب الخليل، تهدف لتحويلها إلى ساحة تدريب على الرماية وتسهيل تنقل الجنود منها وإليها. وبعد سنوات من معركة قضائية ردت المحكمة التماس السكان باعتبار أن وجودهم يعرقل عمل الجنود الإسرائيليين.
ويسكن في هذه القرى نحو 1300 فلسطيني.
وتقول إسرائيل إنه من المفترض أن يتم نقل سكان هذه القرى إلى بلدة يطا والبلدات المحيطة، بحيث يسمح لسكان القرى الفلسطينيين بفلاحة أراضيهم ورعاية مواشيهم في الفترات التي لا يجري فيها الجيش أي تدريبات في المنطقة.
والقرى قائمة قبل الاحتلال عام 1967. منذ سنوات الثلاثينات من القرن التاسع عشر، ورغم ذلك تصف «الإدارة المدنية» الإسرائيلية أهل هذه القرى بـ«غزاة لمنطقة إطلاق النار 918».
وطبعا فيما تريد إسرائيل هدم سوسيا العربية، لا تنتبه إلى مستوطنة قريبة أيضا اسمها سوسيا كذلك وتم بناؤها من دون ترخيص من الحكومة الإسرائيلية على أراضٍ فلسطينية مملوكة للقطاع الخاص.
زعران المستوطنين لتخويف البقية
وبحسب إحصاءات فلسطينية رسمية لدائرة شؤون المفاوضات فقد شن المستوطنون منذ 2004 أكثر من 11 ألف هجوم استهدف ممتلكات المدنين الفلسطينيين العزل في القرى والبلدات بما في ذلك المنازل والمساجد والكنائس والأراضي وسرقة الأشجار وتسميم المياه وارتكاب محارق.
وتشن عادة منظمات يهودية متطرفة مثل هذه الهجمات التي كان أفظعها على الإطلاق إحراق عائلة كاملة داخل منزلها في قرية دوما قبل نحو عام ومن ثم العودة إلى نفس القرية الشهر الماضي لإحراق الشاهد الوحيد عليهم.
ويوجد مئات آخرين غير إبراهيم جربوا نيران المستوطنين ورصاصهم وزجاجاتهم الحارقة تحرق بيوتهم والمساجد والكنائس والأراضي المثمرة.
وقال نعمان حمدان رئيس مجلس قروي الجبعة بالقرب من بيت لحم بأنه لا ينسى الليلة التي هاجم فيها مستوطنون مسجد القرية العام الماضي وأحرقوه مضيفا لـ«الشرق الأوسط» أنه وأبناء قريته لا يشعرون أبدا بالأمان جراء إمكانية تكرار الهجمات التي طالت لاحقا أراضي للمزارعين.
ويسعى نعمان مع أبناء قريته لحماية أنفسهم بأنفسهم جراء عدم قدرة السلطة على العمل في المناطق المصنفة «ج».
ونجح الفلسطينيون في حماية أنفسهم في قرى وفشلوا في أخرى.
وما زال النقاش حول كيفية ردع المستوطنين مشتعلا، ومن بين الأفكار كان هناك توظيف مدنيين أو إرسال جنود فلسطينيين بلباس مدني أو أن يتطوع أهالي القرية لحمايتها.
وقال حمدان بأن على الأب أن يحمي أبناءه في إشارة إلى السلطة.
ويسهر شبان في القرى النائية لحماية أهلهم من الهجمات.
وقال محمد الذي يفضل عدم نشر اسمه بسبب إمكانية استهدافه لاحقا من قبل الجيش، لـ«الشرق الأوسط» بأنه يتسلح بالعصي والكشافات مع رفاقه ويكتفي بتسليط الضوء على أي تحركات مشبوهة بعد منتصف الليل لردع المستوطنين عن المواصلة.
ويدرك الفلسطينيون أن مهاجميهم ينعمون بحماية الجيش الإسرائيلي.
وطالما وثقت منظمات إسرائيلية من بينها بيتسيلم هجمات مستوطنين ضد الفلسطينيين بحماية الجيش.
وفي الوقت الذي تعيش الكثير من القرى حياة تشبه الحرب على خط النار، اكتفت إسرائيل في قرى أخرى بسجن الجميع.
الجدران لسجن الناس
وبنت إسرائيل على سبيل المثال جدارا كامل الأوصاف حول قرية الولجة الفلسطينية القريبة من القدس.
