صراعات الإسلامويين المتشددين البينية المفتوحة.. محاولة تفسيرية

السجالات والمخالفات تشكل أكثر من 70 % من مجموع أعمالهم

صراعات الإسلامويين المتشددين البينية المفتوحة.. محاولة تفسيرية
TT

صراعات الإسلامويين المتشددين البينية المفتوحة.. محاولة تفسيرية

صراعات الإسلامويين المتشددين البينية المفتوحة.. محاولة تفسيرية

تمثل الصراعات النظرية والسجالية لمن يصفون أنفسهم بـ«الإسلاميين» و«الجهاديين» أكثر من 70 في المائة من مجموع مؤلفاتهم ومضامين وغايات خطاباتهم تقريبًا، وتسير معهم، منذ وثائقهم التأسيسية حتى سجالاتهم المتتالية والمستمرة. ونلمحها صراعات نظرية دائمة وعملية وقتالية أحيانا، قد يبدأ من التخطئة النظرية والاتهام في العقيدة والذمة، تخوينًا وتكفيرًا، حتى التصفية العملية والاغتيال المادي، فضلا عن المعنوي، وتنذر حال انتصار واحدها باشتعال الصراع بين جميعها، حيث سنة الاختلاف ومفهومه واتساعه ظل واستمر هشًا في إطار الفرقة الناجية التي تنفي آخريها. وتتبدى الصراعات على المستوى النظري تحت لافتات «الوسط والرشادة» كما تحتكر وصف «النجاة والاصطفاء»، ودعوى «التوجهات الصحيحة» بينما مخالفوها أدعياؤها. ومن هنا كتب منظّروها في تعديل أنصارهم وجرح مخالفيهم، فكانت مراسلات ومطويات أسامة بن لادن في نقد علماء المملكة العربية السعودية، وكتب آخر تحت عنوان «أدعياء السلفية» وأبو قتادة الفلسطيني عن «الجرح والتعديل» الذي انتقد فيه شيوخ «السلفية العلمية» ووصفهم بأنهم «مُرجئة العصر»، وكتب المقدسي عن أن «الديمقراطية دين يكفر من يؤمن به» وكتب أخيرا المنظر الداعشي أبو الحسن الأزدي عن «السرورية فصام يولد الانشطار» في نقد تيارها، وهكذا تتم التصفيات نظريًا وعمليًا بين مختلف الحركات المتطرفة التي تطلق على نفسها مسميات إسلاموية وجهادية على السواء.
«قتل الأب» هذه الأسطورة الفرويدية صحيحة تمامًا في قراءة صراعات «الإسلامويين المتشددين» واختلافاتهم، حيث يكون احتكار الشرعية وأحاديتها سمة كل جماعة في وجه مخالفيها وآخريها، وخصوصا الأقربين منها والأشباه بها المنافسين لها في تصور الشرعية وجاذبية الجماهير والتجنيد.
إنها فرضية مثيرة، كلما كان الاقتراب والتنافس داخل المجال الأصولي والديني المنهجي نفسه، ازدادت الكراهية والنفور والتشويه المتبادل بين عناصره، ويعتبر كل منها الانشقاق عنه أو الاختلاف معه ومع قادته خيانة وإعاقة لمشروعه، تستحق البتر في الغالب.
يعد كتاب أبو بكر ناجي «الخونة: أخسّ صفقة في تاريخ الحركة الإسلامية» - وهو نفسه صاحب كتاب «إدارة التوحش» المتأخر عن السابق - نموذجًا واضحًا ودالاً على فعالية منطق التخوين بين هذه الجماعات. ولقد عرض فيه لما يراه «خيانات» جماعات وحركات مختلفة، تبدأ من «النهضة» في تونس و«الإخوان المسلمين» وتصل إلى «الجماعة الإسلامية المصرية» وجماعات «السلفية الإصلاحية والعلمية» وشخصيات مثل فوزي السعيد وقلب الدين حكمتيار وعبد رب الرسول سياف ومفكّرين وأفراد ورجال دين كثر، من مختلف بلدان العالم الإسلامي، كلهم متهمون بتهمة واحدة تستحق العقاب هي «الخيانة».
هكذا حاول منذ وقت مبكر محمد عبد السلام فرج في «الفريضة الغائبة» حين سفّه كل الأطروحات الإسلامية الأخرى، مختزلاّ التوحيد في «الجهاد»، والجهاد في «القتال»، باحثًا عن «دار الإسلام» وفق فتوى التتار التي نقلها خطأ.
وحسب شهادة أيمن الظواهري نفسه في رسالته «التبرئة في الرد على وثيقة الترشيد» لسيد إمام، ذكر أن المنتقد في كتابه الجامع «دستور جماعة الجهاد» قد كفّر جماعات كـ«الإخوان المسلمين» و«الجماعة الإسلامية المصرية». ومن هنا كان تدخله وجماعته في الحذف قبل النشر، وهو ما أغضب عبد القادر بن عبد العزيز وقطع العلاقة بينهما كما ذكر كل منهما.