وتمتد القرية الجبلية التي يعيش فيها نحو 2000 فلسطيني، على ما مساحته 4500 دونم من أصل 17793 دونمًا، احتلتها إسرائيل وحولتها إلى أراض دولة ومستوطنات ومحميات أمنية، وتحوي الولجة أكبر شجرة زيتون في فلسطين وعمرها 3000 عام، وينابيع طبيعية أشهرها نبع عين الحنية.
وتعتبر الولجة من أجمل قرى الجنوب، ومثلها تعيش قرى أخرى مثل برطعة وجيوس وبير نبالا وحتى مدينة قلقيلية في سجن كبير يحيط به جدار وله بوابة واحدة فقط محروسة بشكل جيد ويمكن إغلاقها في أي وقت.
ليس مناطق «ج» فقط
أصدر مركز الإحصاء الفلسطيني بيانا إحصائيًا بمناسبة يوم الأرض وبين أن إسرائيل تستغل أكثر من 85 في المائة من مساحة فلسطين التاريخية والبالغة نحو 27.000 كم2. ولم يتبق للفلسطينيين سوى نحو 15 في المائة فقط من مساحة الأراضي، وبلغت نسبة الفلسطينيين 48 في المائة من إجمالي السكان في فلسطين التاريخية.
القدس 2015: تهويد مكثف وممنهج في الوقت الذي تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلي بهدم المنازل الفلسطينية ووضع العراقيل والمعوقات لإصدار تراخيص البناء للفلسطينيين، تقوم بالمصادقة على تراخيص بناء آلاف الوحدات السكنية في المستعمرات الإسرائيلية المقامة على أراضي القدس، وقد صادقت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في العام 2015 على بناء أكثر من 12.600 وحدة سكنية في المستعمرات الإسرائيلية في القدس الشرقية بالإضافة إلى المصادقة على بناء أكثر من 2.500 غرفة فندقية.
كما صادقت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على تغيير أسماء الشوارع في البلدة القديمة وتسميتها بأسماء عبرية لفرض الطابع الاحتلالي عليها وذلك ضمن سياسة ممنهجة لتغيير الطابع الديموغرافي وطمس المعالم التاريخية والجغرافية لمدينة القدس، كما قامت سلطات الاحتلال بهدم نحو 152 مبنى فلسطينيا (مساكن ومنشآت) وتوزيع مئات أوامر بالهدم لمبانٍ أخرى، أضف إلى ذلك ما قامت به سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتجريف 546 دونما من أراضي الفلسطينيين في تجمعي العيسوية ومخيم شعفاط لإقامة حديقة قومية لليهود ومكب للنفايات.
المستعمرات الإسرائيلية: بلغ عدد المواقع الاستعمارية والقواعد العسكرية الإسرائيلية في نهاية العام 2014 في الضفة الغربية 413 موقعا، منها 150 مستعمرة و119 بؤرة استعمارية، إلى ذلك صادقت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في العام 2015 على بناء أكثر من 4.500 وحدة سكنية في محافظات الضفة الغربية عدا تلك التي تمت المصادقة عليها في القدس، في الوقت الذي لا تسمح فيه سلطات الاحتلال للفلسطينيين من البناء وتضع كافة العراقيل الأمر الذي يشدد الخناق والتضييق على التوسع العمراني للفلسطينيين خاصة في القدس والمناطق المسماة (ج) والتي تزيد مساحتها عن 60 في المائة من مساحة الضفة الغربية والتي ما زالت تقع تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، بالإضافة إلى جدار الضم والتوسع والذي عزل أكثر من 12 في المائة من مساحة الضفة الغربية.
أما فيما يتعلق بعدد المستعمرين في الضفة الغربية فقد بلغ 599.901 مستعمر نهاية العام 2014، وتشكل نسبة المستعمرين إلى الفلسطينيين في الضفة الغربية نحو 21 مستعمرًا مقابل كل 100 فلسطيني، في حين بلغت أعلاها في محافظة القدس نحو 69 مستعمرًا مقابل كل 100 فلسطيني.



السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
TT

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

لا يُعدّ دوي المدافع ولا انفجارات القذائف أو البراميل الناسفة القادمة، أو حتى الرصاصات العمياء، شيئاً جديداً في السودان، الجديد أنه انتقل من «الهوامش» إلى العاصمة الخرطوم، فاضطرت الحكومة وقيادة الجيش للانتقال إلى عاصمة بديلة تبعد نحو ألف كيلومتر على ساحل البحر الأحمر عند بورتسودان.

كان يُنظر للحروب السابقة على أنها تمرد ضد الدولة، لكن أسبابها تكمن في الصراع بين «المركز» الذي يحتكر كل شيء، و«الهامش» الذي لا يحصل على شيء، وأنها «حرب مطالب وحقوق».

لكن الحرب، خلال حكم الإسلاميين بقيادة الرئيس السابق عمر البشير البلاد، تحولت من حرب مطلبية إلى «حرب دينية» بين الشمال «المسلم»، والجنوب «المسيحي» أو «اللاديني»، وانتهت بـ«فصل جنوب السودان»، وإعلان ميلاد دولة جديدة انضمت للأمم المتحدة، فمن أين تأتي الحروب والعواصف لتدمر السودان؟

يرجع المحللون جذور الحروب السودانية إلى الافتقار لـ«مشروع وطني»، وإلى عدم الاعتراف بالتنوع الإثني والثقافي الناتج عن عدم وجود منظومة سياسية ثقافية اقتصادية موحدة تعترف بهذا التنوع.

ورغم أن الحرب الحالية هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع»، التي أدت للتمرد الأول قبيل إعلان الاستقلال 1955 بقيادة قوات «أنانيا 1»؛ وهي تسمية محلية لثعبان الكوبرا.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ملوحاً بعصاه إثناء إلقائه خطاباً في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور في سبتمبر 2017 (أ.ف.ب)

اتفاق «نيفاشا»

انطفأت الحرب الأولى باتفاق أديس أبابا 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في عام 1983، تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الزعيم الجنوب سوداني الراحل جونق قرنق دمبيور، على أثر إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري «أحكام الشريعة الإسلامية».

وانتقلت من كونها ضد متمردين إلى حرب «جهادية»، جيش الإسلاميين المقاتلين على أساس ديني، ورفعوا رايات الجهاد ضد مَن وُصفوا بـ«أعداء الدين»، فاستمرت الحرب سنوات، وراح ضحيتها أكثر من مليونيْ مواطن.

لم يحقق الجيش ومؤيدوه «المجاهدون» انتصاراً حاسماً، فاضطروا إلى الرضوخ للضغوط الدولية، ووقَّعوا اتفاق سلام في ضاحية نيفاشا الكينية؛ «اتفاق السلام الشامل أو اتفاق نيفاشا».

قضى «نيفاشا» بمنح جنوب السودان «حق تقرير المصير»، وخيّره بين البقاء في السودان الموحد أو الانفصال، وحدد فترة انتقالية قدرها خمس سنوات.

خلال الفترة الانتقالية، شغل زعيم الحركة الشعبية الراحل جونق قرنق دمبيور منصب النائب الأول للرئيس لأيام قلائل، قبل أن يلقى مصرعه في حادثة تفجر المروحية الرئاسية الأوغندية الغامض، ليخلفه نائبه رئيس جنوب السودان الحالي سلفاكير ميارديت.

استفتي شعب جنوب السودان 2010 على الوحدة أو الانفصال، وجاءت النتيجة لصالح الانفصال، فولدت من رحِم الحروب جمهورية جنوب السودان، وخسر السودان ثلث مساحته الجغرافية، وربع عدد سكانه، و75 في المائة من ثرواته وموارده.

انتقلت النيران إلى إقليم دارفور غرب البلاد، وتمردت مجموعات جديدة تحت مزاعم التهميش والاضطهاد باسم «حركة تحرير السودان» في عام 2003.

وأخذت طابعاً «عِرقياً»، بعدما استعانت الحكومة في حربها ضد الحركات المتمردة ذات الأصول الأفريقية، بمجموعات قبلية عُرفت وقتها بمجموعة «الجنجويد» ذات الأصول العربية، ومِن قادتها، للمفارقة، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذي أصبح قائد ما يُعرف بقوات «الدعم السريع».

راح ضحية حرب دارفور نحو 300 ألف، واتهمت الحكومة، برئاسة عمر البشير، بجرائم تطهير عِرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أصدرت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات قبض ضد الرئيس السابق عمر البشير، و3 من معاونيه الكبار وهم في الحكم، لا تزال سارية.

مقاتلون من «حركة تحرير السودان» في دارفور في مارس 2024 (أ.ف.ب)

تبضع بين العواصم

في مايو (أيار) 2006، وقّعت الحكومة الإسلامية اتفاق سلام في مدينة أبوجا مع «حركة تحرير السودان»، لكن الحركة انشقت إلى حركتين، يقود التي وقَّعت اتفاق أبوجا حاكم إقليم دارفور الحالي مني أركو مناوي.