يسيطر تصوّر «الفرقة الناجية»، ووصف «الطائفة المنصورة»، على كل جماعة وحركة متشددة وتحتكره دون سواها من الجماعات والحركات الأخرى. وفي أقل نبراته تكتفي بوصف أنها «الأمة الوسط» أو«الجماعة الرشيدة»، مقيمة حدها الفاصل بينها كقاعدة وطليعة منتصرة - بوعد الله وبين المنحرفين والمضلين والمثبطين والمتساقطين من سواها أو ممّن يخرج عليها.
وعلى الرغم من أن هدف «الدولة الإسلامية» أو «تطبيق الشريعة» أو «استعادة الخلافة» شعارات معلنة بين مختلف المتشددين، فإن كلاً منهم يحتكرها لنفسه، وينذر انتصار أحدها بصراع جديد مع آخريها، حيث التصفية والصراع المؤبد بين ممثليها دائمًا، وضرورة الإذعان والخضوع للمتغلب منها وهو ما لا يحدث بالغالب، ويبقى الصراع مفتوحًا.
وانطلاقا من تمثل وتقمص كل منها لـ«الطائفة المنصورة» و«الجماعة الرشيدة» يبدأ مسلسل اختزال الصحة، إسلامًا وشرعًا وجهادًا، في الجماعة، ثم تشخصن في قادتها وأميرها، ومن ثم يكون أدنى نقد لها - أو لهم - خروجا عن الإسلام والشرع، وخيانة لدين الله وأمانته، يستحق القتل أحيانا، متى كانوا في ساحة جهاد. وهذا ما فعله كان أبرز نموذج له الجزائري عنتر الزوابري (1970 - 2002) أمير «الجماعة الإسلامية المسلحة» الذي قتل ذات مساء من خريف عام 1995 نحو 500 عنصر معه بقيادة الشيخ الدكتور محمد السعيد (بلقاسم الوناسي) زعيم تيار «الجزأرة» المعتدل والتقريبي، حين نحا الأخير نحو المصالحة ومال إليها مع الدولة والنظام الجزائري، فكان جوابه التضحية به والخمسمائة الذين كانوا معه!
بل إن هذا «الأمير»، أي الزوابري، لم يتحمّل خلاف مجموعة من عناصر «القاعدة» و«الجماعة الإسلامية المقاتلة» الليبية الذين جاءوا نصرة له من ليبيا بأمر من الظواهري و«القاعدة»، فقتلهم جميعًا ولم يعد منهم أحد. وكان عددهم خمسة عشر عنصرا، وهو ما كان دافعًا لانقلاب مَن أيّدوه عليه فيما بعد، شأن المتشدد أبي قتادة الفلسطيني.
بعد وصول حماس للسلطة وسيطرتها على قطاع غزة بوقت قصير، أعلنت جماعة «جند أنصار الله» بقيادة الطبيب عبد اللطيف موسى المشهور بـ«أبو النور المقدسي» إمارة دينية في شرق غزة، فلم يكن إلا قتله وقتل من معه في مسجد ابن تيمية يوم 15 أغسطس (آب) 2009. وهو ما انتقده المنظرون المتشددون قائلين بتكفير حماس، التي لا تعلن كفرها بالديمقراطية، وتشبه في ردتها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان والقائلين بـ«علمانية النظام الإسلامي»، كما ذكر أبو محمد المقدسي في رثائه لجماعة «جند أنصار الله» في هذا التاريخ.
وتشتعل لغة الخلاف والصراع مع ازدياد راديكالية الجماعة، حيث لا يجوز - وفق تصورها وأدبياتها - الخروج والانشقاق كما لا يجوز فيها الاختلاف أو المنافسة، فحينئذ لا جزاء إلا القتل، حكمًا أو اغتيالاً.
هكذا فعل أبو بكر البغدادي مع أستاذه ومعلمه السابق الشيخ محمد حردان العيساوي (أبو عبد الله محمد المنصور) أمير «جيش المجاهدين في العراق» الذي كان قتله واغتياله أول أمرٍ أَمَر به البغدادي جنوده وقواده في سوريا بعد دخولهم إليها! وهو ما يبرر له الكاتب الداعشي صلاح الدين عمر بـ«الخيانة»، إذ يقول ملوّحًا بخيانته ومتهمًا لذمته، وهو من تلقى عنه البغدادي بعض دروس الفقه. كما كان أول من استضاف الزرقاوي في العراق وعرّفه على سائر المتشددين فيها بعد دخوله إليه عام 2003، لكنه في النهاية صار «خائنًا» و«عميلاً للأميركان» لمجرّد اتهامه للبغدادي بعدم العلم وعدم الأهلية للقيادة.