رفض تيار عبد الواحد محمد النور الاتفاق، واعتصم بجبل مرة في وسط دارفور، وواصل الحرب ولا يزال، بينما حصل مناوي على منصب مساعد الرئيس عمر البشير، ثم عاد للتمرد زاعماً أنه كان مجرد «مساعد حلّة»، وليس مساعد رئيس، ومساعد الحلة هو معاون سائقي الشاحنات الذي يُعِدّ الطعام للسائق.

تنقلت المفاوضات مع الحركات الدارفورية المتشظية بين عدة عواصم، ففي يوليو (تموز) 2011 وقَّعت مع بعضها في قطر «وثيقة سلام الدوحة»، ونصت على تقاسم الثروة والسلطة، لكن الحرب لم تتوقف.

ثم وقَّعت حركات مسلَّحة مع الحكومة الانتقالية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 اتفاق سلام السودان في جوبا، أبرزها «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، ونصَّ الاتفاق على تقاسم السلطة والثروة، وبموجبها تولَّى جبريل إبراهيم وزارة المالية، ومني أركو مناوي منصب حاكم إقليم دارفور.

جنود سودانيون من «قوات الدعم السريع» في ولاية شرق النيل بالسودان، يونيو 2019 (أ.ب)

الجنوب الجديد

كأنما لا بد من جنوب ليحاربه الشمال، اشتعلت حرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وهما منطقتان منحهما اتفاق نيفاشا حق المشورة الشعبية، للبقاء في السودان أو الانضمام للجنوب، وعادت إلى الحرب «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال».

انشقت الحركة الشعبية الشمالية، التي تُعدّ امتداداً للجنوبية، وتضم مقاتلين سودانيين انحازوا للجنوب إبان الحرب الأهلية، إلى حركتين بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الحالي مالك عقار، الموقِّع على اتفاق سلام جوبا، بينما بقيت الأخرى، بقيادة عبد العزيز، تسيطر على منطقة كاودا بجنوب كردفان، وتَعُدّها «منطقة محرَّرة»، وتخوض معارك متفرقة ضد الجيش السوداني، ولا تزال.

لم يَسلم شرق السودان من متلازمة الحروب السودانية، فقد كان مرتعاً لحروب المعارضة المسلَّحة ضد حكم البشير في تسعينات القرن الماضي، ونشأت فيه مجموعات مسلَّحة مثل «مؤتمر البجا»، و«الأسود الحرة»، قاتلت هي الأخرى ضد المركز في الخرطوم، قبل أن تُوقِّع اتفاقاً في العاصمة الإريترية عُرف بـ«أسمرا لسلام شرق السودان»، ونال هو الآخر حصة في السلطة والثروة.

أطاح السودانيون بنظام حكم الإسلاميين، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، عبر احتجاجات شعبية استمرت أشهراً عدة، وأجبروا قيادة الجيش على تنحية البشير.

ومع ذلك، تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات، حتى قرر «المجلس العسكري الانتقالي»، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، فض الاعتصام باستخدام القوة، ما أسفر عن مقتل المئات من المعتصمين، ما عده كثيرون من «أفظع الجرائم» بحق المدنيين.

واستمر الضغط المدني السلمي، فاضطر العسكريون لتوقيع «وثيقة دستورية» نصّت على شراكة مدنية عسكرية، في أغسطس (آب) 2019، وجرى تشكيل حكومة برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتكوين مجلس سيادة انتقالي برئاسة البرهان، ونائبه حميدتي.

البرهان وحميدتي يحضران حفل تخريج عسكري للقوات الخاصة، في الخرطوم في 22 سبتمبر2021 (غيتي)

حرب الجنرالات

في 25 أكتوبر 2021، أطاح قائد الجيش بحكومة حمدوك المدنية، بانقلاب عسكري، واضطر تحت الضغط الشعبي السلمي مرة أخرى، لتوقيع ما عُرف بـ«الاتفاق الإطاري» مع المدنيين، ونص على «حكم مدني» يعود بموجبه الجيش إلى ثكناته، وإزالة أي فرصة لـ«تمكين نظام الإسلاميين».

لكن أنصار النظام السابق أحبطوا «الاتفاق الإطاري»، واستخدموا آليات «الدولة العميقة» في تأجيج الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع»، فاشتعلت الحرب.

لم تفلح جهود إزالة التوتر والتحشيد العسكري، وفي صبيحة السبت، منتصف أبريل 2023، فوجئ السودانيون بالرصاص «يلعلع» في جنوب الخرطوم عند «المدينة الرياضية»، معلناً الحرب المستمرة حتى اليوم.