وحسب الكاتب الداعشي: «لقد اعتقلت القوات الأميركية محمد حردان العيساوي - المُكنّى أيضًا بأبي سعيد العراقي - عام 2006 م، وهو من طلبة العلم المتقدمين، بل لعله من أعلم أهل العراق، وهو الأمير العام لـ«جيش المجاهدين في العراق» وكان المسؤول عن خطف أعداد كبيرة جدًا من الصحافيين والأجانب في العراق. ثم قامت بإطلاق سراحه بعد سنة وشهرين تقريبا من اعتقاله فقط (!!)، علما بأن الآلاف من البسطاء الذين اعتقلتهم القوات الأميركية لم يطلق سراحهم إلا بعد ثلاث أو أربع سنوات! فكيف تم إطلاق سراح الأمير العام لجيش المجاهدين بعد سنة واحدة فقط؟من حقنا أن نسال هذا السؤال. لكن كما يقال إذا عُرف السبب بطل العجب، فما إن خرج الرجل من السجن حتى راح يُنَظِّر ضد تنظيم «القاعدة» وضد «داعش» وألّف بعد خروجه من السجن مباشرة أربعة كتب كلها موجهة ضد «الجهاد» و«المجاهدين» على شكل فتاوى ونصائح باردة للمجاهدين هي «أبرد من نصائحك وتوجيهاتك» والكلام لا يزال للكاتب الداعشي.
الذي يتابع: «والعجيب أنه بعد خروجه من السجن استقر به المقام في سوريا. استقر هناك مرحبًا به من قبل الحكومة السورية منذ عام 2007 ولم يخرج من سوريا إلا بعد بدء العمل الجهادي فيها!!! علما أن المعتقل مع محمد حردان في نفس القضية لا يزال ولحد الآن ومنذ تسع سنوات معتقلاً عند الحكومة العراقية حيث سلمه الأميركان لهم بعد خروجهم من العراق. فكيف يطلق سراح الأمير ويبقى الجندي في الاعتقال؟ أليس من حقنا أن نسال هذا السؤال؟». وهو ما ردده أيضًا كثير من أنصار «داعش» مثل جرير الحسيني وغيره، في شهادته على محمد حردان الذي قتل بعد ذلك.
أيضًا، فعلها «داعش» مع أبو خالد السوري الذي يصفه المنظر الداعشي صلاح الدين عمر بقوله: «أخطأ الرجل بانضمامه إلى (تنظيم) أحرار الشام، وهي جماعة ليست إسلامية، وهذا ليس قولنا نحن فقط وإنما هو قول الآخرين من المحللين السياسيين والمتابعين للشأن السوري». ويستشهد عمر بمن ينفي عن هذه الجماعة «الإسلامية» ناقلاً عنه قوله: «أما تنظيمات الجبهة الإسلامية ومنها أحرار الشام والجيش الحر فجهادها وطني، سقفها وطني، محدود بإطار وطني، حتى تشخيص الصراع عندها محدود ضمن إطار وطني».
ثم أن الوطنية صنم عند «الدواعش» و«القاعدة»، تدخل في الإيمان بالطاغوت عند جميع تيارات التشدد، ويمكن أن تكون سندا للتكفير. ويضيف هذا الكاتب في تبرئة قتل أبي خالد السوري من قبل «داعش» قوله ورده على أبي محمد المقدسي: «الدولة الإسلامية لم تكن بدعا في قتلها لأبي خالد ولبعض الأخوة في جبهة النصرة، نعم ليس الأمر جديدًا، فالتاريخ الإسلامي مليء بالصراعات بين المسلمين. ألم يفلق علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وجيشه رؤوس الآلاف - أي نعم الآلاف - من المسلمين من جيش معاوية؟!! ألم يفلق معاوية - رضي الله عنه - وجيشه رؤوس الآلاف من جيش علي؟!! ألم يفلقوا رأس عمار - رضي الله عنه - ؟!! أليست هذه دماءٌ معصومة؟ حتى إذا رشح المسلمون حكمين ليوقفوا سفك الدماء المعصومة إذ بأحدهما لا يفعل ما اتفق عليه مع صاحبه ويتسبب في مصيبة جديدة للمسلمين، وكلنا اليوم لا يسعنا إلا أن نترضى عن علي ومعاوية وعلى الحكمين، لماذا؟ لأن هذه السيئات مهما عظمت، فإنها تضيع في بحار حسناتهم. ألم يفلق قطز رؤوس العشرات من المماليك البحرية من المسلمين من أتباع الظاهر بيبرس؟ ألم يفلق الظاهر بيبرس رأس الأمير المنتصر قطز مباشرةً بعد عودته من انتصاره العظيم في عين جالوت؟ إن الصراع بين المسلمين وقتل بعضهم بعضًا يملأ صفحات التاريخ الإسلامي، ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو مكابر».



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