يتهم «الدعم السريع» الجيش بمهاجمة معسكراته على حين غِرة، ويقول إن الجيش حاصر مطار مروي شمال البلاد، وإنه كان يخطط للانقضاض على السلطة، بينما «تسود رواية أخرى» بأن «خلايا الإسلاميين» داخل الجيش هاجمت «الدعم السريع»، ووضعت قيادته أمام الأمر الواقع؛ «الاستسلام أو الحرب».

حسابات خاطئة

كان مخططاً للحرب أن تنتهي في ساعات، أو على أسوأ تقدير أيام معدودات، بحساب التفوق التسليحي للجيش على «الدعم السريع»، لكن الأخير فاجأ الجيش وخاض حرب مدن كان قد تمرَّس عليها، ففرض سيطرته على معظم الوحدات العسكرية للجيش، وأحكم الحصار على البرهان في القيادة العامة، بل سيطر على المقرات الحكومية؛ بما فيها القصر الرئاسي والوزارات.

اضطرت الحكومة للانتقال إلى بورتسودان، واتخاذها عاصمة بديلة بعد سيطرة «الدعم السريع» على الخرطوم، بينما ظل قائد الجيش محاصَراً داخل قيادته لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يفلح في الخروج منها وينتقل إلى بورتسودان ليتخذها عاصمة له.

اتسعت سيطرة قوات «الدعم السريع» لتشمل إقليم دارفور، باستثناء مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، ومعظم ولايات الغرب باستثناء بعض حواضرها، ثم استسلمت له ولاية الجزيرة بوسط البلاد، وشملت عملياته ولايات أخرى، وسيطر تقريباً على نحو 70 في المائة من البلاد.

بعد نحو عامين من القتال، استعاد الجيش زمام المبادرة، وحقق تقدماً في بعض المناطق؛ الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وسنار، لكن «الدعم السريع» لا يزال مسيطراً على مساحات واسعة من البلاد، ويقاتل بشراسة في عدد من محاور القتال، وما زالت الحرب سجالاً.

جنوب الخرطوم مسرحاً دموياً للمعارك بين البرهان وحميدتي (أ.ف.ب)

أسوأ كارثة إنسانية

قتلت الحرب عشرات الآلاف وخلقت «أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ»، وفقاً للأمم المتحدة، ونزح أكثر من 11 مليون شخص داخلياً، ولجأ نحو 3 ملايين لبلدان الجوار، ويواجه نحو 25 مليون شخص أكثر من نصف سكان البلاد، البالغ عددهم 45 مليوناً، حالة من «انعدام الأمن الغذائي الحاد».

أطراف الحرب لا يزالون يرفضون العودة للتفاوض، فمنذ فشل «إعلان جدة الإنساني»، فشلت محاولات إعادة الطرفين للتفاوض؛ لتعنُّت الجيش وأنصاره.

سيناريوهات

يرجع عضو مجلس السيادة السابق، ونائب رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» الهادي إدريس، اندلاع الحروب في السودان إلى عدم الاتفاق على «مشروع وطني نهضوي» لحكم البلاد منذ الاستقلال.

ويقول إدريس، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأسباب الرئيسية لحروب السودان هي الفشل في إنفاذ برامج تنمية متوازنة، وتحقيق العدالة، وسيادة ثقافة الإفلات من العقاب، وعدم حسم القضايا الاستراتيجية مثل علاقة الدين بالدولة، والهوية الوطنية، وقضية الجيش الواحد وابتعاده عن السياسة.

ويرى إدريس أن العودة إلى «جذور الأزمة» مدخل صحيح لجعل «الحرب الحالية» آخِر الحروب. ويضيف: «علينا معالجة أسباب وجذور الحروب، في الاتفاق المقبل لإيقاف وإنهاء الحروب».

أما القيادي في «التجمع الاتحادي» محمد عبد الحكم فيرى أن جذور الحروب تتمحور حول «التنمية المتوازنة والمواطنة المتوازنة». ويضيف: «يظل عدم معالجة التهميش والتنمية المتوازنة وحفظ حقوق الشعوب، وتغيير الأنظمة الاستبدادية المتسلطة، بحكم ديمقراطي تعددي، أُسّاً لنشوبِ أعتى وأطول الحروب السودانية».

ويرهن عبد الحكم إنهاء الأزمات المتتالية في السودان بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، عن طريق تكوين جيش مهني قومي موحد بـ«عقيدة قتالية» تُلزمه بحماية الدستور والنظام المدني، وتُخضعه للسلطة التشريعية والتنفيذية، وتُعلي قيم المحاسبة وردع محاولات تسييس الجيش.